الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
246-
خطبة الحسين:
فحمد الله، وصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
"أما بعد يا معاوية، فلن يؤدي القائل -وإن أطنب- في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جميعٍ جزءًا، قد فهمتُ ما ألبستَ1 به الخلفَ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من إيجاز الصفة، والتَّنَكُّبِ عن استبلاغ البيعة، وهيهاتَ هيهاتَ يا معاوية! فضحَ الصبحُ فحمةَ الدُّجَى، وبهرتِ2 الشمسُ أنوارَ السرج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد، من اكتماله وسياسته لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوبًا، أو تنعت غائبًا، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه3 الكلاب المتهارشة4 عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات5 ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرًا، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور، وحَنَقًا في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضةٌ، فتقدِم على عمل محفوظ. في يوم مشهود، ولاتَ حين مناصٍ، ورأيتك عَرَّضْتَ بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثًا، ولقد -لعمر الله- أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام
1 ألبسه: غطاه.
2 يقال: بهر القمر كمنع: غلب ضوءه الكواكب، والسرج جمع سراج: وهو المصباح.
3 استقراء الأشياء: تتبع أفرادها.
4 المهارشة: تحريش بعضها على بعض.
5 جمع قينة: وهي الجارية المغنية أو أعم، والمعازف: الآلات التي يضرب بها كالعود، جمع معزف كمنبر.
ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول عليه الصلاة والسلام، فأذعن للحجة بذلك، ورده الإيمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية، من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك1، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأميره له، وقد كان ذلك، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة، بصحبة الرسول وبيعته له وما صار لعمرٍو يومئذ حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه وعدُّوا عليه أفعاله، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا جرم2 معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري". فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحوال، وأولاها بالمجتمَعِ عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعًا، وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، وتتخطاهم إلى مسرفٍ مفتونٍ؟ تريد أن تلبس الناس شبهة، يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك، إن هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم".
فنظر معاوية إلى ابن عباس، فقال: ما هذا يابن عباس، ولما عندك أدهى وأمرّ! فقال ابن عباس: لعمر الله، إنها لذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد أصحاب الكساء3، ومن البيت المطهر، فالْهَ عما تريد، فإن لك في الناس مقنعًا، حتى يحكم الله بأمره، وهو خير الحاكمين، فقال معاوية: أعود4 الحلم التحلم، وخيرُه التحلمُ عن الأهل، انصرفا في حفظ الله.
ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، فجلسوا.
1 مسهل عن هنأ، يقال: هنأه الطعام: إذا ساغ ولذ، أي فهنيئًا لك ما نلت من الخلافة.
2 لا جرم: قال الفراء "هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقًّا، فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب بها عن القسم، ألا تراهم يقولون: "لا جرم لآتينك".
3 انظر ص32.
4 أعود: أنفع، والعائدة: المنفعة.
247-
خطبة معاوية:
فحمد الله، وأثنى عليه معاوية، ثم قال:
"يا عبد الله بن عمر: قد كنت تحدثنا أنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وأن لك الدنيا وما فيها، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملئهم1، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وَكَّدَ الناسُ بيعتهم في أعناقهم. وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم". ثم سكت.
1 الملأ: الجماعة.
248-
خطبة عبد الله بن عمر:
فتكلم عبد الله بن عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: يا معاوية، لقد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدًا، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم، وأنت تحذرني أن أشق عصا المسلمين، وأفرق مَلأهم، وأسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس، فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد".
فقال معاوية: يرحمك الله، ليس عندك خلاف، ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر، فقال له عبد الرحمن: إنك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنها شورى، أو لأعيدنها جَذَعَة، ثم قام ليخرج، فتعلق معاوية بطرف ردائه، ثم قال: على رسلك
اللهم اكفنيه بما شئت، لا تظهرن لأهل الشام، فإني أخشى عليك منهم، ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثم قال له: أنت ثعلب رواغ، كلما خرجت من جحر انجحرت1 في آخر، أنت أَلَّبْتَ2 هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه.
فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع؟ أنطيعك أم نطيعه، إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه، فكثر كلامه وكلام ابن الزبير، حتى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلا قاتلا نفسك، ولكأني بك قد تخبَّطْتَ في الحبالة، ثم أمرهم بالانصراف، واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج، ثم خرج، فأمر المنادي أن ينادي في الناس، أن يجتمعوا لأمر جامع، فاجتمع الناس في المسجد، وقعد هؤلاء حول المنبر.
1 أي دخلت، جحر الضب كمنع: دخل الجحر، وجحر فلان الضب: أدخله فيه، فانجحر.
2 التأليب: التحريض والإفساد.
249-
خطبة معاوية
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر يزيد وفضله وقراءته للقرآن، ثم قال:
"يا أهل المدينة، لقد هممت ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة1 إلا بعثت إليها ببيعته، فبايع الناس جميعًا وسلموا، وأخرت المدينة بيعته، وقلتُ: بيضتُهُ2، وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة، منهم من كان أجدر أن يصلَه. ووالله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له".
فقام الحسين فقال: "والله لقد تركتَ مَن هو خيرٌ منه أبًا وأمًّا ونفسًا"! فقال معاوية: "كأنك تريد نفسك؟ " فقال الحسين: "نعم. أصلحكَ اللهُ"! فقال معاوية: "إذن أخبرك، أما قولك: خيرٌ منه أُمًّا، فلعمري أمك خيرٌ من أمه، ولو لم يكن إلا أنها امرأة من قريش، لكان نساء قريش أفضلهن، فكيف وهي ابنةُ رسول الله صلى
1 المدرة: المدينة.
2 جماعته وأصله.
الله عليه وسلم، ثم فاطمة في دينها وسابقتها؟ فأمك لعمر الله خير من أمه1، وأما أبوك فقد حاكم أباه إلى الله، فقضى لأبيه على أبيك". فقال الحسين:"حسبك جهلك، آثرت العاجل على الآجل". فقال معاوية: "وأما ما ذكرت من أنك خيرٌ من يزيدَ نفسًا، فيزيدُ والله خيرٌ لأمةِ محمدٍ منك". فقال الحسينُ: "هذا هو الإفك والزور! يزيدُ شاربُ الخمرِ، ومشتري اللهو خيرٌ مني! " فقال معاوية: "مهلا عن شتمِ ابنِ عمك؛ فإنك لو ذُكِرْتَ عنده بسوء لم يشتمك"، ثم التفتَ معاويةُ إلى الناس. وقال:
"أيها الناس: قد علمتم أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ ولم يستخلفْ أحدًا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعتُهُ بيعةَ هدًى، فَعَمِلَ بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يستخلفَ عمرَ، فعمل عمرُ بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفرٍ اختارَهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنع عمرُ ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظرًا للمسلمين، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد، لما وقع الناس فيه من الاختلاف. ونظرًا لهم بعين الإنصاف".
وروي من طريق آخر: أن معاويةَ لما خرج إلى المدينة ودنا منها، استقبله أهلها، فيهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأقبل على عبد الرحمن بن أبي بكر، فَسَبَّهُ وقال:"لا مرحبًا بك ولا أهلا"؛ فلما دخل الحسينُ عليه قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، بَدَنةٌ2 يترقرق دمُها والله مُهَرِيقُه"؛ فلما دخل ابن الزبير قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، ضبُّ تلعة3، مدخلُ رأسِه تحت ذنَبِهِ"؛ فلما دخل عبد الله بن عمر قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، وسَبَّهُ"، فقال:
1 وأم يزيد هي ميسون بنت بحدل الكلبية.
2 البدنة: من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة، للذكر والأنثى.
3 التلعة: ما ارتفع من الأرض وما انهبط منها.
"إني لست بأهل لهذه المقالة" قال: "بلى، ولما هو شرٌّ منها" فدخل معاوية المدينة وأقام بها، وخرج هؤلاء الرهط معتمرين، فلما كان وقت الحج خرج معاوية حاجًّا، فأقبل بعضهم على بعض، فقالوا: لعله قد ندم، فأقبلوا يستقبلونه، فلما دخل ابن عمر، قال:"مرحبًا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الفاروق، هاتوا لأبي عبد الرحمن دابة"، وقال لابن أبي بكر:"مرحبًا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق، هاتوا له دابة"، وقال لابن الزبير:"مرحبًا بابن حواريّ رسول الله صلى الله عله وسلم وابن عمته، هاتوا له دابة"، وقال للحسين: "مرحبًا بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب المسلمين، قربوا لأبي عبد الله دابة، وجعلت ألطافُهُ1 تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس، ويحسن إذنهم وشفاعتهم وحملهم على الدواب، وخرج حتى أتى مكة، فقضى حجة، ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدمت، وأمر بالمنبر فقرب من الكعبة، ثم أرسل إليهم، فاجتمعوا، وقال بعضهم لبعض: من يكلمه؟ فأقبلوا على الحسين فأبى، فقالوا لابن الزبير: هات، فأنت صاحبنا، قال: على أن تعطوني عهد الله أن لا أقول شيئًا إلا تابعتموني عليه، قالوا: لك ذلك، فأخذ عهودهم رجلا رجلا، فدخلوا عليه، فرحب بهم، وقال: قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وإنما أردت أن أقدمه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون، فسكتوا، فقال: أجيبوني، فسكتوا، فقال: أجيبوني، فسكتوا، فقال: لابن الزبير: هات؛ فأنت صاحبهم، قال:
1 الألطاف: جمع لطفة بالتحريك، وهي الهدية.
250-
خطبة عبد الله بن الزبير:
"نخيرك بين إحدى ثلاث، أيها أخذت فهي لك رغبة، وفيها خيار؛ إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبضه الله ولم يستخلفْ أحدًا، فرأى
المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم، وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا، وإن شئت، فما صنع عمر، جعلها شورى في ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا".
فقال معاوية: هل غير هذا؟ قال: لا، ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير، فقال معاوية: "إني أتقدم إليكم، وقد أعذرَ من أنذرَ، إني قائمٌ قائلٌ مقالة، فإياكم أن تعترضوا علي حتى أتمها، فإن صدقتُ فعليَّ صدقي، وإن كذبتُ فعليَّ كذبي، وأقسم بالله لئن ردَّ عليَّ رجلٌ منكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمتُهُ، حتى يُضرَب رأسُه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقي إلا عليها، وأمر أن يقوم على رأسِ كلِّ رجلٍ منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يردُّ بها عليه قولَه قتلاه، وخرجَ وأخرجهم معه، حتى رقِيَ المنبرَ، وحفَّ به أهلُ الشام، واجتمع الناسُ، فقام خطيبًا فقال:
251-
خطبة معاوية:
قال بعد حمد الله، والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار1، قالوا: إن حسينًا، وابن أبي بكر، وابن عمر، وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نبرم أمرًا دونهم، ولا نقضي أمرًا إلا عن مشورتهم، وإني دعوتهم، فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا، وسلموا، وأطاعوا".
قال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء؟ ائذن لنا، فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية، فقال معاوية: سبحان الله! ما أسرع الناسُ إلى قريشٍ بالشرِّ،
1 العوار: مثلثة: العيب.
وأحلى دماءهم عندهم، أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد، ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا ثم قربت رواحله، فركب ومضى، فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم: لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم. قالوا: لم نفعل. قالوا: بلى قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم؟
قالوا: خفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم.
"العقد الفريد 2: 247-157، الإمامة والسياسة 1: 121، ومروج الذهب 2: 69، والأمالي 2: 73، وذيل الأمالي ص177، وعيون الأخبار م2 ص210، 1: 95 والبيان والتبيين 1: 163-164".