الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
302-
خطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس:
لما دانت بلاد المغرب لموسى بن نصير -وكان واليًا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك- طمح بصره إلى فتح بلاد الأندلس؛ فبعث مولاه طارق بن زياد على جيش جله من البربر سنة 92هـ فعبر بهم البحر، ونمى خبره إلى لذريق ملك القوط؛ فأقبل لمحاربته بجيش جرار، وخاف طارق أن يستحوذ الرعب على جنده لقلتهم، فأحرق السفن التي أقلتهم، حتى يقطع من قلوبهم كل أمل في العودة، وقام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثهم على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، فقال:
"أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق1 والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب2 اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وقواته موفورة، وأنتم لا وزر3 لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم؛ فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة4 هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة5،
1 أي الصدق في القتال، والصدق: الشدة، يقال صدقه القتال.
2 جمع مأدبة بالفتح والضم: وهي طعام صنع لدعوة أو عرس.
3 لا ملجأ.
4 أي مبارزته.
5 النجوة: ما ارتفع من الأرض.
ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس، أربأ1 فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلًا، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلًا؛ فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي.
وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور2 الحسان، من بنات اليونان، الرافلات3 في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان4، المقصورات5 في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُزْبانًا6، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا7 وأختانًا8، ثقة منه بارتياحكم للطعان، وإسماحكم9 بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصًا لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين.
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين، حامل بنفسي على طاغية القوم لُذَرِيق؛ فقاتِلُه إن شاء الله، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده، فقد كفيتم أمره، ولن يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه، فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون".
"نفخ الطيب 1: 112، ووفيات الأعيان 2: 135".
1 ربأ بنفسه: علا بها وارتفع، أي أتنحى عن مشاركتكم.
2 جمع حوراء، من الحور بالتحريك: وهو شدة سواد العين وبياضها.
3 رفلت: جرت ذيلها وتبخترت، أو خطرت بيدها.
4 الذهب.
5 المخدورات: المخبوءات.
6 جمع عزيب. والعزيب والعزب والأعزب: من لا زوجة له.
7 جمع صهر: كحمل، وهو زوج بنت الرجل وزوج أخته.
8 جمع ختن كسبب، وهو الصهر، أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ.
9 سمح وأسمح: جاد وكرم.