الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال الحجاج: "والله لهممت أن أخلع لسانك، فأضرب به وجهك"، فقال جامع:"إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله" قال: أجل وسكن، وشغل الحجاج ببعض الأمر؛ فانسل جامع، فمر بين صفوف خيل الشام، حتى جاوز إلى خيل أهل العراق- وكان الحجاج لا يخلِطهم فأبصر كبكبة1 فيها جماعة من بكر العراق، وتميم العراق، وأزد العراق، وقيس العراق؛ فلما رأوه اشرأبوا إليه، وبلغهم خروجه، فقالوا له: ما عندك؟ دافع الله لنا عن نفسك، فقال: ويحكم! عموه بالخلع كما يعمكم بالعدواة، ودعوا التعاديَ ما عاداكم؛ فإذا ظفرتم به تراجعتم وتعاقبتم، أيها التميمي: هو أعدى لك من الأزدي، وأيها القيسي: هو أعدى لك من التغلبي، وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم؟ " وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، فاستجار بزفر بن الحارث.
"البيان والتبيين 2: 68، والعقد الفريد 2: 151 - 1: 152، وعيون الأخبار م2 ص: 212، وزهر الآداب 3: 230".
1 الكبكبة: الجماعة.
392-
ليلى الأخيلية والحجاج:
عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص قال:
كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد بن العاص إذا دخل على الحجاج، فدخل يومًا، فدخلت إليهما، وليس عند الحجاج أحد إلا عنبسة، فأقعدني، فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئًا فجاءني به، ثم جيء بطبق آخر، حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يأتون بشيء إلا جاءني منه بشيء، حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهما، ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال له الحجاج: أدخلها، فدخلت؛ فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه، حتى ظننت أن ذقنه قد أصاب الأرض، فجاءت حتى قعدت
بين يديه، فنظرت فإذا امرأة قد أسنت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية؛ فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى، ما أتى بك؟ فقالت:"إخلاف النجوم1، وقالة الغيوم، وكلب البرد2، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد3" فقال لها: صفي لنا الفجاج4، فقالت:"الفجاج مغبرَّة والأرض مقشعرَّة، والمبرك5 معتلّ، وذو العيال مختلّ6، والهالك للقلّ7، والناس مسنتون8، رحمة الله يرجون، أصابتنا سنون مجحفة مبلطة9، لم تدع لنا هبعًا ولا ربعًا10، ولا عافطة ولا نافطة11، أذهبتِ الأموال، ومزقتِ الرجال، وأهلكتِ العيال"، ثم قالت: إني قلتُ في الأمير قولًا، قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحجاجُ لا يفلل سلاحك، إنها الـ
…
منايا بكف الله حيث تراها12
أحجاجُ لا تعطِ العصاة مناهم
…
ولا الله يعطي للعصاة مناها
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة
…
تنبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها
…
غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله
…
دماء رجال حيث مال حشاها13
1 أي أخلفت النجوم التي يكون بها المطر؛ فلم تأت بمطر.
2 كلب البرد: شدته، وأصل الكلب: السعار "بالضم" الذي يصيب الكلاب والذئاب.
3 الرفد "بالفتح": المعونة، مصدر رفده كضربه: أعانه وأعطاه، وبالكسر: العطاء والصلة.
4 الفجاج: بالفتح، وهو الطريق الواسع بين جبلين.
5 أرادت به الإبل الباركة فيه.
6 مختل: محتاج من الخلة بالفتح وهي الحاجة.
7 القل: أي هالك من أجل القلة.
8 أي مقحطون، والسنة: القحط.
9 مجحفة: قاشرة، ومبلطة: ملزقة بالبلاط، والبلاط: الأرض الملساء، والحجارة التي تفرش في الدار، وأبلط الرجل فهو مبلط: إذا لزق بالأرض.
10 الهيع: الفصيل ينتج في الصيف "في آخر النتاج" والربع: الفصيل ينتج في الربيع "وهو أول النتاج".
11العافطة: الضائنة "النعجة"، من العفط، وهو الضرط، عفطت كضرب، ضرطت، فهي عافطة، والعفط أيضًا: نثير الضأن، تنثر بأنوفها كما ينثر الحمار، والنافطة العنز، من النفط، نفطت العنز كضرب نثرت بأنفها، أو عطست، فهي نافطة، أو لأنها تنفط ببولها أي تدفعه دفعًا، أو النافطة إتباع العافطة، أو العافطة الأمة الراعية، والنافطة الشاة.
12 السلاح مذكر ويؤنث كما في هذا البيت.
13 السجال: جمع سجل كشمس، وهو الدلو العظيمة.
إذا سمع الحجاج رز كتيبة
…
أعد لها قبل النزول قراها1
أعد لها مسمومة فارسية
…
بأيدي رجال يحلبون صراها2
فما ولد الأبكار والعون مثله
…
ببحر ولا أرض يجفء ثراها3
قال: فلما قالت هذا البيت، قال الحجاج: قاتلها الله! والله ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد، فقال: والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبدًا، ثم التفت إليها فقال: حسبك! قالت: إني قد قلت أكثر من هذا قال: حسبك ويحك! حسبك، ثم قال: يا غلام اذهب إلى فلان قل له: اقطع لسانها، فذهب بها، فقال له: يقول لك الأمير: اقطع لسانها، فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه، فقالت: ثكتك أمك! أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة، فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضبًا، وهم بقطع لسانه، وقال: ارددها؛ فلما دخلت عليه، قالت: كاد وأمانة الله يقطع مِقْوَلِي! ثم أنشأت تقول:
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد
…
إلا الخليفة والمستغفَرُ الصَّمَدُ4
حجاجُ أنت شهاب الحرب إن لقحت
…
وأنت للناس نورٌ في الدجَى يَقِدُ5
ثم أقبل الحجاج على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير؛ إلا أنا لم نر قط أفصح لسانًا، ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجهًا، ولا أرصن شعرًا منها، فقال: هذه ليلي الأخيلية، والتي مات توبةُ الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، قالت: نعم أيها الأمير هو الذي يقول:
وهل تبكِيَنْ ليلى إذا متُّ قبلها
…
وقام على قبري النساءُ النوائح؟
1 الرز: الصوت تسمعه من بعيد.
2 الصرى: بقية اللبن.
3 العون جمع عوان كسحاب، وهي التى كان لها زوج.
4 الصمد: الذى يصمد أي يقصد في قضاء الحوائج.
5 لقحت: أصله من لقحت الناقة أي قبلت اللقاح، والشهاب: شعلة من نار ساطعة، ويقد يتوقد.
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها
…
وجاد لها دمع من العين سافح1
وأغبط من ليلى بما لا أناله
…
بلى كل ما قرت به العين طائح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت
…
علي ودوني جندل وصفائح2
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا
…
إليها صدى من جانب القبر صائح3
فقال: زيدينا من شعره يا ليلى، قالت: هو الذي يقول:
حمامة بطن الوادييْن ترنمي
…
سقاك من الغر الغوادي مطيرها4
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما
…
ولا زلت في خضراء غض نضيرها
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت
…
فقد رابني منها الغداة سفورها
وقد رابني منها صدود رأيته
…
وإعراضها عن حاجتي وبسورها5
وأشرِفُ بالقور اليفاع لعلني
…
أرى نار ليلى أو يراني بصيرها6
يقول رجال: لا يضيرك نأيها
…
بلى، كل ما شف النفوس يضيرها
بلى، قد يضير العين أن تكثر البكا
…
ويمنع منها نومها وسرورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
…
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقال الحجاج: يا ليلى، ما الذي رابه من سفورك؟ فقالت: أيها الأمير، كان يلم بي كثيرًا، فأرسل إلي يومًا: إني آتيك، وفطن الحيّ، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت عن وجهي، فعلم أن ذلك لشر، فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك!
1 سافح: منصب
2 الجندل: الحجارة، والصفائح: حجارة القبر العراض.
3 زقا: صاح، والصدى -وهو الهامة- طائر يخرج من رأس المقتول، تزعم الأعراب أن روح القتيل تخرج؛ فتصير هامة إذا لم يدرك بثأره؛ فتصيح على قبره: اسقوني اسقوني حتى يُثأر به، وهذا مثل يراد به تحريض ولي القتيل على طلب دمه، فجعله جهلة الأعراب حقيقة.
4 الغوادي: جمع غادية، وهي السحابة تنشأ غدوة.
5 بسر كدخل: عبس وكلح.
6 القور: جمع قارة، وهي الجبيل الصغير، المنقطع عن الجبال، واليفاع: التل.
فهل رأيت منه شيئًا تكرهينه؟ فقالت: لا والله الذي أساله أن يصلحك، إنه قال مرة قولًا ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر؛ فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها
…
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
…
وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلا والله الذي أسأله أن يصلحك، ما رأيت منه شيئًا، حتى فرق الموت بيني وبينه، قال: ثم مه؟ قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له؛ فأوصى ابن عم له، إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:
عفا الله عنها، هل أبيتن ليلة
…
من الدهر لا يسري إلي خيالها؟
وأنا أقول:
وعنه عفا ربي وأحسن حاله
…
فعزت علينا حاجة لا ينالها
قال: ثم مه؟ قالت: ثم لم يلبث أن مات؛ فأتانا نعيُه، فقال: أنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدت:
لتبك العذارى من خفاجة نسوة
…
بماء شئون العبرة المتحدر1
قال لها: فأنشدينا، فأنشدته:
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ
…
قلائص يفصحن الحصى بالكراكر2
فلما فرغت من القصيدة، قال محصن الفقعسي: -وكان من جلساء الحجاج-
1 الشئون: جمع شأن، وهو مجرى الدمع إلى العين وكتب مصحح الأمالي قال: "قوله المتحدر كذا في النسخ، وكتب بهامش بعضها لعله المتحادر بالألف قبل الدال، لتستقيم القافية، وفي هامش بعض النسخ بعد البيت الآتي:
فتى لا تخطاه الرفاق ولا يرى
…
لقدر عيالًا دون جار مجاور"
اهـ.
2 القلائص جمع قلوص كصبور، وهي الناقة الشابة، أو الباقية على السير، يفحصن: يقلبن، من فحص المطر التراب قلبه، وفصح القطا التراب: اتخذ فيه أفحوصًا وهو مجثمه، والكراكر: جمع كركرة بالكسر، وهي زور البعير.