الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
435-
خطبة قطري بن الفجاءة:
1
وصعد قطري بن الفجاءة منبر الأزارقة؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد: فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة2، حفت3 بالشهوات، وراقت4 بالقليل، وتحببت بالعاجلة5، وحليت6 بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها 7، ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، خوانة غدارة، وحائلة8 زائلة، ونافذة9 بائدة، أكالة غوالة10، بدالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا عنها، أن تكون كما قال الله تعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
= في السوق حاسرة بادية المحاسن، فاعترضوها وقلبوها، وكانت من أكمل الناس كمالًا وحسنًا، فتزايدت فيها العرب والموالي، حتى بلغوها تسعين ألفًا؛ فأقبل رجل من الخوارج من عبد القيس من خلفها، فضرب عنقها، فأخذوه ورفعوه إلى قطري بن الفجاءة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا استهلك تسعين ألفًا من بيت المال، وقتل أمة من إماء المؤمنين: فقال له: ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت هؤلاء قد تنازعوا عليها؛ حتى ارتفعت الأصوات؛ واحمرت الحدق؛ فلم يبق إلا الخبط بالسيوف؛ فرأيت أن تسعين ألفًا في جنب ما خشيت من الفتنة بين المسلمين هينة، فقال قطري: خلوا عنه، عين من عيون الله أصابتها" اهـ.
1 أورد الشريف الرضي رحمه الله هذه الخطبة في نهج البلاغة؛ وعزاها إلى الإمام علي كرم الله وجهه وكذلك القضاعي في دستور معالم الحكم؛ وقال ابن أبي الحديد في شرحه "2: ص242": "وهذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في البيان والتبيين؛ ورواها لقطري بن الفجاءة؛ والناس يروونها لأمير المؤمنين عليه السلام، وقد رأيتها في كتاب الموثق لأبي عبيد الله المزبان، مروية لأمير المؤمنين عليه السلام وهي بكلام أمير المؤمنين أشبه وليس يبعد عندي أن يكون قطري قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام؛ فإن الخوارج كانوا أصحابه وأنصاره، وقد لقي قطري أكثرهم".
2 أي ناضرة، من خضر الزرع كفرح؛ فهو أخضر وخضر وهو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر خطبته في الجزء الأول ص151:
3 أي أطافت بها الشهوات.
4 أعجبت أهلها بمتاع قليل ليس بدائم.
5 أي وتحببت إليهم باللذة العاجلة، "والنفس مولعة بحب العاجل".
6 حليت المرأة فهي حال وحالية كتحلت. وفي رواية: "ونحلت".
7 الحبرة: السرور. وفي رواية: "لا تقوم نضرتها"؛ لا تقوم: لا تثبت. والنضرة: النعمة والغي والحسن.
8 أي متحولة متغيرة من حال يحول. وفي رواية "خاتلة" أي خادعة.
9 أي هالكة فانية من نفد ينفد كفرح.
10 أي مهلكة من غاله يغوله.
السماء؛ فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيمًا1 تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرًا"، مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة؛ إلا أعقبته بعدها عبر، ولم يلق من سرائها بطنًا، إلا منحته من ضرائها ظهرًا2، ولم تطله غيثة3 رخاء، إلا هطل4 عليه مزنة بلاء، وحري إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له خاذلة منكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى5، أمر عليه منها جانب وأوبى6، وإن آتت امرأ من غضارتها7 ورفاهتها نعمًا، أرهقته من نوائبها تعبًا، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن؛ إلا أصبح منها على قوادم8 خوف، غرارة غرور ما فيها، فانية، فانٍ ما عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منه استكثر مما يوبقه9، ويطيل حزنه، ويبكي عينيه، كم واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته10، وذي اختيال11 فيها قد خدعته، وكم من
1 الهشيم: ما تهشم وتحطم، وتذروه: أي تطيره.
2 كنى بالبطن والظهر عن إقبالها عليه وإدبارها عنه؛ لأن الملاقي لك بالصدر ملاق بالوجه؛ فهو مقبل عليك، والمعطيك ظهره مدبر عنك.
3 طله السحاب يطله: إذا أمطره مطرًا قليلًا، وربما كانت "غيثة" مصحفة عن "غبية" والغبية بفتح الغين: المطرة غير الكثيرة، وفي رواية "ديمة" والديمة بالكسر: مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق.
4 هطلت السماء كجلس هطلًا: تتابع مطرها، وفي رواية:"هتنت" هتنت السماء كجلس أيضًا هتنًا: انصبت، أو هو فوق الهطل، والمزنة: السحابة أو ذات الماء.
5 أي صار عذبًا حلوا.
6 أمر: صار مرا وأوبى: مسهل عن أوبأ، أي صار وبئًا، وبئت الأرض كفرح وكرم وعني، وأوبأت: صارت كثيرة الوباء، وهو الطاعون أو كل مرض عام.
7 الضارة: النعمة والسعة والخصب، وأرهقه: حمله على ما لا يطيقه، وفي رواية:"لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا" والرغب بالتحريك ما ترغب فيه، وفي رواية:"فإن أتت امرأ من غصونها ورقًا"، وفي رواية:"وإن لبس امرؤ من غضارتها ورفاهيتها نعمًا، أرهقته من نوائبها غمًا".
8 القوادم: أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح، الواحدة قادمة، وخص الخوف بالقوادم لأنها مقاديم الريش، والراكب عليها بعرض سقوط قريب.
9 يهلكه.
10 وفي رواية: "وذي حكم ثنته إليها قد صرعته".
11 الاختيال: الكبر والعجب والأبهة: العظمة، والبهجة والكبر والنخوة.
ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرًا، وذي نخوة قد ردته ذليلًا، وكم من ذي تاج قد كبته1 لليدين والفم، سلطانها دول؛ وعيشها رنق وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام2 وأسبابها رمام3، وقطاعها سلع4، حبها بمرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعتها بعرض اهتضام، مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب5، مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} .
ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعمارًا، وأوضح منكم آثارًا، وأعد عديدًا، وأكثف جنودًا، وأعتد عتادًا6، وأطول عمادًا، تعبدوا7 للدنيا أي عبد! وآثروها أي إيثار وظعنوا عنها بالكره والصغار! فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب8؟ بل قد أرهقتهم بالفوادح9، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالمصائب10، وقد رأيتم تنكرها.
1 صرعته وقلبته.
2 رفق الماء كفرح ونصر: كدر، فهو رنق كعدل وكتف وجبل، وأجاج: ملح مر، وسمام جمع سم مثلث السين.
3 أسباب جمع سبب: وهو الحبل، ورمام: بالية، حبل أرمام، ورمام: أي بال.
4 السلع: شج مر، أو سم: أو ضرب من الصبر، أو بقلة خبيثة الطعم.
5 مسلوب، من حربه حربا كطلبه طلبًا: سلب ماله فهو محروب وحريب، وفي رواية:"وجارها محروب".
6 العتاد: العدة، وقد عتد ككرم عتادًا فهو عتيد: أي حاضر مهيأ معد، وفي رواية:"وأعند عنودًا" من عند عن الطريق كنصر وسمع وكرم عنودا: أي مال، وفي رواية:"وأشد عقودًا".
7 أي استعبدتهم الدنيا، تعبده اتخذه عبدًا.
8 أي بشأن وأمر.
9 الفوادح: النوائب المثقلة، من فدحه الدين إذا أثقله، وفي رواية:"وأوهقتهم" أي جعلتهم في الوهق بفتح الهاء وتسكينها: وهو حبل كالطول.
10 وفي رواية: "وعقرتهم بالفجائع"، وفي رواية "وعفرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم"، عفرتهم للمناخر: ألصقت أنوفهم بالعفر "كسيب ويسكن"، وهو التراب والمناخر جمع منخر بفتح الميم والخاء، وبكسرهما، وبضمها وكمجلس: الأنف، والمناسم جمع منسم كمجلس وهو خف البعير.
لمن دان1 لها، وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد، إلى آخر المسند2، هل زودتهم إلا السغب3،وأحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله جل ذكره:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ فبئست الدار لمن لم يتهمها، ولم يكن فيها على وجل منها.
فاعلموا -وأنتم تعلمون- أنكم تاركوها لا بد؛ فإنما هي كما وصفها الله باللعب واللهو وقد قال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} 4، واتعظوا فيها بالذين قالوا:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانًا، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون5 ضيفانا، وجعل لهم من الصريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جبران6؛ فهم حيرة لا يجيبون داعيًا، ولا يمنعون ضيمًا، ولا يبالون مندبة7، إن أخصبوا8 لم يفرحوا، وإن قحطوا9 لم يقنطوا، جمع وهم آحاد، وجبرة وهم آباد، متناهون لا يزورون ولا يزارون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء
1 أي خضع لها وذل، وفي رواية:"لمن رادها" أي طلبها: رودًا، وأخلد إليها: مال.
2 المسند: الدهر، وفي رواية "إلى آخر الأمد".
3 الجوع، وفي رواية:"الشقاء" والضنك: الضيق.
4 نزلت في عاد قوم هود، الريع: المرتفع من الأرض، آية: أي أبنية وقصور يفتخرون بها، ويعثبون بالفقراء، ويتطاولون عليهم من أجلها، والمصانع: المباني من القصور والحصون.
5 وفي رواية "فلا يرعون" أي فلا يرعاهم أحد.
6 الأكنان جمع كن بالكسر: وهو وقاء كل شيء وستره. والضريح: القبر أو الشق وسطه، وفي رواية:"وجعل لهم من الصفيح أجنان" والأجنان جمع جنن كسبب: وهو القبر، والصفيح: الحجارة العراض، والرفات: العظام البالية.
7 المندبة: الندب على الميت.
8 وفي رواية: "إن جيدوا" من جادهم الغيث إذا أمطروا.
9 قحط الناس كمنع، وقحطوا وأقحطوا مبنيين لمجهول "قليلتان"، وبكل روي.