الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأقضاه بحق، وأعدله في حكم، فصلى عبد الله بالناس الجمعة، ثم صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
قد جربوني ثم جربوني
…
من غلوتين ومن المئين1
حتى إذا شابوا وشيبوني
…
خلَّوْا عناني ثم سيبوني2
أيها الناس: "إني قد سألت هذا الوفد من أهل العراق، عن عاملهم مصعب بن الزبير، فأحسنوا الثناء عليه، وذكروا عنه ما أُحِبُّ، ألا إن مصعبًا اطّبَى3 القلوب، حتى ما تعدل به، والأهواء حتى ما تَحُول عنه، واستمال الألسن بثنائها؛ والقلوب بنصحها، والنفوس بمحبتها، فهو المحبوب في خاصته، المحمود في عامته، بما أطلق الله به لسانه من الخير، وبسط يده من البذل". ثم نزل.
"شرح ابن أبي الحديد م4: ص492؛ والأمالي 1: 286"
1 الغلوة: الغاية، وهي رمية سهم أبعد ما يقدر عليه، ويقال هي قدر ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة.
2 تركوني.
3 اطبي: استمال.
147-
خطبته لما بلغه قتل مصعب:
لما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير "سنة 71هـ" وانتهى خبر مقتله إلى عبد الله بن الزبير، أضرب عن ذكره أيامًا، حتى تحدث به إماء مكة في الطريق، ثم صعد المنبر، فجلس عليه مليٍّا لا يتكلم، والكآبة على وجهه، وجبينه يرشح عرقًا، فقال رجل من قريش لرجل إلى جانبه: ما له لا يتكلم، أتراه يهاب المنطق؟ فوالله إنه للبيب الخطباء، قال: لعله يريد أن يذكر مقتل مصعب سيد العرب، فيشتد ذلك عليه، وغير ملوم، ثم تكلم، فقال:
"الحمد لله الذي له الخلق والأمر، وملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. أما بعد: فإنه لم يُعِزَّ اللهُ
من كان الباطلُ معه، وإن كان معه الأنام طرًّا1، ولم يُذِلَّ من كان الحق معه وإن كان مفرَدًا ضعيفًا؛ ألا وإنه قد أتانا خبرٌ من العراقِ بلد الغدر والشقاق، فساءنا وسرنا، أتانا أن مصعبًا قُتِلَ رحمة الله عليه ومغفرته؛ فأما الذي أحزننا من ذلك، فإن لفراقِ الحميم لذعةً ولوعةً يجدها حميمُه عند المصيبة، ثم يرعوِي من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر، وكريم العزاء، وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له، وأنه عز وجل جاعل لنا وله في ذلك الخيرة إن شاء الله تعالى.
أسلمه الطغام2، الصم الآذان، أهل العراق، إسلام النَّعَمِ المُخَطَّة3، وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يقتل فقد قتل أبوه وعمه وأخوه4، وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله لا نموت حتف آنافنا5 ولكن قعصًا6 بالرماح،
1 جميعًا.
2 الأوغاد.
3 خطم البعير بالخطام: جعله على أنفه، والخطام ككتاب: ما وضع في أنف البعير ليقتاد به.
4 بعد أن اعتزل الزبير بن العوام أصحاب الجمل، انصرف إلى وادي السباع، وقد تبعه عمرو بن جرموز، فقتله في الصلاة، ويعني بعمه عبد الرحمن بن العوام بن خويلد، وقد استشهد يوم اليرموك، وفي رواية "وابن عمه" ويعني به عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام، وقد قتل يوم الدار "انظر أسد الغابة 3: 213".
وأما أخوه فهو المنذر بن الزبير، وذلك أن جيش يزيد بعد أن أوقع بأهل المدينة في وقعة الحرة كما قدمنا، سار إلى مكة لغزو ابن الزبير، فقال لأخيه المنذر: ما لهذا الأمر ولدفع هؤلاء القوم غيري وغيرك -وكان أخوه المنذر ممن شهد الحرة. ثم لحق به- فجرد إليهم أخاه في الناس، فقاتلهم ساعة قتالا شديدا، ثم إن رجلا من أهل الشام دعا المنذر إلى المبارزة، فخرج إليه، فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتا، وكان مقتله سنة 64هـ -تاريخ الطبري 7:14.
5 الحتف: الموت، ويقال: مات حتف أنفه: أي على فراشه من غير قتل، ولا ضرب، ولا غرق، ولا حرق، وخص الأنف لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفسه، أو لأنهم كانوا يتخيلون أن المريض تخرج روحه من أنفه، والجريح من جراحته.
6 القعص: الموت الوحي "أي السريع كغني" ومات قعصا: أصابته ضربة، أو رمية فمات مكانه، وفي الكامل، وعيون الأخبار:"إنا والله ما نموت حبجا" وزاد الكامل "كميتة آل أبي العاص" والحبج محركة: انتفاخ بطن البعير من أكل لحاء العرفج "كجعفر"، وربما قتله ذلك، يعرض ببني مروان لكثرة أكلهم وإسرافهم في ملاذ الدنيا، وأنهم يموتون بالتخمة.