الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العافية، ويخاف من سوء عاقبة الدار، والدنيا وايم الله يا أمير المؤمنين حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام، وإني قائل لك يا أمير المؤمنين ما قال الحكيم:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
…
وإلا فإني لا إخالك ناجيا"
ولما وصل كتابه إلى عمر، بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده، وقال:
يرحم الله الحسن؛ فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة، وينبهنا من الغفلة، ولله هو من مشفق ما أنصحه! وواعظ ما أصدقه وأفصحه!.
"الحسن البصري لابن الجوزي ص54، وسيرة ابن عبد العزيز لابن الجوزي ص121".
474-
كلمات حكيمة للحسن البصري:
وقال: احذر من نقل إليك حديث غيرك، فإنه سينقل إلى غيرك حديثك.
أيها الناس: إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، الصبر صبران: صبر عند المصيبة، وصبر عن المعصية، فمن قدر على ذلك فقد نال أفضل الصبرين. أفضل الجهاد جهاد الهوى لا تكن ممن يجمع علم العلماء وحِكَم الحكماء ويجري في الحق مجرى السفهاء، من خاف الله أخاف الله سبحانه منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء، لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت، والمرض، والفقر، وإنه بعد ذلك لوثاب. احذروا العابد الجاهل، والعالم الفاسق، فإن فيهما فتنة لكل مفتون. ترك الخطيئة أهون من معالجة التوبة. لا تكن شاة الراعي أعقل منك، تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة. المؤمن تلقاه الزمانَ بعد الزمان، بأمر واحد، ووجه واحد، ونصيحة واحدة، وإنما يتبدل المنافق ليستأكل كل قوم. المؤمن صدق قوله فعله، وسره علانيته، ومشهده مغيبه. لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت الفكرة من عمله
والذكر من شأنه، والمحاسبة من همته، ولا يزال بشر ما استعمل التسويف، واتبع الهوى، وأكثر الغفلة، ورجح في الأماني، الحق مر لا يصبر عليه إلا من عرف حسن العاقبة، ومن رجا الثواب خاف العقاب، حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور1، واقدعوا2 هذه النفوس، فإنها طلعة3، وإنكم إلا تزعوها4 تنزع بكم إلى شر غاية، يابن آدم: نهارك ضيفك، فأحسن إليه؛ فإنك إن أحسنت إليه ارتحل يحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل يذمك، وكذلك ليلك، إنما أنت أيها الإنسان عدد، فإذا مضى لك يوم فقد مضى بعضك، وقيل له: يا أبا سعيد من أشد الناس صراخًا يوم القيامة؟ فقال: رجل رزق نعمة، فاستعان بها على معصية الله، وكان يقول: لو قمت الليل حتى ينحني ظهرك، وصمت النهار حتى يسقم جسمك، لم ينفعك ذلك إلا بورع صادق.
وسمع رجلا يكثر الكلام، فقال: يابن أخي أمسك عليك لسانك فقد قيل: ما شيء أحق بسجن من لسان. وكان يقول: لو لم يكن من شؤم الشراب إلا أنه جاء إلى أحب خلق الله إلى الله فأفسده، لكان ينبغي للعاقل أن يتركه "يعني العقل" ويقول: ما أطال أحد الأمل إلا أساء العمل، وما أساء العمل إلا ذلَّ.
وقال: "يا عجبا لقوم قد أمروا بالزاد، وأوذنوا بالرحيل، وأقام أولهم على آخرهم، فليت شعري! ما الذي ينتظرون؟ وقال: اجعل الدنيا كالقنطرة: تجوز عليها، ولا تعمرها، وقال: ليس العجب ممن عطب كيف عطب، إنما العجب ممن نجا كيف نجا"، وقال:"من أخلاق المؤمن قوة في دين، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، ورحمة للمجهود، وإعطاء في حق، وبر في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال".
"الحسن البصري لابن الجوزي في مواضع متفرقة، والبيان والتبيين 3: 76-83، أمالي السيد المرتضى 1: 110-11. وتهذيب الكامل 1: 29. وزهر الآداب 1: 178، 2: 205".
1 دثور القلوب: امحاء الذكر منها.
2 كفوها واكبحوها.
3 نفس طلعة: تكثر التطلع إلى الشيء، وفي رواية:"فإنها طامحة".
4 وزعه كوضع: كفه، وفي رواية:"ممنعوها".
475-
خطبة واصل بن عطاء 1 المنزوعة الراء:
الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يئوده2 حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعدله اصطناعا، فأحسن كل شيء خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب3 لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته، وذلَّ كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لا يعزب عنه مثقال حبة، وهو السميع العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، إلها تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، وعلا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبيه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعصَى فيحلم، ويدعى فيسمع، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصحة طوية، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخالصته4 وصفيه، ابتثعه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق، فبلغ مألكته5، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضيا على سنته، موفيا على قصده، حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد، وعلى آل محمد
1 هو أبو حذيفة واصل بن عطاء شيخ المعتزلين، وأحد الأئمة المتكلمين، وكان يلثغ بالراء، يجعلها غينا، فاستطاع بمهارته أن يخلص منها كلامه، خطب يوما عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق سنة 126 شبيب بن شيبة، وخالد بن صفوان، والفضل بن عيسى، ثم قفاهم واصل، فارتجل هذه الخطبة وعراها من حرف الراء، وأبدع في القول:
ففضل عبد الله خطبة واصل
…
وضوعف في قسم الصلات له الشكد
"والشكد بالضم: العطاء" وتوفي واصل سنة 131هـ.
2 يثقله، آده أودا "كنصر" بلغ منه المجهود.
3 لا راد له.
4 هذ الشيء خالصة لك: أي خاصة.
5 المألكة: بضم اللام وتفتح: الرسالة.
أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، وأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومدة إلى حين، وكل شيء منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت من جنح إليها، واعتمد عليها! أذاقتهم حلوًا، ومزجت لهم سُمًّا، أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد، قبضتهم بمحملها1، وطحنتهم بكلكلها2، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العزة ذلا، ومن الحياة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لهم نبسا، فتزودوا عافاكم الله، فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين، كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فأنصتوا له، واسمعوا لعلكم تفلحون، أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، ثم قال:
1 المحمل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان، والمراد احتوت عليهم.
2 الكلكل: الصدر.