الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منكم، وأستعينه عليكم، وقد أمرنا لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك".
"الأمالي 1: 240، والعقد الفريد 2: 159-81، والبيان والتبيين 3: 230".
210-
خطبته في علته التي مات فيها:
ولما اشتكى شكاته التي مات فيها تحامل إلى المنبر، فقال:
"يأهل مصر لا غنى عن الرب، ولا مهرب من ذنب، إنه قد تقدمت مني إليكم عقوبات كنت أرجو يومئذ الأجر فيها، وأنا أخاف اليوم الوزر منها، فليتني لا أكون اخترت دنياي على معادي، فأصلحتكم بفسادي، وأنا أستغفر الله منكم، وأتوب إليه فيكم، فقد خفت ما كنت أرجو نفعًا عليه، ورجوت ما كنت أخاف اغتيالا به، وقد شقي من هلك بين رحمة الله وعفوه، والسلام عليكم، سلام من لا ترونه عائدًا إليكم"، فلم يعد.
"العقد الفريد 2: 159".
211
وصيته لمؤدب ولده:
وقال لعبد الصمد مؤدب ولده:
"ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه، فيملوه، ولا تتركهم منه، فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، وتَهَدَّدْهُمْ بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء، وجنبهم محادثة النساء، وروهم سير الحكماء، واستزدني
بزيادتك إياهم أزدك، وإياك أن تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك، وزد في تأديبهم أزدك في برِّي إن شاء الله تعالى".
"البيان والتبيين 2: 35، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1: 139".
212-
وصية سعيد بن العاص 1 لبنيه:
لما ولد لسعيد بن العاص ابنه عمرو وترعرع2، تفرس فيه النجابة، وكان يفضله على ولده، فجمع بنيه، وكانوا يومئذ أكثر من خمسة عشر رجلا، ولم يدع عمرا معهم، وقال:
"يا بني، قد عرفتم خبرة الوالد بولده، وإن أخاكم عمرًا، لذو همة واعدة3، يسمو جده، ويبعد صيته4، وتشتد شكيمته5، وإني آمركم إن نزل بي من الموت ما لا محيص عنه، أن تظاهروه وتؤازروه وتعزروه، فإنكم إن فعلتم ذلك يتألف بكم الكرام، ويخسأ6 عنكم اللئام، ويلبسكم عزًّا لا تنهجه7 الأيام".
فقالوا جميعا: "إنك تؤثره علينا، وتحابيه دوننا" فقال: "سأوريكم ما ستره
1 هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقد تقدم لك أن عثمان استعمله على الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وولاه معاوية المدينة، فكان يوليه إذ عزل مروان بن الحكم عن المدينة ويولي مروان إذ عزله، ومات سنة 57 وقيل سنة 58 وقيل سنة 59هـ.
2 شب وانتقل عن حد الصغر.
3 من قولهم شجرة واعدة: إذا ظهر لرائيها أن قد حان إثمارها، وأرض واعدة: إذا رُجِي خيرها من النبت، وظهر لرائيها أن قد قرب إمكان المرعى بها، وفرس واعد: يعدك جريا بعد جري، وسحاب واعد كأنه وعد بالمطر، ويوم واعد يعد بالحر أوبالبرد أوله.
4 الصيت "بالكسر" والصات والصوت "بالفتح": الذكر الحسن.
5 الشكيمة: الأنفة، وفي اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس. وهو مثل يضرب للصرامة في الأمور والمضاء فيها.
6 أي يبعد ويطرد. من خسأ الكلب كمنع: طرده، وخسأ هو بنفسه: بَعُدَ.
7 أي لا تبليه. أنهج الثوب ونهجه "كمنعه": أخلقه وأبلاه، ونهج الثوب مثلثه الهاء، وأنهج: بلى.
البغي عنكم" وصرفهم، ثم أمهلهم حتى ظن أن قد ذهلوا عما كان، وراهق1 عمرو البلوغ، واستدعاهم دون عمرو، فلما حضروا قال: "يا بني، ألم تروا إلى أخيكم عمرو؟ فإنه لا يزال يلحف2 في مسألتي مالي، فأحش عيله3 لصغره، وَأُحَسِّبُهُ4 بالشيء دون الشيء من مالي إلى أن استثبت أن أمه باغيته5 على ذلك، فزجرتها فلم تكفف، وهذا مخرجه الآن من عندي، جاء يسألني الصمصامة6، كأن لا ولد لي غيره، وقد عزمت على أن أقسم مالي فيكم دونه، لتعلم أمه من يكيد"، فقالوا كلهم: يا أبانا هذا عملك بإيثارك له علينا، واختصاصك إياه دوننا، فقال: "يا بني، والله ما آثرته دونكم بشيء من مالي قط، ولا كان ما قلته لكم إلا اختلافا تساهلت فيه لما أملته من صلاح أمركم"، ثم قال لهم: ادخلوا المخدع7، فدخلوا المخدع، ثم أرسل إلى عمرو فأحضره، فلما حضر قال:
1 راهق الغلام: قارب الحلم "بضمتين".
2 يلح.
3 العيل والعيلة: الافتقار والفاقة، وأحش: أي أقطع وأمحو، من حش الحشيش "كرد": قطعه، وحش فلانا: أصلح من حاله، "وفي الأصل فأحسن بالنون أي اجعل فقره حسنًا وأزبل قبحه بعطائي إياه والأول أحسن".
4 حَسَّبَهُ "بالتشديد" وأحسبه: أطعمه وسقاه حتى شبع وروي.
5 بغاه الشيء: أعانه على طلبه "ولا مانع أن يكون الأصل "أن أمه باعثته على ذلك".
6 الصمصامة: سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وكان قد صار إلى سعيد بن العاص، وذلك أن خالد بن الوليد لما غزا بني زبيد حين ارتدوا، وكان خالد بن سعيد بن العاص "عم سعيد المذكور" من جملة أمرائه، أوقع بهم وأسر ريحانة أخت عمرو بن معد يكرب، ففداها خالد وأثابه عمرو الصمصامة، ولم يزل ذلك السيف عند آل سعيد بن العاص حتى اشتراه منهم الخليفة المهدي العباسي بخمسين ألف درهم، ووهبه المهدي لابنه الهادي فدعا به بعد ما ولي الخلافة، فوضعه بين يديه، وأذن للشعراء، فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا في السيف شعرًا، فبذهم ابن يامين البصري، فأعطاه الهادي السيف والجائزة، ففرقها على الشعراء، وقال: دخلتم معي، وحرمتم من أجلي، وفي السيف عوض، ثم بعث إليه الهادي، واشترى منه السيف بخمسين ألفا، ثم وصل إلى المتوكل، فدفعه إلى غلامه باغزا التركي، فقتله به، ومن عند باغزا انقطع خبره. "اقرأ خبر الصمصامة في سرح العيون، ص312، والأغاني 14: 26، وأنباء نجباء الأبناء ص103 ومروج الذهب 2: 262".
7 المخدع بضم الميم وكسرها: الخرافة -بيت صغير يحرز فيه الشيء.
"يا بني: إني عليك حدب1 مشفق، لصغر سنك، ونفاسة2 إخوتك على مكانك مني، وإني لا آمن بغتة الأجل، ولى كنز ادخرته لك دون إخوتك، وها أنا مطلعك عليه، فاكتم أمره".
فقال: "يا أبت، طال عمرك، وعلا أمرك، إني لأرجو أن يحسن الله عنك الدفاع، ويطيل بك الامتاع، فأما ما ذكرته من شأن الكنز، فما يعجبني أن أقطع دون إخوتي أمرًا، وأزرع في صدورهم غمرًا3".
فقال: "انصرف يا بني، فداك أبوك، فوالله ما لي من كنز، ولكني أردت أن أبلو رأيك في إخوتك وبني أبيك" فانطلق عمرو، وخرج إخوته من المخدع، فاعتذروا إلى أبيهم، وأعطوه موثقهم على اتباع مشورته.
"أنباء نجباء الأبناء ص100.
1 متعطف شفيق.
2 نفس عليه يخبر "كفرح" حسد، ونفس عليه الشيء نفاسة لم يره أهلا له.
3 الغمر محركة والغمر بكسر الغين: الحقد والضغن.