الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون صحابه
…
449-
خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه: 1
وبلغ أبا حمزة أن أهل المدينة يعيبون أصحابه، لحداثة أسنانهم، وخفة أحلامهم، فصعد المنبر، وعليه كساء غليظ، وهو متنكب قوسًا عربية، فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وآله، ثم قال:
"يا أهل المدينة، قد بلغتني مقالتكم لأصحابي، ولولا معرفتي بضعف رأيكم وقلة عقولكم، لأحسنت أدبكم، ويحكم! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الكتاب، وبين له فيه السنن، وشرع له فيه الشرائع، وبين له فيه ما يأتي وما يذر، فلم يكن يتقدم إلا بأمر الله، ولا يحجم إلا عن أمر الله، حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه وسلم، وقد أدى الذي عليه، وعلم المسلمين معالم دينهم، ولم يدعهم من أمرهم في شبهة، وولى أبا بكر صلاتهم؛ فولاه المسلمون أمر دنياهم، حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر دينهم؛ فعمل بالكتاب والسنة، وقاتل أهل الردة، وشمر في أمر الله، حتى قبضه الله إليه، والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ومغفرته، ثم ولي بعده عمر بن الخطاب فسار بسيرة صاحبه، وعمل بالكتاب والسنة، وجند الأجناد، ومصر الأمصار، وجبى الفيء، وفرض الأعطية، وشمر عن ساقه، وحسر عن ذراعه، وجلد في الخمر ثمانين، وجمع الناس في شهر رمضان2، وغزا العدو في بلادهم، وفتح المدائن والحصون، حتى قبضه الله إليه، والأمة عنه راضوان، رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته، ثم ولي من بعده عثمان بن عفان؛ فسار ست سنين بسيرة صاحبيه -وكان دونهما- ثم سار في الست الأواخر بما أحبط به الأوائل، واضطرب حبل الدين بعدها؛ فطلبها3 كل امرئ
1 روى الجاحظ أن هذه الخطبة كانت بمكة، وذكر أن اسم أبي حمزة "يحيى بن المختار".
2 أي لصلاة القيام، وفي رواية:"وقام في شهر رمضان".
3 أي الخلافة، يشير إلى تطلع طلحة والزبير إليها، وطمع معاوية فيها.
لنفسه، وأسر كل رجل منهم سريرة أبداها الله عنه، حق مضوا على ذلك، ثم ولي علي بن أبي طالب؛ فلم يبلغ من الحق قصدا، ولم يرفع له منارًا، ثم مضى لسبيله:
ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن لعينه1، وجلف من الأعراب، وبقية من الأحزاب، مؤلف طليق؛ فسفك الدم الحرام، واتخذ عباد الله خولًا2، ومال الله دولًا3، وبغى دينه عوجًا ودغلًا4، وأحل الفرج الحرام، وعمل بما يشتهيه، حتى مضى لسبيله؛ فالعنوه لعنه الله، ثم ولي بعده ابنه يزيد، يزيد الخمور، ويزيد الصقور، ويزيد الفهود، ويزيد الصيود، ويزيد القرود5،
1 انظر ص23، 24.
2 عبيدًا.
3 جمع دولة بالضم: أي متداولًا بين عشيرته دون سائر المسلمين.
4 الدغل: الفساد كالدخل.
5 روى المسعودي في مروج الذهب -ج2: ص94- قال:
"وكان يزيد صاحب طرب، وجوارح، وكلاب، وقرود؛ وفهود؛ ومنادمة على الشراب؛ وجلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد -وذلك بعد قتل الحسين- فأقبل على ساقيه، فقال:
اسقني شربة تروي مشاشي
…
ثم صل فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السر والأمانة عندي
…
ولتسديد مغنمي وجهادي
"والمشاش كغراب: النفس والطبيعة"، ثم أمر المغنين فغنوا، وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قرد يكنى بأبي قيس؛ يحضره مجلس منادمته؛ ويطرح له متكأ، وكان قردًا خبيثًا، وكان يحمله على أتان وحشية؛ قد ريضت وذلك لذلك يسرج ولجام، ويسابق بها الخيل يوم الحلبة؛ فجاء في بعض الأيام سابقًا فتناول القصبة، ودخل الحجرة قبل الخيل، وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مشهر "مخطط" وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق "أي مصبغة بمثل الشقائق" وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان فقال في ذلك بعض شعراء الشام في ذلك اليوم:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها
…
فليس عليها إن سقطت ضمان
ألا من رأى القرد الذي سبقت به
…
جياد أمير المؤمنين أتان!
وروى ابن طباطبا في الفخرى ص49 قال: "كان يزيد بن معاوية أشد الناس كلفًا بالصيد لا يزال لاهيًا به، وكان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب، والجلال المنسوجة منه "الجلال بالكسر جمع جل بالضم والفتح: ما تلبسه الدابة لتصان به" ويهب لكل كلب عبدا يخدمه، قيل إن عبيد الله بن زياد أخذ من بعض =
الفاسق في بطنه، المأبون1 في فرجه؛ فخالف القرآن، واتبع الكهان، ونادم القرد، وعمل بما يشتهيه، حتى مضى على ذلك لعنه الله، وفعل به وفعل، ثم ولى مروان بن الحكم، طريد لعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وابن لعينه، فاسق في بطنه وفرجه، فالعنوه والعنوا آباءه.
ثم تداولها بنو مروان بعده، أهل بيت اللعنة، طرداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، وقوم من الطلقاء، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا التابعين بإحسان؛ فأكلوا مال الله أكلًا، ولعبوا بدين الله لعبًا، واتخذوا عباد الله عبيدًا، يورث ذلك الأكبر منهم الأصغر، فيا لها أمة! ما أضيعها وأضعفها! والحمد لله رب العالمين، ثم مضوا على ذلك من سيء أعمالهم، واستخفافهم بكتاب الله تعالى، قد نبذوه وراء ظهورهم لعنهم الله، فالعنوهم كما يستحقون، وقد ولي منهم عمر بن عبد العزيز؛ فبلغ ولم يكد وعجز عن الذي أظهره حتى مضى لسبيله -ولم يذكره بخبر ولا شر-.
ثم ولي يزيد بن عبد الملك، غلام ضعيف سفيه، غير مأمون على شيء من أمور المسلمين، لم يبلغ أشده2، ولم يؤنس رشده، وقد قال الله عز وجل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ
= أهل الكوفة أربعمائة ألف دينار جباية وجعلها في خزائن بيت المال؛ فرحل ذلك الرجل من الكوفة، وقصد دمشق ليشكو حاله إلى يزيد، وكانت دمشق في تلك الأيام فيها سرير الملك -فلما وصل إلى ظاهر دمشق سأل عن يزيد فعرفوه أنه في الصيد، فكره أن يدخل دمشق، وليس يزيد حاضرا فيها؛ فضرب مخيمه ظاهر المدينة، وأقام به ينتظر عود يزيد من الصيد؛ فبينما هو في بعض الأيام جالس في خيمته، لم يشعر إلا بكلبة قد دخلت عليه، وفي قوائمها الأساور من الذهب، وعليها جل يساوي مبلغًا كبيرًا، وقد بلغ منها العطش والتعب، وكادت تموت، فعلم أنها ليزيد وأنها قد شذت منه، فقام إليها وقدم لها ماء وتعهدها بنفسه، فما شعر إلا بشاب حسن الصورة على فرس جميل، وعليه زي الملوك؛ وقد علته غبرة، فقام إليه، وسلم عليه، فقال له أرأيت كلبة عابرة بهذا الموضع؟ فقال: نعم يا مولانا، ها هي في الخيمة، قد شربت ماء واستراحت وقد كانت على غاية من العطش والتعب، فلما سمع يزيد كلامه نزل ودخل الخيمة، ونظر إلى الكلبة وقد استراحت، فجذب بحبلها ليخرج، فشكا الرجل إليه حاله وعرفه ما أخذ منه ابن زياد، فطلب دواة وكتب إليه برد ماله وخلعة سنية، وأخذ الكلبة وخرج، فرد الرجل من ساعته إلى الكوفة، ولم يدخل دمشق.
1 أبنه بشيء كنصر وضرب: اتهمه، فهو مأبون، بخير أو شر، فإن أطلقت فقلت مأبون فهو للشر والأبنة كعقدة: العيب.
2 بلغ أشده: أي قوته، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، وقد اختلفت المؤرخون في مقدار سن يزيد؛ فقيل إنه توفي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقيل ابن سبع وثلاثين، وكانت ولايته أربع سنين وشهرًا، والمراد أنه لم يبلغ أشده لسفهه وعكوفه على اللذات والشهوات.
مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ 1} فأمر أمة محمد في أحكامها وفروجها ودمائها أعظم عند الله من مال اليتيم، وإن كان عند الله عظيمًا، غلام مأبون في بطنه وفرجه، يشرب الحرام، ويأكل الحرام، ويلبس الحرام، يلبس بردتين قد حبكتا له، وقومنا على أهلهما بألف دينار، وأكثر وأقل، قد أخذت2 من غير حلها، وصرفت في غير وجهها، بعد أن ضربت فيها الأبشار3، وحلقت فيها الأشعار، وهتكت فيها الأستار، واستحل ما لم يحل الله لعبد صالح، ولا لنبي مرسل، ثم يجلس حبابة عن يمينه، وسلامة عن شماله، تغنيانه بمزامير الشيطان، ويشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها؛ حتى إذا أخذت منه مأخذها، خالطت روحه ولحمه ودمه، وغلبت سورتها على عقله، مزق حلتيه، ثم التفت إليهما فقال: أتأذنان لي أن أطير4؟ نعم، فطر إلى لعنة الله، وحريق ناره، وأليم عذابه، طر إلى حيث لا يردك الله.
1 الآية الكريمة في اليتامى، وأولها:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ.. ..} .
2 أي الدنانير.
3 فيها: أي في تحصيلها. والأبشار: جمع بشر، وهو جمع بشرة: ظاهر الجلد، والمراد ضرب الناس في جباية الأموال.
4 ذكر ذلك ابن طباطبا في الفخرى ص117 قال: "كان يزيد بن عبد الملك خليع بني أمية شغف بجاريتين اسم إحداهما سلامة، والأخرى حبابة فقطع معهما زمانه، قالوا: فغنت يومًا حبابة:
بين التراقي واللهاة حرارة
…
ما تطمئن ولا تسوغ فتبرد
فأهوى يزيد ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة، فقال: والله لأطيرن، قالت: فعلى من تدع الأمة؟ قال: عليك وقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول:"سخنت عينك فما أسخنك" وروى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني "ج13 ص148" قال: "كانت حبابة مولدة من مولدات المدينة، حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء؛ وقد قال يزيد بن عبد الملك: ما تقر عيني بما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة وحبابة؛ فأرسل فاشتريتا له؛ فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال القائل:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عينًا بالإياب المسافر
وذكروا أن مسلمة بن عبد الملك أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناء والشراب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في الأمور، والوفود بابك، =
ثم ذكر بني أمية وأعمالهم وسيرهم فقال: "أصابوا إمرة ضائعة، وقومًا طغامًا جهالًا، لا يقومون لله بحق، ولا يفرقون بين الضلالة والهدى، ويرون أن بني أمية أرباب لهم؛ فملكوا الأمر، وتسلطوا فيه تسلط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويأخذون بالظنة، ويعطلون الحدود بالشفاعات، ويأمنون الخونة، ويقصون ذوي الأمانة، ويأخذون الفريضة من غير موضعها، ويضعونها في غير أهلها، وقد بين الله أهلها؛ فجعلهم ثمانية أصناف، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ
= وأصحاب الظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم، فقال: صدقت والله وأعتبه، وهم بترك الشراب، ولم يدخل على حبابة أيامًا، فدست حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتا في ذلك، وقالت له: إن رددته عن رأيه، فلك ألف دينار، فقال:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا
…
فقد غلب المحزون أن يتجلدا
بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني
…
ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
وإني وإن فندت في طلب الغنى
…
لأعلم أني لست في الحب أوحدا
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
…
فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي
…
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
ومكث يزيد جمعة لا يريد حبابة، ولا يدعو بها؛ فلما كان يوم الجمعة، قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلمين؛ فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته والعود في يدها، فغنت البيت الأول، فغطى وجهه، وقال: مه لا تفعلي، ثم غنت: فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي: فعدل إليها، وقال: صدقت والله، فقبح الله من لامني فيك، يا غلام مر مسلمة أن يصلي بالناس، وأقام معها يشرب وتغنيه، وعاود ما كان فيه، ثم قال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص؛ فأحضره ثم أنشده قصيدة مدحه فيها، فقال له: ارفع حوائجك، فكتب إليه في نحو أربعين ألف درهم من دين وغيره، فأمر له بها، انظر أيضًا تاريخ الطبري 8: 179، ومروج الذهب ج2: ص175، ومما ذكره المسعودي: أن حبابة اعتلت فأقام يزيد أيامًا لا يظهر للناس، ثم ماتت، فأقام أياما لا يدفنها حتى جيفت فقيل له: إن الناس يتحدثون بجزعك وإن الخلافة تجل عن ذلك، فدفنها وأقام على قبرها، فقال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى
…
فباليأس تسلو النفس لا بالتجلد
ثم أقام بعدها أيامًا قلائل ومات
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ 1} فأقبل صنف تاسع ليس منها، فأخذ كلها: تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله، فالعنوهم لعنهم الله.
وأما إخواننا من هذه الشيعة -وليسوا بإخواننا في الدين؛ لكني سمعت الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فإنها فرقة تظاهر بكتاب الله، وأعلنت الفرية على الله، لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن، ولا عقل بالغ في الفقه، ولا تفتيش عن حقيقة الصواب، قد قلدوا أمورهم أهواءهم، وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه، وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم، غيًا كان أو رشدًا، ضلالة أو هدى، ينتظرون الدول في رجعة الموتى2، ويؤمنون بالبعث قبل الساعة، ويدعون علم الغيب لمخلوق، لا يعلم أحدهم ما في بيته؛ بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه، أو يحويه جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها ويعملون إذا ولوا بها، يصرون على الفتنة ولا يعرفون المخرج منها؛ جفاة في دينهم،
1 الصدقات: الزكاة. العاملين عليها: الساعين في تحصيلها وجمعها. والمؤلفة قلوبهم: الذين أسلموا ونيتهم ضعيفة في الإسلام؛ فتستألف قلوبهم. وفي الرقاب: أي وفي فك رقاب المكاتبين، يعاونون بشيء منها. والغارمين: أي المدينين لأنفسهم في غير معصية، ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء.
2 كان بعض الشيعة يعتقدون في أئمتهم الذين ماتوا، أنهم أحياء لم يموتوا؛ إلا أنهم غائبون عن أعين الناس؛ فالشيعة الكيسانية يقولون إن محمد بن الحنفية رضي الله عنه لم يمت، وإنه في جبل رضوى "بالحجاز" بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، وإنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورا، وفيه يقول كثير من أبيات:
يغيب ولا يرى فيهم زمانًا
…
برضوى عنده عسل وماء
انظر الملل والنحل للشهرستاني 1: 155 والفصل لابن حزم 4: 137 والفرق بين الفرق ص28 والاثنا عشرية "وهي إحدى فرقتي الشيعة الإمامية؛ سموا بذلك لوقوفهم عند الإمام الثاني عشر، وهو محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه بالمهدي المنتظر" يزعمون أنه دخل في سرداب بسُرّ من رأى، وغاب هنالك، وأنه يخرج في آخر الزمان؛ فيملأ الأرض عدلًا وهم ينتظرونه -ويسمونه المنتظر لذلك- ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب وقد قدموا مركبًا فيهتفون باسمه، ويدعونه للخروج؛ حتى تشتبك النجوم، ثم ينفضون ويرجئون الأم إلى الليلة الآتية -انظر مقدمة ابن خلدون ص220-
قليلة عقولهم1، قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة، قاتلهم الله أنى يؤفكون2.
فأي هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون، أم بأي مذاهبهم تقتدون؟ وقد بلغني أنكم تنتقصون أصحابي! قلتم شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله المذكورون في الخير إلا شبابًا أحداثًا؟ أما والله إني لعالم تتابعكم فيما يضركم في معادكم، ولولا اشتغالي بغيركم عنكم ما تركت الأخذ فوق أيديكم شباب والله مكتهلون3 في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء4 عبادة، وأطلاح سهر5، باعوا أنفسًا تموت غدًا، بأنفس لا تموت أبدًا، قد نظر الله إليهم في جوف الليل، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقًا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة، كأن زفير جهنم بين أذنيه، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وأنوفهم وجباههم، ووصلوا كلال6 الليل بكلال النهار، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم، من طول القيام، وكثرة الصيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، حتى إذا رأوا سهام العدو وقد فوقت7، ورماحهم وقد أشرعت8، وسيوفهم وقد انتضبت9، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ولم يستخفوا بوعيد الله لوعيد
1 وفي البيان والتبيين "جفاة عن القرآن؛ أتباع كهان".
2 أفكه عنه كضرب: صرفه وقلب رأيه.
3 أي قد أحرزوا رزانة الكهول وسداد رأيهم.
4 جمع نضو كحمل، وهو المهزول.
5 جمع طلح وهو كنضو وزنًا ومعنى
6 الكلال: التعب والإعياء.
7 فوق السهم: جعل له فوقا "بالضم" وهو موضع الوتر من السهم؛ أي أعدت الرمي.
8 سددت.
9 استلت.