الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
336-
عامر الشعبي والحجاج:
وكان عامر الشعبي1 ممن خرج مع ابن الأشعث؛ فلما أتي الحجاج بأسرى الجماجم، أتي فيهم بالشعبي موثقًا -وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلى سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه- قال الشعبي: فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم كاتبه، فقال: إنا لله يا شعبي! لما بين دفتيك من العلم، وليس اليوم بيوم شفاعة. قلت له: فما المخرج؟ قال: بؤ2 للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، وبالحَرَى أن تنجوَ، ثم لقيني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد؛ فلما دخلت على الحجاج قال لي: وأنت يا شعبي ممن ألب علينا مع ابن الأشعث؟ اشهد على نفسك بالكفر. قلت: "أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل3، وأجدب بنا الجناب، واستحلَسَنا4 الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء" قال: صدقت والله ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم، خلُّوا سبيل الشيخ.
"مروج الذهب 2: 144، والعقد الفريد 1: 151-3: 12"
1 هو أبو عمرو عامر بن شراحبيل "بفتح الشين" الشعبي "نسبة إلى شعب، وهو بطن من همدان" وهو كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم، توفي سنة 105هـ، وكانت أمه من سبي جلولاء.
2 ارجع.
3 نبا منزله به: لم يوافقه.
4 أي لم يفارقنا.
ولتسبن الحجاج، أو لأضربن عنقك، قال: أيها الأمير؛ إنما أنا رسول! قال: هو ما أقول لك، فقام وخطب وخلع عبد الملك، وشتم الحجاج، وأقام هناك؛ فلما انصرف ابن الأشعث مهزومًا، كتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليهما، يأمرهم ألا يمر بهم أحد من قبل ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيرًا إليه، وأخذ ابن القرية فيمن أخذ.
فلما أدخل على الحجاج، قال: أخبرني عما أسألك؟ قال: سلني عما شئت، قال: أخبرني عن أهل العراق، قال: أعلم الناس بحق وباطل، قال: فأهل الحجاز، قال: أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم فيها، قال: فأهل الشام، قال: أطوع الناس لخلفائهم، قال: فأهل مصر، قال: عبيد لمن غلب، قال: فأهل البحرين، قال: نَبَط1 استعرَبوا، قال: فأهل عمان، قال: عَرَبٌ استنبَطُوا، قال: فأهل الموصل، قال: أشجعُ فرسان، وأقتلُ للأقران، قال: فأهل اليمن، قال: أهل سمعٍ وطاعة، ولزومٍ للجماعة، قال: فأهل اليمامة، قال: أهل جفاء، واختلاف أهواء، وأصبر عند اللقاء، قال: فأهل فارس، قال: أهل بأسٍ شديد، وشرٍّ عتيد، وريف2 كبير، وقرى يسير، قال: أخبرني عن العرب، قال: سلني، قال: قريش قال: أعظمها أحلامًا، وأكرمها مقامًا، قال: فبنو عامر بن صعصعة، قال: أطولها رماحًا وأكرمها صباحًا، قال: فبنو سليم، قال: أعظمها مجالس، وأكرمها محابس3، قال: فثقيف، قال: أكرمها جدودًا، وأكثرها وفودًا قال: فبنو زبيد، قال: أزلمها للرايات، وأدركها للترات4، قال: فقضاعة، قال: أعظمها أخطارًا، وأكرمها نجارًا5، وأبعدها آثارًا قال: فالأنصار، قال: أثبتها مقامًا، وأحسنها إسلامًا، وأكرمها أيامًا، قال: فتميم، قال: أظهرها جلدًا، وأثراها عددًا،
1 النبط: جيل من الناس، كانوا ينزلون سواد العراق.
2 الريف: أرض فيها زرع وخصب.
3 المحابس: جمع محبس كمقعه، وهو الشجاعة.
4 الترات جمع ترة: وهي الثأر.
5 النجار: الأصل.
قال: فبكر بن وائل، قال: أثبتها صفوفًا، وأحدها سيوفًا، قال: فعبد القيس، قال: أسبقها إلى الغايات، وأصبرها تحت الرايات، قال: فبنو أسد، قال: أهل عَدَ وجَلَد، وعُسْر ونَكَد، قال: فلخم، قال: ملوك، وفيهم نوك1، قال: فجذام، قال: يوقدون الحرب ويسعرونها2، ويلقحونها ثم يمرونها3، قال: فبنو الحارث قال: رعاة للقديم، وحماة عن الحريم، قال: فعكّ، قال: ليوث جاهدة، في قلوب فاسدة، قال: فتغلب، قال: يصدقون -إذا لقوا- ضربًا، ويسعرون للأعداء حربًا، قال: فغسان، قال: أكرم العرب أحسابًا، وأثبتها أنسابًا، قال: فأيّ العرب في الجاهلية كانت أمنع من أن تضام؟ قال قريش، كانوا أهل رهوة4 لا يستطاع ارتقاؤها، وهضبة لا يرام انتزاؤها5، في بلدة حمى الله ذِمارها، ومنع جارها، قال: فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية، قال: كانت العرب تقول: حِمْيَر أربابُ الملْك، وكندة لُباب الملوك، ومَذْحِج أهل الطعان، وهمدان أحلاس6 الخيل، والأزد آساد الناس، قال: فأخبرني عن الأرضين، قال: سلني، قال: الهند، قال: بحرها درّ، وجبلها ياقوت، وشجرها عُود، وورقها عِطر، وأهلها طَغَام، كقطع الحمام7، قال: فخراسان، قال: ماؤها جامد، وعدوها جاحد، قال: فعُمان، قال: حرُّها شديد، وصيدها عتيد، قال: فالبحرين، قال: كُناسة بين المصْرَين، قال: فاليمن، قال: أصل العرب، وأهل البيوتات والحسب، قال: فمكة، قال: رجالها علماء جفاة، ونساؤها كِسَاءُ عُرَاةٍ، قال: فالمدينة، قال: رسخ العلم فيها، وظهر منها، قال: فالبصرة، قال: شتاؤها جليدٌ،
1 النوك بالضم والفتح: الحمق.
2 سعر الحرب كمنع، وأسعرها: أوقدها
3 مرى الناقة كرمى: مسح ضرعها لتدر.
4 الرهوة: المكان المرتفع "والمنخفض أيضًا، ضد".
5 أي اعتلاؤها نزا نزوًا ونزوانًا: وثب، وانتزى: افتعل من النزوة، وفي حديث وائل بن حجر:"إن هذا انتزى على أرضي فأخذها".
6 كناية عن إدامتهم ركوبها.
7 الطغام: أوغاد الناس ورذال الطير، والقطع بالكسر: اسم ما قطع من الشيء، ويقال: ثوب قطع وأقطاع أي مقطوع، أو هو قُطع بالضم جمع قطيع.
وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح، قال: فالكوفة، قال: ارتفعت عن حر البحر، وسفلت عن برد الشام؛ فطاب ليلها، وكثر خيرها، قال: فواسط، قال: جنة، بين حماة وكَنَّة، قال: وما حماتها وكنتها1؟ قال: البصرة والكوفة يحْسِدانها، وما ضرّها، ودجلةُ والزابُ2 ويتجاريان بإفاضة الخير عليها، قال: فالشام، قال: عروس، بين نسوة جلوس، قال: ثكلتك أمك يابن القرِّية، لولا اتباعك لأهل العراق! وقد كنت أنهاك عنهم أن تتبعهم؛ فتأخذ من نفاقهم، ثم دعا بالسيف، وأومأ إلى السياف أن أمسك، فقال ابن القرية: ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن رَكْبٌ وُقُوف، يكنَّ مثلًا بعدِي، قال: هات، قال: لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، ولكل حليم هفوة، قال الحجاج: ليس هذا وقت المزاح، يا غلام أوجب جَرْحه، فضُرِبَ عنقه.
وقيل إنه لما أراد قتله قال له: العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العربُ، أصلح الله الأمير، قال: فا آفة الحلم؟ قال: الغضب، قال: فما آفة العقل: قال: العجب، قال: فما آفة العلم؟ قال: النسيان، قال: فما آفة السخاء؟ قال: المنّ عند البلاء3، قال: فما آفة الكرام؟ قال: مجاورة اللئام، قال فما آفة الشجاعة؟ قال: البغْي، قال: فما آفة العبادة؟ قال: الفترة، قال: فما آفة الذهن؟ قال: حديث النفس قال: فما آفة الحديث؟ قال: الكذب، قال: فما آفة المال؟ قال: سوء التدبير، قال فما آفة الكامل من الرجال؟ قال: العدم، قال: فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال: أصلح الله الأمير، لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكا فرعه، قال: امتلأت شقاقًا، وأظهرت نفاقًا، اضربوا عنقه؛ فلما رآه قتيلًا ندم، وكان قتله سنة 84هـ.
1 الكنة: امرأة الابن أو الأخ.
2 الزاب الأسفل، والزاب الأعلى: نهيران يصبان في دجلة.
3 الإبلاء: الإنعام والإحسان بلوت الرجل، وأبليت عنده بلاء حسنًا، وأبلاه الله بلاء حسنًا.