المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خطبة الأحنف بن قيس - جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة - جـ ٢

[أحمد زكي صفوت]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌مقدمة

- ‌فهرس مآخذ في هذا الجزء

- ‌الباب الثالث: الخطب والوصايا في العصر الأموى

- ‌خطب بنى هاشم وشيعتهم وما يتصل بها

- ‌خطبة الحسن بن على بعد وفاة أبيه

- ‌تعبئته الجيوش لقتال معاوية

- ‌مدخل

- ‌ خطبة الحسن بن علي في الحث على الجهاد:

- ‌ مقال عدي بن حاتم:

- ‌ خطبة الحسن وقد جنح إلى مصالحة معاوية:

- ‌ خطبته يبرر مصالحته لمعاوية:

- ‌ خطبته في الصلح بينه وبين معاوية:

- ‌ خطبة له بعد الصلح:

- ‌ خطبة لمعاوية في أهل الكوفة:

- ‌ رد الحسن بن علي على معاوية حين نال منه ومن أبيه:

- ‌ خطبة سليمان بن صرد في استنكار الصلح:

- ‌ خطبة الحسن يرد على مستنكري الصلح:

- ‌ خطبة له في عهد خلافته:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌مخاصمة ومهاجاة

- ‌مدخل

- ‌ مقال عمرو بن العاص:

- ‌ مقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط:

- ‌ مقال عتبة بن أبي سفيان:

- ‌ مقال المغيرة بن شعبة:

- ‌ رد الحسن بن علي عليهم:

- ‌ رثاء محمد بن الحنفية لأخيه الحسن

- ‌مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه:

- ‌تأبيه عن بيعة يزيد وخروجه إلى مكة:

- ‌ نصيحة محمد بن الحنفية للحسين رضي الله عنهما:

- ‌بعثه مسلم بن عقيل إلى الكوفة:

- ‌ خطبة عابس بن أبي شبيب الشاكري:

- ‌ خطبة النعمان بن بشير:

- ‌ خطبة عبيد الله بن زياد:

- ‌ خطبة كثير بن شهاب:

- ‌خطبة أخرى لعبيد الله بن زياد

- ‌خروج الحسين إلى الكوفة:

- ‌ نصيحة ابن عباس له:

- ‌ نصيحة أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي له:

- ‌ خطبة عبيد الله بن زياد:

- ‌ خطبة للحسين رضي الله عنه:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌خطبة أخرى للحسين

- ‌ خطبة زهير بن القين البجلي:

- ‌ خطبة للحسين أيضًا:

- ‌ خطبته ليلة قتله:

- ‌ رد أهل بيته عليه:

- ‌ رد أصحابه:

- ‌ خطبته غداة يوم قتله:

- ‌ دعاؤه وقد صَبَّحَتُهُ الخيل:

- ‌ خطبته وقد دنا منه القوم:

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ خطبة زهير بن القين:

- ‌ خطبة الحر بن يزيد:

- ‌طلب التوابين بدم الحسين

- ‌مدخل

- ‌ خطبة المسيب بن نجبة الفزاري:

- ‌ خطبة رفاعة بن شداد:

- ‌ خطبة خالد بن سعد بن نفيل:

- ‌ خطبة سعد بن حذيفة بن اليمان:

- ‌خطبة عبد الله بن بن الحنظل الطائى

- ‌ خطبة عبيد الله بن عبد الله المري:

- ‌ خطبة عبد الله بن يزيد الأنصاري:

- ‌ رد المسيب بن نجبة:

- ‌ رد عبد الله بن وال التيمي:

- ‌خطبة أخرى لسليمان بن صرد

- ‌ خطبة صخير بن حذيفة بن هلال:

- ‌ ما أشار به عبد الله بن سعد:

- ‌ رأي ابن صرد:

- ‌ خطبة عبد الله بن يزيد:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌ خطبة أخرى

- ‌ خطبة عبد الملك بن مروان:

- ‌طلب المختار بن أبي عبيد الثقفي بدم الحسين رضي الله عنه:

- ‌ خطبته حين قدم الكوفة:

- ‌ ما كان يردده على زائريه في سجنه:

- ‌ خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة:

- ‌ رد السائب بن مالك الأشعري عليه:

- ‌ خطبة عبد الرحمن بن شريح:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌ خطبة محمد بن الحنفية:

- ‌ خطبة المختار:

- ‌خطبة أخرى لعبد الرحمن بن شريح

- ‌ خطبة المختار في دار إبراهيم بن الأشتر:

- ‌ خطبة يزيد بن أنس الأسدي:

- ‌ خطبة عبد الله بن مطيع:

- ‌ تحريض ابن الأشتر أصحابه:

- ‌ خطبة ابن مطيع وهو محصور:

- ‌ خطبة المختار بعد هرب ابن مطيع:

- ‌ خطبة المختار وقد استنصره ابن الحنفية:

- ‌ خطبته وقد شيع ابن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد:

- ‌ خطبته وقد سار إليه مصعب بن الزبير:

- ‌ خطبة محمد بن الحنفية يرد على عبد الله بن الزبير وقد تنقص الإمام:

- ‌ عبد الله بن عباس ومعاوية:

- ‌عبد الله بن عباس ومعاوية أيضا

- ‌مدخل

- ‌ مقال معاوية:

- ‌ مقال معاوية لابن عباس:

- ‌ مقال ابن عباس:

- ‌ مقال معاوية لبني هاشم:

- ‌مقال آخر لمعاوية

- ‌ عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا:

- ‌ عبد الله بن عباس وعتبة بن أبي سفيان:

- ‌مخاصمة بين عبد الله بن عباس وبين معاوية وأصحابه

- ‌مدخل

- ‌ جواب ابن عباس:

- ‌ مقال عمرو بن العاص:

- ‌ مقال زياد:

- ‌ مقال عبد الرحمن بن أم الحكم:

- ‌ مقال المغيرة بن شعبة:

- ‌ مقال يزيد بن معاوية:

- ‌مقال آخر لمعاوية

- ‌عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص

- ‌مدخل

- ‌ مقال ابن عباس:

- ‌ رد ابن العاص:

- ‌عبد الله بن عباس وعمر بن العاص أيضا

- ‌ عمرو بن العاص وابن عباس:

- ‌ مفاخرة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس:

- ‌ابن عباس وابن الزبير في مجلس مروان بن الحكم

- ‌مدخل

- ‌ مقال ابن الزبير:

- ‌ مقال ابن عباس:

- ‌ خطبة عبد الله بن عباس يرد على عبد الله بن الزبير

- ‌ خطبة ابن الزبير يتنقص ابن عباس:

- ‌ رد ابن عباس عليه:

- ‌عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص

- ‌ الحسن بن علي وعمرو بن العاص:

- ‌ الحسن بن علي ومروان بن الحكم:

- ‌ عقيل بن أبي طالب ومعاوية:

- ‌ خطبة السيدة أم كلثوم بنت عليِّ في أهل الكوفة

- ‌ خطبة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام

- ‌ رثاء الحسين لأخيه الحسن عليهما السلام:

- ‌ عبد الله بن هاشم بن عتبة، وعمرو بن العاص في مجلس معاوية:

- ‌ عبد الله بن هاشم في مجلس معاوية:

- ‌قيس بن سعد بن عبادة ومعاوية:

- ‌ مقال معاوية:

- ‌ معاوية وصعصعة بن صوحان وعبد الله بن الكواء:

- ‌ صعصعة بن صوحان ومعاوية:

- ‌ صعصعة بن صوحان وعبد الله بن عباس:

- ‌ صعصعة بن صوحان ورجل من بني فزارة:

- ‌ وصف عقيل بن أبي طالب لآل صوحان:

- ‌خطب الزبيريين وما يتصل بها

- ‌عبد الله بن الزبير ومعاوية

- ‌ مقال ذكوان:

- ‌ مقال معاوية:

- ‌مقال آخر لمعاوية

- ‌ عبد الله بن الزبير ومعاوية أيضًا:

- ‌ عبد الله بن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص:

- ‌ خطبة ابن الزبير لما قتل الحسين عليه السلام:

- ‌ مناظرة ابن الزبير للخوارج:

- ‌ أبو صخر الهذلي وعبد الله بن الزبير:

- ‌ خطبته وقد قدم عليه وفد العراق:

- ‌ خطبته لما بلغه قتل مصعب:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌ خطبته وقد بلغه قتل عمرو الأشدق:

- ‌ عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر:

- ‌ خطبته يوم قتله:

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ خطبة مصعب بن الزبير:

- ‌خطب الأمويين خطباء البيت الأموى

- ‌خطبته بالمدينة عام الجماعة

- ‌ خطبة أخرى له بالمدينة:

- ‌ خطبة له بالمدينة:

- ‌ خطبة له في يوم صائف:

- ‌ آخر خطبة له:

- ‌خطبته وقد حضرته الوفاة

- ‌ وصيته لابنه يزيد:

- ‌خطب يزيد بن معاوية

- ‌خطبته بعد موت معاوية

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌ خطبة معاوية بن يزيد

- ‌ وصية مروان بن الحكم لابنه عبد العزيز:

- ‌خطب عبد الملك بن مروان

- ‌خطبته بمكة

- ‌ خطبة له موجزة:

- ‌خطبته حين قتل عمر الأشدق بن سعيد بن العاص

- ‌ خطبته لما دخل الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير:

- ‌ خطبته عام حجه:

- ‌ خطبته وقد علم بخروج ابن الأشعث:

- ‌ وصيته لبعض أمرائه:

- ‌ وصيته للشعبي:

- ‌ وصيته لأخيه عبد العزيز بن مروان:

- ‌ وصيته لولده عند وفاته:

- ‌ خطبة للوليد بن عبد الملك بعد دفن أبيه

- ‌ خطبة لسليمان بن عبد الملك

- ‌خطب عمر بن عبد العزيز

- ‌أولى خطبه

- ‌ خطبة له بالمدينة:

- ‌ خطبة له يوم عيد:

- ‌ خطبة له:

- ‌خطبة له2

- ‌خطبة له3

- ‌ آخر خطبة له:

- ‌خطبة عاشرا أخرى

- ‌ كلامه في مرضِهِ الذي مات فيه:

- ‌ مناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج:

- ‌ تأبينه ابنه عبد الملك:

- ‌ وصية يزيد بن معاوية لسلم بن زياد حين ولاه:

- ‌خطب عتبة بن أبي سفيان

- ‌خطبة له في تهدد أهل مصر

- ‌خطبة له في تقريعهم وتهددهم

- ‌ خطبة له فيهم وقد أرجفوا بموت معاوية:

- ‌ خطبته فيهم وقد منعوا الخراج:

- ‌ خطبته فيهم إذ طعنوا على الولاة:

- ‌ خطبته بمكة:

- ‌ خطبته في علته التي مات فيها:

- ‌ وصيته لمؤدب ولده:

- ‌خطب عمرو بن سعيد الأشدق

- ‌خطبة له بالمدينة

- ‌ خطبة له بمكة:

- ‌ ملاحاة الوليد بن عقبة معه في مجلس معاوية:

- ‌ خطبته حين غلب على دمشق:

- ‌ خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان:

- ‌ نصيحة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان:

- ‌ تأديب معاوية لجلسائه:

- ‌ كلام معاوية وقد سقطت ثنيتاه:

- ‌ تقريع عبد الملك بن مروان لأحد عماله:

- ‌طلب معاوية البيعة ليزيد

- ‌مدخل

- ‌ خطبة الضحاك بن قيس الفهري:

- ‌ خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي:

- ‌ خطبة ثور بن معن السلمي:

- ‌ خطبة عبد الله بن عصام الأشعري:

- ‌ خطبة عبد الله بن مسعدة الفزاري:

- ‌ خطبة عمرو بن سعيد الأشدق:

- ‌ خطبة الأحنف بن قيس:

- ‌ خطبة الضحاك بن قيس:

- ‌ خطبة معاوية:

- ‌ خطبة يزيد بن المقنع:

- ‌ خطبة الأحنف:

- ‌ خطبة عبد الله بن عباس:

- ‌ خطبة عبد الله بن جعفر:

- ‌ خطبة عبد الله بن الزبير:

- ‌ خطبة عبد الله بن عمر

- ‌ خطبة مروان بن الحكم:

- ‌ مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر:

- ‌ خطبة الحسين:

- ‌تهنئة وتعزية:

- ‌ خطبة عبد الله بن همام السلولي:

- ‌ خطبة عطاء بن أبي صيفي الثقفي:

- ‌ خطبة عبد الله بن مازن:

- ‌ خطبة غيلان بن مسلمة الثقفي:

- ‌خطب ولاة الأمويين وقوادهم

- ‌خطبته بفارس وقد كتب إليه معاويه يتهدده

- ‌ خطبته وقد بعث معاوية إليه المغيرة بن شعبة يستقدمه:

- ‌ خطبته وقد استلحقه

- ‌خطبته حين ولى البصرة

- ‌ خطبته بالكوفة وقد ضمت إليه:

- ‌ خطبة أخرى له بالكوفة

- ‌ خطبته بالكوفة يتهدد الشيعة

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌خطبة ثالثة له

- ‌ وصية لزياد:

- ‌ ما كان يقوله لمن ولاه عملًا:

- ‌ خطبة الضحاك بن قيس الفهري بالكوفة

- ‌ خطبته عند موت معاوية:

- ‌ خطبة النعمان بن بشير بالكوفة

- ‌ خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه بين يدي معاوية

- ‌ رد معاوية على ابن زياد:

- ‌ مقال يزيد بن معاوية:

- ‌ وصية المهلب بن أبي صفرة لأبنائه عند موته:

- ‌خطب الحجاج بن يوسف الثقفي

- ‌خطبته بمكة بعد مقتل ابن الزبير

- ‌ خطبته بعد قتل ابن الزبير:

- ‌ خطبته حين ولي العراق

- ‌ خطبته وقد سمع تكبيرًا في السوق:

- ‌ خطبته وقد قدم البصرة:

- ‌ خطبته بعد وقعة دير الجماجم:

- ‌ خطبة أخرى له في أهل الكوفة وأهل الشام:

- ‌ خطبة له بالبصرة:

- ‌ خطبة أخرى له بالبصرة:

- ‌ خطبته في أهل العراق يصارحهم بالكراهية:

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ خطبته حين أراد الحج:

- ‌ خطبته لما أصيب بولده محمد وأخيه محمد في يوم واحد:

- ‌ خطبته وقد أرجف أهل العراق بموته:

- ‌ خطبه الوعظية:

- ‌خطب قتيبة بن مسلم الباهلى

- ‌خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو

- ‌ خطبته وقد تهيأ لغزو بلاد السُّغْد:

- ‌ خطبته وقد سارت إليه جيوش الشاش وفرغانة:

- ‌ خطبه حين دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك:

- ‌ كلمات حكيمة لقتيبة بن مسلم:

- ‌ خطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس:

- ‌ نص آخر لخطبة طارق:

- ‌ خطبة عثمان بن حيان المري بالمدينة:

- ‌ وصية يزيد بن المهلب لابنه مخلد

- ‌ نصيحة عمر بن هبيرة لبعض بنيه:

- ‌خطب خالد بن عبد الله القسرى

- ‌خطبته بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة

- ‌ خطبة أخرى يشيد فيها بفضل الوليد:

- ‌ خطبته بمكة في الحجاج:

- ‌ خطبة له في الحث على مكارم الأخلاق:

- ‌ خطبة له يوم عيد:

- ‌ قوله وقد سقطت جرادة على ثوبه:

- ‌ خطبة يوسف بن عمر الثقفي

- ‌ خطبة يوسف بن عمر:

- ‌خطب الفتن والأحداث

- ‌خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصارى

- ‌ خطبة مسلم بن عقبة يؤنب أهل الشأم:

- ‌ خطبة مسلم يحرضهم:

- ‌ خطبة ابن حنظلة يحرض أصحابه:

- ‌اضطراب الأمر بعد موت يزيد:

- ‌ خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌ خطبة عمرو بن حريث:

- ‌ خطبة عمرو بن مسمع:

- ‌خطبة الأحنف بن قيس

- ‌ خطبته يؤيد مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة:

- ‌ خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة:

- ‌خطبة أخرى لمطرف بن المغيرة بن شعبة

- ‌ خطبة سعيد بن المجالد:

- ‌فتنة ابن الأشعت

- ‌مدخل

- ‌ خطبة ابن الأشعث بسجستان:

- ‌ خطبته يعرض على الجند رأي الحجاج:

- ‌ خطبة عامر بن واثلة الكناني:

- ‌ خطبة عبد المؤمن بن شبث بن ربعيّ:

- ‌ خطبة ابن الأشعث بالمربد:

- ‌ خطبته حين أراد عبد الملك أن يترضّى أهل العراق:

- ‌ عامر الشعبي والحجاج:

- ‌ كلمة لابن القرية:

- ‌فتنة يزيد بن المهلب:

- ‌ أيوب بن سليمان بن عبد الملك يسأل عمه الوليد أن يؤمن يزيد بن المهلب:

- ‌ خطبة يزيد بين يدي الوليد:

- ‌ خطبة مخلد بن يزيد بن المهلب بين يدي عمر بن عبد العزيز:

- ‌ خطبة يزيد بن المهلب يحرض أصحابه على القتال

- ‌ خطبة أخرى له

- ‌ خطبة ثالثة له:

- ‌ خطبة الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب:

- ‌ خطبة مروان بن المهلب:

- ‌خطب الأحنف بن قيس التميمي:

- ‌ الأحنف ومعاوية:

- ‌ قوله في مدح الولد:

- ‌ شفاعته لدى مصعب بن الزبير:

- ‌ نصيحته لقومه:

- ‌ خطبته في قوم كانوا عنده:

- ‌ كلمات حكيمة للأحنف:

- ‌ صفية بنت هشام المنقرية تؤبن الأحنف:

- ‌خطب الوفود وما ألقي بحضرة الخلفاء والأمراء والرؤساء

- ‌وفود الأحنف بن قيس والنمر بن قطبة على معاوية

- ‌ وفد أهل العراق على معاوية وفيهم الأحنف:

- ‌وفد أهل العراق على معاوية ومعهم زياد وفيهم الأحنف:

- ‌خطبة زياد

- ‌ خطبة معاوية:

- ‌ خطبة الأحنف بن قيس:

- ‌ وفد العراق على معاوية وفيهم دغفل النسابة:

- ‌ دغفل وجماعة من الأنصار:

- ‌دغفل أهل العراق على معاوية وفيهم صعصعة بن صوحان

- ‌ وفود العرب ومعاوية:

- ‌ وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية:

- ‌وفود زيد بن منية على معاوية

- ‌ وفود ضرار بن حمزة الصدائي على معاوية:

- ‌الوافدات على معاوية:

- ‌ وفود سودة بنت عمارة على معاوية:

- ‌ وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية:

- ‌ وفود بكارة الهلالية على معاوية:

- ‌ وفود أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية:

- ‌ أم البراء بنت صفوان ومعاوية:

- ‌ دارمية الحجونية ومعاوية:

- ‌ شداد بن أوس ومعاوية:

- ‌ معاوية ورجل من أهل سبأ:

- ‌ حديث معاوية مع عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان:

- ‌ حديث الخيار بن أوفى النهدي مع معاوية:

- ‌ حديث عرابة بن أوس بن حارثة مع معاوية:

- ‌ سعيد بن عثمان بن عفان ومعاوية:

- ‌ مصقلة بن هبيرة ومعاوية:

- ‌ روح بن زنباع ومعاوية:

- ‌ مخاصمة أبي الأسود الدؤلي وامرأته بين يدي زياد بن أبيه:

- ‌ صورة أخرى:

- ‌ وفد أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير:

- ‌ كلام خطيب الأزد بين يدي عبد الملك بن مروان:

- ‌ سؤال عبد الملك للعجاج وما أجاب به:

- ‌ وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان

- ‌ قدوم الحجاج مع أشراف المصرين على عبد الملك:

- ‌ وفود مالك بن بشير على الحجاج بقتل الأزارقة:

- ‌ وفود كعب الأشقري على الحجاج:

- ‌ سليك بن سلكة والحجاج:

- ‌ جامع المحاربي والحجاج:

- ‌ ليلى الأخيلية والحجاج:

- ‌ الغضبان بن القبعثري والحجاج:

- ‌ ابن القرّية يعدد مساوئ المزاح:

- ‌ يزيد بن أبي مسلم وسليمان بن عبد الملك:

- ‌ وفود العراق على سليمان بن عبد الملك:

- ‌ كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك:

- ‌ أبو حازم وسليمان بن عبد الملك أيضًا:

- ‌ وفد أهل الحجاز عند عمر بن عبد العزيز:

- ‌ خالد بن صفوان يعزي عمر بن عبد العزيز ويهنئه:

- ‌ خطبة عبد الله بن الأهتم:

- ‌ مقام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز:

- ‌ وفد أهل الحجاز على هشام بن عبد الملك:

- ‌ مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام:

- ‌ خالد بن صفوان يصف جريرًا والفرزدق والأخطل:

- ‌ خالد بن صفوان وبلال بن أبي بردة:

- ‌ خطبة الكميت بن زيد بين يدي هشام يستعطفه:

- ‌ مخاصمة عدي بن أرطأة لامرأته عند شريح القاضي:

- ‌ كلمة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان:

- ‌ خطبة دينار:

- ‌ رجل يمدح خالد بن عبد الله القسري:

- ‌خطب الخوارج وما يتصل بها:

- ‌ خطبة حيان بن ظبيان السلمي:

- ‌ائتمار الخوارج

- ‌مدخل

- ‌ مقال المستورد بن علفة:

- ‌ مقال حيان بن ظبيان:

- ‌ مقال معاذ بن جوين:

- ‌ خطبة المغيرة بن شعبة أمير الكوفة

- ‌ خطبة صعصعة بن صوحان:

- ‌ خطبة المستورد:

- ‌ خطبة معقل بن قيس:

- ‌ كلمات حكيمة للمستورد:

- ‌ائتمار الخوارج ثانية:

- ‌ خطبة حيان بن ظبيان:

- ‌ خطبة معاذ بن جوين:

- ‌ رد حيان بن ظبيان:

- ‌ مقال عتريس بن عرقوب:

- ‌ رد حيان:

- ‌ خطبة حيان:

- ‌خطبة مسلم بن عويس حين خرج لقتال الأزارقة

- ‌خطب المهلب بن أبي صفرة:

- ‌ خطبته في حث جنده على قتال الأزارقة:

- ‌ خطبة أخرى له في جنده:

- ‌ نص آخر:

- ‌خطبته في جنده وقد استخلف عليهم ابنه المغيرة

- ‌خطبة الزبير بن على في الأزارقة

- ‌ خطبة عتاب بن ورقاء الرياحي وقد طال عليه الحصار:

- ‌ نصيحة عرهم العدوي لخالد بن عبد الله:

- ‌ خطبة قطري بن الفجاءة:

- ‌ خطبة عبد ربه الصغير:

- ‌ خطبة صالح بن مسرح:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ خطبة زائدة بن قدامة:

- ‌ خطبة الحجاج بن يوسف:

- ‌ خطبة أخرى للحجاج:

- ‌ خطبة شبيب بن يزيد الشيباني:

- ‌ خطبة عتاب بن ورقاء:

- ‌ خطبة الحجاج:

- ‌ خطبة عبد الله بن يحيى الإباضي:

- ‌خطب أبي حمزة الشاري:

- ‌ خطبته حين دخل المدينة:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون صحابه

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ خطبة له في سب أهل المدينة وتقريعهم:

- ‌خطبة ثالثة

- ‌ خطبته حين خرج من المدينة:

- ‌ عمران بن حطان والحجاج:

- ‌الخطب الوعظية والوصايا:

- ‌ خطبة سحبان بن زفر الوائلي

- ‌ خطبة معاوية:

- ‌ خطبة عبد الملك بن مروان:

- ‌خطبة لعمر بن عبد العزيز

- ‌كلام الحسن البصرى

- ‌خطبه له

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ مقام الحسن البصري عند عمر بن هبيرة:

- ‌ مقام الحسن عند النضر بن عمرو:

- ‌ مقام آخر له عند النضر:

- ‌ مقال الحسن حين رأى دار الحجاج التي بناها بواسط:

- ‌ صفة الإمام العادل:

- ‌ موعظته لعمر بن عبد العزيز:

- ‌ موعظته لعمر بن عبد العزيز أيضا:

- ‌ كلمات حكيمة للحسن البصري:

- ‌ وصية عبد الملك بن مروان لبني أمية:

- ‌ وصية عبد الله بن شداد لابنه:

- ‌ وصية أسماء بن خارجة لابنته:

- ‌ رجل ينصح لهشام بن عبد الملك:

- ‌ وصية عبد الحميد بن يحيى الكاتب للكتاب:

- ‌الصراع بين الأموية والعباسية:

- ‌ خطبة قحطبة بن شبيب الطائي:

- ‌ خطبة أخرى له

- ‌استدراك على الجزء الأول

- ‌خطبة السيدة عائشة حين أنبئت بقتل عثمان

-

- ‌الفهارس

-

الفصل: ‌خطبة الأحنف بن قيس

218-

خالد بن عبد الله بن أسيد 1 وعبد الملك بن مروان:

جلس يومًا عبد الملك بن مروان، وعند رأسه خالد بن عبد الله بن أسيد، وعند رجليه أمية بن عبد الله بن أسيد، وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه فقال:

"هذا والله التوفير، وهذه الأمانة، لا ما فعل هذا، "وأشار إلى خالد" استعملته على العراق، فاستعمل كل مُلِطٍّ2 فاسق، فأدوا إليه العشرة واحدًا، وأدى إلي من العشرة واحدًا، واستعملت هذا على خراسان "وأشار إلى أمية3" فأهدى إلي بِرْذَوْنَيْنِ حَطِمَيْنِ4، فإن استعملتكم ضيعتم، وإن عزلتكم قلتم: استخف بنا، وقطع أرحامنا".

فقال خالد بن عبد الله: "استعملتني على العراق، وأهله رجلان: سامع مطيع مناصح، وعدو مبغض مكاشح5، فأما السامع المطيع المناصح فإنا جزيناه، ليزداد ودا إلى وده؛ وأما المبغض المكاشح، فإنا داريناه ضغنه، وسللنا حقده، وكثرنا لك المودة في صدور رعيتك، وإن هذا جبى الأموال، وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال، فيوشك أن تنبت البغضاء فلا أموال ولا رجال".

فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك: "هذا والله ما قال خالد".

"العقد الفريد 2: 117".

1 هو خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقد ولاه عبد الملك بن مروان بعد قتل مصعب بن الزبير على البصرة وأعمالها سنة 71هـ، وعزله عنها سنة 74، وولاها أخاه بشر بن مروان، وكان على ولاية الكوفة، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه.

2 لط حقه وألطه: جحده.

3 هو أمية بن عبد الله أخو خالد هذا، ولاه عبد الملك على خراسان، حتى كانت سنة 78 فعزله، وجمع سلطانه الحجاج، فبعث المهلب بن أبي صفرة إليها.

4 فرس حطم ككتف: إذا هزل وأسن، فضعف، وتهدم.

5 الكاشح: الذي يضمر لك العدواة، كشح له بالعداوة وكاشحه بمعنى.

ص: 233

219-

‌ نصيحة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان:

ورأى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان رجلا يشتم رجلا، وآخر يسمع منه، فقال للمستمع:

"نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن الكلام به، فإن السامع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو رُدَّتْ كلمة جاهل في فيه، لسعد رَادُّها، كما شقي قائلها".

"البيان والتبيين 2: 160".

ص: 234

220-

‌ تأديب معاوية لجلسائه:

أذن معاوية للأحنف بن قيس -وقد وافى معاوية محمد بن الأشعث- فقدمه عليه، فوجد1 من ذلك محمد بن الأشعث، وأذن له، فدخل، فجعل بين معاوية والأحنف، فقال معاوية:

"إنا والله ما أذنا له قبلك، إلا ليجلس إلينا دونك، وما رأيت أحدًا يرفع نفسه فوق قدرها، إلا من ذلة يجدها، وقد فعلت فعل من أحسَّ من نفسه ذلا وضعة، وإنا كما نملك أموركم، نملك تأديبكم، فأريدوا منا ما نريده منكم، فإنه أبقى لكم، وإلا قصرناكم كرها، فكان أشد عليكم وأعنف بكم".

"البيان والتبيين 3: 220"

1 وجد: غضب

ص: 234

221-

‌ كلام معاوية وقد سقطت ثنيتاه:

ولما سقطت ثنيتا معاوية لف وجهه بعمامة، ثم خرج إلى الناس، فقال:

"لئن ابتليت لقد ابتلى الصالحون قبلي، وإني لأرجو أن أكون منهم، ولئن

ص: 234

عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم، ولئن سقط عضوان مني، لما بقي أكثر، ولو أتى على نفسي لما كان لي عليه خيار تبارك وتعالى، فرحم الله عبدا دعا بالعافية، فوالله لئن كان عتب عليَّ بعض خاصتكم، لقد كنت حدبًا1 على عامتكم".

"البيان والتبيين 3: 221".

1 أي عطوفًا.

ص: 235

222-

‌ تقريع عبد الملك بن مروان لأحد عماله:

وروى الجاحظ قال:

"قال أبو الحسن: كان عبد الملك بن مروان شديد اليقظة، كثير التعاهد لولاته، فبلغه أن عاملا من عماله قبل هدية، فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل عليه قال: "أقبلت هدية منذ وليتك؟ " قال: "يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال" قال:"أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم، قال: لئن كنت قبلت ولم تعوض، إنك للئيم، ولئن أنلت مهديك لا من مالك، أو استكفيته ما لم يكن يستكفاه، إنك لجائر خان، ولئن كان مذهبك أن تعوض المهدي إليك من مالك، وقبلت ما اتهمك به عند من استكفاك، وبسط لسان عائبك، وأطمع فيك أهل عملك إنك لجاهل، وما فيمن أتى أمرًا لم يخل فيه من دناءة، أو خيانة، أو جهل مصطنع، نَحِّياه عن عمله".

"البيان والتبيين 3: 230".

ص: 235

‌طلب معاوية البيعة ليزيد

‌مدخل

طلب معاوية البيعة ليزيد:

لما كانت سنة ثلاث وخمسين، أظهر معاوية عهدًا مفتعلا، فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطي الأقارب، ويداني الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس.

فقال لعبد الله بن الزبير: "ما ترى في بيعة يزيد؟ " قال: "يا أمير المؤمنين، إني أناديك ولا أناجيك1، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدم، وتفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التندم" فضحك معاوية وقال: "ثعلب رواغ! تعلمت السِّجَاعة2 عند الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك".

ثم التفت إلى الأحنف بن قيس، فقال:"ما ترى في بيعة يزيد؟ ". قال: "نخافكم إن صدقناكم، ونخاف الله إن كذبنا".

فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم3، وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية، وقال له:"ما ترى في بيعة يزيد؟ "، فقال: يا أمير المؤمنين ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إلي رشدًا من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنيا في المال، وسطا في الحسب، وإن الله سائل كل راعٍ عن رعيته، فاتق الله،

1 ناجيته: ساررته.

2 وفي العقد "الشجاعة" وهو تصحيف، ولم أجد "سجاعة" في كتب اللغة، وإنما الذي فيها هو "سجع" كشمس مصدر سجع كقطع، وأرى أنها سجاعة ككتابة، وقد ورد في كلام المبرد:"فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضربا من السجاعة لأمور تكون.. الخ".

3 هكذا ورد في العقد الفريد، وفي مروج الذهب: أن وفود تلك الوفود كان سنة تسع وخمسين، والمفهوم مما ورد في الإمامة والسياسة أن وفودها كان قبل سنة 50، وفي حياة الحسن بن علي رضي الله عنه كما يتبين لك مما سيرد بعد "وقد توفي الحسن سنة 49، أو سنة 50 أو سنة 51".

ص: 236

وانظر من تُولِّي أمر أمة محمد" فأخذ معاوية بهر1 حتى تنفس الصعداء2، وذلك في يومٍ شاتٍ، ثم قال: "يا محمد: إنك امرؤ ناصح، قلت برأيك، ولم يكن عليك إلا ذاك. قال معاوية: إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، فابني أحب إلي من أبنائهم، اخرج عني".

ثم دعا الضحاك بن قيس الفهري، فقال له: إذا جلست على المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذا أذنت لك، فاحمد الله تعالى، واذكر يزيد، وقل فيه الذي يحق له من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته من بعدي. فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة3 وحسن القضاء، ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن معن السلمي، وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك، وأن يصدقوا قوله، ويدعوه إلى يزيد.

وجلس معاوية في أصحابه، وأذن للوفود، فدخلوا عليه، فخطبهم، فلما فرغ من بعض موعظته، وهؤلاء النفر في المجلس قد قعدوا للكلام قام الضحاك بن قيس، فاستأذن، فأذن له.

1 البهر بالفتح: العجب.

2 تنفس طويل.

3 أي أسأله أن يختار لنا الأفضل؛ خاره على غيره خيرة بكسر الخاء مع سكون الياء وفتحها: فضله وخار الله له في الأمر: جعل له فيه الخير.

ص: 237

223-

‌ خطبة الضحاك بن قيس الفهري:

فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أصلح الله أمير المؤمنين وأمتع به، إنا قد بلونا1 الجماعة والألفة، فوجدناها أحقنَ للدماء، وآمنَ للسبل، وخيرًا في العاقبة والآجلة، ولا خير لنا أن نترك سدى،

1خبرنا.

ص: 237

والأيام عوج1 رواجع، والأنفس يغدى عليها ويراح، والله يقول:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} . ولسنا ندري ما يختلف به العصران2، وأنت يا أمير المؤمنين ميت، كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه؛ نسأل الله تعالى بك المتاع، وقد رأينا من دعة يزيد ابن أمير المؤمنين، وحسن مذهبه، وقصد3 سيرته، ويمن نقيبته4، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين، والشبه بأمير المؤمنين، في عقله وسياسته وشيمته المرضية، ما دعانا إلى الرضا به في أمورنا، والقنوع به في الولاية علينا، فليوله أمير المؤمنين -أكرمه الله- عهده، وليجعله لنا ملجأ ومفزعًا بعده، نأوي إليه إن كان كَوْن5، فإنه ليس أحد أحق بها منه، فاعزم على ذلك، عزم الله لك في رشدك، ووفقك في أمورنا".

1 بمعنى رواجع جمع عائجة اسم فاعل من عاج إذا رجع: أي أن الأيام تعوج على الإنسان تسلبه ما أعطي من الحياة ومتع العيش.

2 العصر: اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس والغداة.

3 القصد: استقامة الطريق.

4 النقيبة: النفس، وهي أيضًا العقل، والمشورة، ونفاذ الرأي، والطبيعة.

5 أي إن حدث حدث.

ص: 238

224-

‌ خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي:

ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان مختلفة أهواؤه، قد احدودبت علينا سيساؤه1، واقطوطبت2 علينا أدواؤه، وأناخت علينا أنباؤه، ونحن نشير

1 السيساء: منتظم فقار الظهر، وحمله على سيساء الحق أي على حده، والعرب تضربه مثلا لشدة الأمر، قال الشاعر:

لقد حملت قيس بن عيلان حربنا

على يابس السيساء محدودب الظهر

يقول: حملناهم على مركب صعب كسيساء الحمار، أي حملناهم على ما لا يثبت على مثله.

2 اقطوطب: افعوعل من قطب، وقطب القوم: اجتمعوا، وقطب بين عينيه: جمع، والمراد: اجتمعت وتراكمت علينا أدواؤه، ولم أجد كلمة "اقطوطب" في كتب اللغة، وإنما الذي فيها "اقطوطى" أي قارب في مشيه إسراعًا.

ص: 238

عليك بالرشاد، وندعوك إلى السداد، وأنت يا أمير المؤمنين أحسننا نظرًا، وأثبتنا1 بصرًا، ويزيد ابن أمير المؤمنين قد عرفنا سيرته، وبلونا علانيته، ورضينا ولايته، وزادنا بذلك انبساطًا، وبه اغتباطًا2، مع ما منحه الله من الشبه بأمير المؤمنين، والمحبة في المسلمين، فاعزم على ذلك، ولا تضق به ذرعًا3، فالله تعالى يقيم به الأود4، ويردع به الألد5، ويؤمن به السبل، ويجمع به الشمل، ويعظم به الأجر، ويحسن به الذخر". ثم جلس.

1 لعله: "وأثقبنا".

2 بسط فلانًا فانبسط: سره، والاغتباط: المسرة.

3 ضاق بالأمر ذرعًا: ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصًا.

4 الاعوجاج.

5 الألد: الخصم الشحيح الذي لا يريغ إلى الحق.

ص: 239

225-

‌ خطبة ثور بن معن السلمي:

فقام ثور بن معن السلمي، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان، صاحبه مشاغب1، وظله ذاهب2، مكتوب علينا فيه الشقاء والسعادة، وأنت يا أمير المؤمين ميت، نسأل الله بك المتاع، ويزيد ابن أمير المؤمنين أقدمنا شرفًا، وأبذلنا عُرفًا3، وقد دعانا إلى الرضا به، والقنوع بولايته، والحرص عليه، والاختيار له، ما قد عرفنا من صدق لسانه ووفائه، وحسن بلائه. فاجعله لنا بعدك خلفًا، فإنه أوسعنا كنفًا4، وأقدمنا سلفًا، وهو رتق لما فتق، وزمام لما شعث5، ونكال لمن فارق ونافق، وسلم لمن واظب، وحافظ للحق، أسأل الله لأمير المؤمنين أفضل البقاء والسعادة، والخيرة فيما أراد، والتوطن في البلاد، وصلاح أمر جميع العباد.

ثم جلس.

1 صاحبه يعني به معاوية، أي يشاغبه المشاغبون، اسم مفعول من الشغب: وهو تهييج الشر.

2 كناية عن دنو أجله.

3 المعروف.

4 الكنف: الظل والجانب.

5 شعث الأمر، كفرح شعثا: انتشر وتفرق.

ص: 239

226-

‌ خطبة عبد الله بن عصام الأشعري:

فقام عبد الله بن عصام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إنا قد أصبحنا في دنيا منقضية، وأهواء منجذمة1، نخاف حدها، وننتظر جدها، شديد منحدرها، كثير وعرها، شامخة مراقبها2، ثابتة مراتبها، صعبة مراكبها، فالموت يا أمير المؤمنين وراءك ووراء العباد، لا يخلد في الدنيا أحد، ولا يبقى لنا أمد3، وأنت يا أمير المؤمنين مسئول عن رعيتك، ومأخوذ بولايتك، وأنت أنظر الجماعة، وأعلى عينًا بحسن الرأي لأهل الطاعة، وقد هُدِيتَ ليزيد في أكمل الأمور، وأفضلها رأيًا، وأجمعها رضًا، فاقطع بيزيد قالة4 الكلام، ونخوة5 المبطل، وشعث المنافق، واكبت6 به الباذخ7 المعادي، فإن ذلك ألم للشعث، وأسهل للوعث8، فاعزم على ذلك، ولا تترامى بكل الظنون"

1 جذمه فانجذم: قطعه.

2 المراقب: جمع مرقب "كجعفر" المكان المشرف، يقف عليه الرقيب.

3 الأمد: الغاية والمنتهى.

4 قالة: جمع قائل، أو مصدر قال كالقول، والقال، والقيل.

5 الكبر والعظمة.

6 كبته: صرعه وأخزاه، ورد العدو بغيظه، وأذله.

7 بذخ كفرح ونصر: تكبر وعلا، وشرف باذخ: عالٍ.

8 وعث الطريق من بابي تعب وقرب: إذا شق على السالك، فهو وعث "بسكون العين وكسرها".

ص: 240

227-

‌ خطبة عبد الله بن مسعدة الفزاري:

ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إن الله قد آثرك بخلافته، واختصك بكرامته، وجعلك عصمة لأوليائه، وذا نكاية لأعدائه، فأصبحت بأنعمه جذلا،

ص: 240

ولما حَمَّلك محتملا، يكشف الله تعالى بك العمى1، ويهدي بك العدا، ويزيد ابن أمير المؤمنين أحسن الناس برعيتك رأفة وأحقهم بالخلافة بعدك، قد ساس الأمور وأحكمته الدهور، ليس بالصغير الفهيه2، ولا بالكبير السفيه، قد احتجن3 المكارم وارتجي لحمل العظائم، وأشد الناس في العدو نكاية، وأحسنهم صنعا في الولاية، وأنت أغنى بأمرك، وأحفظ لوصيتك، وأحرز لنفسك، أسأل الله لأمير المؤمنين العافية في غير جهد4، والنعمة في غير تغيير".

1 العمى هنا: ذهاب بصر القلب.

2 الفهيه والفه: العيي، فهه كفرح فهاهة.

3 احتجن المال: ضمه واحتواه.

4 المشقة.

ص: 241

228-

‌ خطبة عمرو بن سعيد الأشدق:

فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق: قم يا أبا أمية، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد: فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع، إن استضعفتم إلى حلمه وسعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم، جَذَعٌ1 قارِحٌ2،سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع ففاز سهمه، فهو خلف أمير المؤمنين، ولا خلف منه". فقال له معاوية: "اجلس أبا أمية. فلقد أوسعت وأحسنت".

قال معاوية: "أوكلكم قد أجمع على هذا رأيه؟ " فقالوا: "كلنا قد أجمع رأيه على ما ذكرنا". قال: "فأين الأحنف؟ " فأجابه، قال:"ألا تتكلم؟ " فقام الأحنف.

1 الجذع: الشاب الحدث.

2 أي شديد مجرب، وهو في الأصل وصف للفرس، قرح الفرس قروحًا: إذا ألقى أقصى أسنانه "وله أربع أسنان يتحول من بعضها إلى بعض، يكون جذعًا -وذلك إذا كان في السنة الثانية- ثم ثَنِيًّا "بفتح فكسر مع تشديد الياء" -في السنة الثالثة- ثم رَبَاعِيًا "بفتح أوله وثانيه وتخفيف الياء"- إذا سقطت رباعيته، ونبت مكانها سن، وذلك إذا استتم الرابعة -ثم قارحًا- إذا سقطت السن التي تلي رباعيته ونبت مكانها نابه، وهو قارحه الذي صار به قارحًا، وليس بعد القروح سقوط سن، ولا نبات سن، وذلك إذا استتم الخامسة ودخل السادسة".

ص: 241

229-

‌ خطبة الأحنف بن قيس:

فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:

"أصلح الله أمير المؤمنين، إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف1، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف، فإن توله عهدك، فعن غير كبر مفنٍ، أو مرض مضنٍ، وقد حلبت الدهور2، وجربت الأمور، فاعرف من تسند إليه عهدك، ومن توليه الأمر من بعدك، واعصِ رأي من يأمرك، ولا يقدر لك، ويشير عليك ولا ينظر لك، وأنت أنظر للجماعة، وأعلم باستقامة الطاعة، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن3 حيًّا".

1 مستأنف.

2 هكذا في مروج الذهب. وفي الإمامة والسياسة: "وقد حلبت الدهر أشطره" وأصله من حلب شطري الناقة "بفتح الشين" ولها شطران: قادمان وآخران "بكسر الخاء" والشطر كل خلفين من أخلافها، والخلف "بكسر الخاء" لها كالضرع للبقرة، وهو مثل يضرب للمجرب، وأشطره بدل من الدهر منصوب.

3 هذا وما ورد في كلام الضحاك والأحنف بعد، يدل على أن تلك الخطب كانت في حياة الحسن بن عليّ كما أشرنا إليه قبل.

ص: 242

230-

‌ خطبة الضحاك بن قيس:

فغضب الضحاك بن قيس، فقام الثانية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أصلح الله أمير المؤمنين، إن أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في أنفسهم الشقاق، وألفتهم في دينهم الفراقُ، يرون الحق على أهوائهم1، كأنما ينظرون

1 أي على أغراضهم وميولهم.

ص: 242

بأقفائهم، اختالوا جهلا وبطرًا. لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة، اتخذوا إبليس لهم ربًّا، واتخذهم إبليس حزبًا، فمن يقاربوه لا يسروه، ومن يفارقوه لا يضروه. فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين في نحورهم، وكلامهم في صدورهم، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة، ولا يحجب غيرُ الذكرِ العَصَبَةَ. فوطنوا أنفسكم يأهل العراق على المناصحة لإمامكم. وكاتب نبيكم1 وصهره2، يسلم لكم العاجل، وتربحوا من الآجل".

1 وكان معاوية من كتاب الوحي.

2 وكانت أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 243

231-

خطبة الأحنف بن قيس:

ثم قام الأحنف بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"يا أمير المؤمنين: إنا قد فررنا1 عنك قريشًا، فوجدناك أكرمها زندًا، وأشدها عقدًا، وأوفاها عهدًا، وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة2 ولم تظهر عليها قعصًا3، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الأمر من بعدك، فإن تفِ فأنت أهلُ الوفاء، وإن تغدر4 تعلم والله أن وراء الحسن خيولا جيادًا، وأذرعًا شدادًا، وسيوفًا حدادًا، إن تدنُ له شبرًا من غدرٍ، تجد وراءه باعًا من نصر، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا عليًّا وحسنًا منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك خبر من السماء، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها، لبين جوانحهم، وايم الله إن الحسن لأحب إلى أهل العراق من عليٍّ".

1 فر الدابة: كشف عن أسنانها لينظر ما سنها، وفر عن الأمر: بحث عنه.

2 فتح البلد عنوة: أي قهرًا.

3 مات قعصًا: أصابته ضربة أو رمية، فمات مكانه.

4 غدره وغدر به كنصر وضرب وسمع.

ص: 243

232-

خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي:

ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أصلح الله أمير المؤمنين، إن رأي الناس مختلف، وكثير منهم منحرف، لا يدعون أحدًا على رشاد، ولا يجيبون داعيًا إلى سداد، مجانبون لرأي الخلفاء، مخالفون لهم في السنة والقضاء، وقد وقفت ليزيد في أحسن القضية، وأرضاها لحمل الرعية، فإذا خار الله لك فاعزم، ثم اقطع قالة الكلام، فإن يزيد أعظمنا حلمًا وعلمًا، وأوسعنا كنفًا، وخيرنا سلفًا، قد أحكمته التجارب، وقصدت به سبل المذاهب، فلا يصرفنك عن بيعته صارف، ولا يقفن بك دونها واقف، ممن هو شاسع1 عاصٍ، ينوص2 للفتنة كل مناص، لسانه ملتوٍ، وفي صدره داءٌ دويّ، إن قال فشرُّ قائل، وإن سكت فداءٌ غائلٌ3، قد عرفنا من هم أولئك، وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق، والتكلف للتفريق، فاجْلُ ببيعته عنا الغمة، واجمع به شمل الأمة، ولا تحد عنه إذا هديت له، ولا تنبش عنه إذ وفقت له، فإن ذلك الرأي لنا ولك، والحق علينا وعليك. أسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك بمنه".

1 من شسع المنزل كمنع: بعد.

2 ناص مناصًا: تحرك.

3 من غاله: أي أهلكه.

ص: 244

233-

‌ خطبة معاوية:

فقام معاوية، فقال:

"أيها الناس: إن لإبليس من الناس إخوانًا وخلانًا، بهم يستعد، وإياهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعًا أوجفوا1، وإن استغنى عنهم أرجفوا2،

1 أسرعوا، وجف البعير والفرس وجيفا: عدا، وأوجفته: إذا أعديته، قال تعالى:{فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي ما أعملتم.

2 أرجف القوم: خاضوا في أخبار الفتن ونحوها، قال تعالى:{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} .

ص: 244

ثم يلقحون1 الفتن بالفجور، ويشققون لها حطب النفاق، عيابون مرتابون، إن لووا عروة أمر حنفوا، وإن دُعُوا إلى غيٍّ أسرفوا، وليسوا أولئك بمنتهين ولا بمقلعين ولا متعظين، حتى تصيبهم صواعق2 خزي وبيل، وتحل بهم قوارع3 أمر جليل، تجتث4 أصولهم كاجتثاث أصول الفقع، فأولى لأولئك ثم أولى، فإنا قد قدمنا وأنذرنا، إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر5".

1 في الأصل "يلحقون" وهو تحريف، وصوابه:"يلقحون" من ألقح الناقة والنخلة.

2 جمع صاعقة: وهي الموت وكل عذاب مهلك. وأرض وبيلة: وخيمة المرتع.

3 جمع قارعة، وهي الداهية الفاجئة. قال تعالى:{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} .

4 تقتلع، والفقع بالفتح ويكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة.

5 النذر: الإنذار. قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي إنذاري، وفي الإمامة والسياسة عقب هذه الخطبة:"فدعا معاوية الضحاك، فولاه الكوفة، ودعا عبد الرحمن فولاه الجزيرة".

ص: 245

234-

‌ خطبة يزيد بن المقنع:

ثم قام يزيد بن المقنع، فقال:

"أمير المؤمنين هذا -وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا -وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا -وأشار إلى سيفه"، فقال معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء.

ص: 245

235-

‌ خطبة الأحنف:

ثم تكلم الأحنف بن قيس، فقال:

"يا أمير المؤمنين: أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة، فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم

ص: 245

منه غير ذلك، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين، وأنت تعلم من هما، وإلى ما هما، وإنما علينا أن نقول:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .

قال صاحب العقد: فتفرق الناس، ولم يذكروا إلا كلام الأحنف، ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية، فقال رجلٌ وقد دُعِيَ إلى البيعة:"اللهم إني أعوذ بك من شرِّ معاوية" فقال له معاوية: "تعوذ من شر نفسك، فإنه أشد عليك وبايع" فقال: "إني أبايع وأنا كاره للبيعة"، فقال له معاوية: بايع أيها الرجل، فإن الله يقول:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} .

أما ابن قتيبة فيقول:

قالوا: فاستخار اللهَ معاويةُ، وأعرض عن ذكر البيعة، حتى قدم المدينة سنة خمسين، فتلقاه الناس، فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه ألا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر، فلما جلسوا تكلم معاوية فقال:

ص: 246

236-

خطبة معاوية:

"الحمد لله الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيرًا، كما أنعم علينا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد، فإني قد كبر سني، ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن أُدعى فأجيب، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي بزيد، ورأيته لكم رضًا، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن أحضر حسنًا وحسينًا إلا أنهما أولاد أبيهما، على حسنِ رأيي فيهما، وشديدِ محبتي لهما، فردُوا على أمير المؤمنين خيرًا، يرحمكم الله".

ص: 246

237-

‌ خطبة عبد الله بن عباس:

فتكلم عبد الله بن عباس فقال:

"الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده، واستوجب علينا الشكر على آلائه، وحسن بلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وصلى الله على محمد وآل محمد. أما بعد: فإنك قد تكلمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإن الله جلَّ ثناؤه، وتقدست أسماؤه، اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم لرسالته، واختاره لوحيه، وشرفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرف به، وأولاهم بالأمر أخصهم به، وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذ اختاره الله لها، فإنه إنما اختار محمدًا بعلمه، وهو العليم الخبير، وأستغفر الله لي ولكم".

ص: 247

238-

‌ خطبة عبد الله بن جعفر:

فقام عبد الله بن جعفر فقال:

"الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه، نحمده على إلهامنا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقه، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدًا صَمَدًا1، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى اله عليه وسلم. أما بعد: فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن: فـ {أُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وإن أخذ فيها بسنة رسول الله، فأولوا رسول الله، وإن أخذ بسنة الشيخين أبي بكر وعمر، فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وايم الله لو وَلُوه بعد نبيهم، لوضعوا الأمر موضعه، لحقه وصدقه، ولأطيع الله، وعُصِيَ الشيطان، وما اختلف في الأمة سيفان، فاتق الله يا معاوية، فإنك قد صرت راعيًا ونحن رعية، فانظر لرعيتك، فإنك مسئول عنها غدًا،

1 الصمد: السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج: أي يقصد، صمده من باب نصر: قصده.

ص: 247

وأما ما ذكرت من ابنَيْ عمي، وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما، وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم، فقل أو دع، وأستغفر الله لي ولكم".

ص: 248

239-

‌ خطبة عبد الله بن الزبير:

فتكلم عبد الله بن الزبير فقال:

"الحمد لله الذي عرفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة، تتناولها بمآثرها السنِيَّة، وأفعالها المرضية، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتق الله يا معاوية، وأنصف من نفسك، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صل الله عليه وسلم، وعليٌّ خلَّف حسنًا وحسينًا، وأنت تعلم من هما، وما هما، فاتق الله يا معاوية، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك".

ص: 248

240-

‌ خطبة عبد الله بن عمر

"المتوفي سنة 74هـ":

فتكلم عبد الله بن عمر فقال:

الحمد لله الذي أكرمنا بدينه، وشرفنا بنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد: فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية، ولا قيصرية، ولا كسروية، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشوى، إلا على أن الخلافة ليست شرطًا مشروطًا، وإنما هي في قريش خاصة، لمن كان لها أهلا، ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم، من كان أتقى وأرضى، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها، واعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئًا".

ص: 248

241-

خطبة معاوية:

فتكلم معاوية فقال:

"قد قلت وقلتم، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فابني أحب إلي من أبنائهم، ومع أن ابني إن قاولتموه1 وجد مقالا، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَّى الناس أبا بكر وعمر، من غير مَعْدِن الملك ولا الخلافة، غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يابن الزبير وأنت يابن عمر منها، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله". ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئًا من صلاتهم وأعطياتهم2، ثم انصرف راجعًا إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.

قال ابن قتيبة: ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله "سنة 51" إلا يسيرًا حتى بايع ليزيد بالشام، وكتب ببيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه بذلك، وأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة، ثم يبايعوا ليزيد، فلما قرأ كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش، وكتب إلى معاوية: إن قومك قد أبو إجابتك إلى بيعتك ابنك، فأرني رأيك، فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله، ويخبره أنه قد وَلَّى المدينة سعيد بن العاص، فخرج مروان مغاضبًا في أهل بيته وأخواله من بني كنانة حتى أتى دمشق، ودخل على معاوية، فسلم عليه بالخلافة، ثم قال:

1 قاول: فاعل من القول، كحادث وخاطب وكالم.

2 أعطيات: جمع أعطية، وهو جمع عطاء.

ص: 249

242-

‌ خطبة مروان بن الحكم:

"إن الله عظيم خطره، لا يقدر1 قادر قدره، خلق من خلقه عبادًا، جعلهم لدعائم دينه أوتادًا. هم رقباؤه على البلاد، وخلفاؤه على العباد، أسفر2 بهم الظُّلَم، وألف بهم الدين، وشدد بهم اليقين، ومنح بهم الظفر، ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من خلفائنا، يعرفون ذلك في سالف زمامنا، وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا، وعلى من خالف عنها أعوانا، يشد بنا العضد، ويقام بنا الأود، ونستشار في القضية، ونستأمر3 في أمر الرعية، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستحيرة4، ذات وجوه مستديرة، تفتح بأزمة الضلال، وتحلس5 بأسوأ الرحال، يؤكل جزورها6، وتمتق أحلابها7، فما لنا لا نستأمر في رضاعها، ونحن فطامها وأولاد فطامها، وايم الله لولا عهود مؤكدة، ومواثيق معقدة8، لأقمت أود وليها، فأقم الأمر يابن أبي سفيان، واعدل عن تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظراء، وأن لهم على مناوأتك وزراء".

فغضب معاوية من كلامه غضبًا شديدًا، ثم كظم غيظه بحلمه، وأخد بيد مروان، ثم قال:

1 قدره من بابي قصر وضرب وقدره تقديرًا: عظمه، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه.

2 سفر الصبح وأسفر: أضاء وأشرق، أو هو متعد من سفرت الحرب أي ولت، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها، فالمعنى كشف بهم الظلم.

3 الاستئمار: المشاورة.

4 في الأصل "مستخيرة" أي مستخير صاحبها، من استخار الله في أمره: طلب أن يجعل له فيه الخير، وأرى أنها "مستحير" بالحاء: أي مستحير صاحبها أي متحير، من استحار: إذا نظر إلى الشيء، فغشي عليه، ولم يهتد لسبيله، ويؤيد هذا قوله بعد:"ذات وجوه مستديرة" أي مستغلقة مبهمة ليست مستقيمة.

5 حلس البعير كضربه: غشاه بحلس "بكسر الحاء" وهو كساء على ظهر البعير تحت البرذعة، وفي الأصل:"وتجلس بأسوأ الرجال" بجيمين وهو تصحيف".

6 الجزور: البعير، أو خاص بالناقة المجزورة.

7 امتق الفصيل ما في الضرع شربه كله، والأحلاب جمع حلب "بفتحتين" وهو اللبن المحلوب.

8 اسم مفعول من عقد بالتشديد مضعف عقد الحبل والبيع والعهد: إذا شده.

ص: 250

243-

خطبة معاوية:

"إن الله قد جعل لكل شيء أصلا، وجعل لكل خير أهلا، ثم جعلك في الكرم مني محتدا1، والعزيز مني والدا، اختِرْتَ من قروم2ٍ قادة، ثم استُلِلْتَ سيد سادة، فأنت ابن ينابيع الكرم، فمرحبا بك وأهلا من ابن عم، ذكرت خلفاء مفقودين، شهداء صديقين، كانوا كما نعتَّ، وكنت لهم كما ذكرتَ، وقد أصبحنا في أمور مستحيرة، ذات وجوه مستديرة، وبك والله يابن العم نرجو استقامة أودها، وذلولة3 صعوبتها، وسفور ظلمتها، حتى يتطأطأ4 جسيمها، ويركب بك عظيمها، فأنت نظير أمير المؤمنين، وعدته في كل شديدة وعضده، والثاني بعد ولي عهده، فقد وليتك قومك، وأعظمت في الخراج سهمك، وأنا مجيزٌ وَفْدَكَ، ومحسنٌ رَفْدَكَ5، وعلى أمير المؤمنين غناك، والنزول عند رضاك6".

1 المحتد: الأصل.

2 جمع قرم بالفتح: وهو السيد.

3 هكذا في الأصل، وفي كتب اللغة:"الذل بالكسر والضم اللين وهو ضد الصعوبة، ذل فهو ذلول، يكون في الإنسان والدابة".

4 طأطأ رأسه: خفضه فتطأطأ.

5 الرفد: العطاء والصلة.

6 قال المسعودي: "وجعله ولي عهد يزيد: ورده إلى المدينة، ثم إنه عزله عنها، وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولم يفِ لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد"، وقال ابن قتيبة:"فكان أول ما رزق ألف دينار في كل هلال، وفرض له في أهل بيته مائة مائة".

ص: 251

244-

‌ مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر:

وروى أن مروان لما ورد عليه كتاب معاوية، قرأه على أهل المدينة وقال:

"إن أمير المؤمنين قد كبُر سِنُهُ، ودقَّ عظمُهُ، وقد خاف أن يأتيه أمر الله تعالى، فيدع الناس كالغنم لا راعي لها، وقد أحب أن يُعْلِمَ عَلَمًا، ويقيم إمامًا"، فقالوا: وفق الله أمير المؤمنين وسدده، ليفعل، فكتب بذلك إلى معاوية، فكتب إليه أن سَمِّ يزيد،

ص: 251

فقرأ الكتاب عليهم وسمى يزيد، وخطبهم، فحضهم على الطاعة، وحذرهم الفتنة، ودعاهم إلى بيعة يزيد وقال: سنة أبي بكر الهادية المهدية، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال:"كذبت والله يا مروان، وكذب معاوية معك، إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة، وبايع لرجل من بني عدي رضي دينه وأمانته، واختاره لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يكون ذلك، لا تحدثوا علينا سنة الروم، كلما مات هرقل قام مكانه هرقل، فقال مروان: "أيها الناس: إن هذا المتكلم هو الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي 1} ، فقال له عبد الرحمن:

1 أخرج: أبعث، قال صاحب الأمالي:"فسمعت ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: ألابن الصديق يقول هذا؟ استروني فستروها، فقالت: كذبت والله يا مروان إن ذلك لرجل معروف نسبه"، وقال المفسرون في هذه الآية:"والمراد "بالذي قال" الجنس القائل ذلك القول، وعن الحسن: هو في الكافر العاق لوالديه، المكذب بالبعث، وعن قتادة: نعت عبد سوء: عاق لوالديه، فاجر لربه، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى الإسلام، فأفف بهما، وقال: ابعثوا إليَّ جدعان بن عمرو، وعثمان بن عمرو -وهما من أجداده- حتى أسألهما عما يقول محمد، ويشهد ببطلانه أن المراد بـ "الذي قال" جنس القائلين ذلك، وأن قوله:{الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} هم أصحاب النار، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وعن عائشة رضي الله عنهما إنكار نزولها فيه، وحين كتب معاوية إلى مروان أن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: يأيها الناس هو الذي قال الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ}

فسمعت عائشة، فغضبت، وقالت:"والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، أما أنت يا مروان، فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله" أ. هـ.

"وقولها: فضض كجبل ويروى كعتق وغراب أي قطعة منها".

وجاء في السيرة الحلبية "1: 302": "عن الواقدي، استأذن الحكم بن أبي العاص على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته، فقال: "ائذنوا له لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منهم -وقليل ما هم- ذوو مكر وخديعة، يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق"، وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي إليه بمروان لما ولد، فقال: هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون" وعن جبير بن مطعم: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر الحكم بن أبي العاص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ويل لأمتي مما في صلب هذا".

وجاء في أسد الغابة في ترجمته: "ذكره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، في هجائه لعبد الرحمن بن الحكم، فقال:

إن اللعين أبوك فارم عظامه

إن ترم ترم مخلجا مجنونا

وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم، مع حلمه وإغضائه على ما يكره، ما فعل به ذلك إلا لأمر عظيم"، وجاء في الفخرى ص108 "ورويت أحاديث وأخبار في لعنة الحكم بن أبي العاص، ولعنة من في صلبه، وضعفها قوم".

ص: 252

"يابن الزرقاء1، أفينا تتأول القرآن؟ " وتكلم الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وأنكروا بيعة يزيد، وتفرق الناس، فكتب مروان إلى معاوية بذلك.

قال ابن قتيبة: قدم معاوية المدينة حاجًّا، ثم أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عباس فحضرا، وابتدأ معاوية فقال:

1 في الفخرى ص108 "وكان من أراد ذم مروان وعيبه يقول له يابن الزرقاء" قالوا: وكانت الزرقاء جدتهم من ذوات الرايات التي يستدل بها على بيوت البغايا في الجاهلية، فلذلك كانوا يذمون بها".

ص: 253

245-

خطبة معاوية:

"أما بعد: فالحمد لله ولي النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله، المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا، وأن محمدًا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة، لينذرهم بقرآن:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، فأدى عن الله، وصدع1 بأمره، وصبر على الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله، وأعز أولياءه، وقمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه، وقد ترك من الدنيا ما بُذِلَ له، واختار منها الترك لما سُخِّرَ له، زهادة واختيارًا لله، وأنفة واقتدارًا على الصبر، وبغيًا لما يدوم ويبقى، وهذه صفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خلفه رجلان محفوظان، وثالث مشكوك، وبين ذلك خوض طالما عالجناه، مشاهدة

1 قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي شق جماعاتهم، بالتوحيد أو اجهر بالقرآن، أو أظهر أو احكم بالحق وافصل بالأمر، أو اقصد بما تؤمر، أو افرق به بين الحق والباطل.

ص: 253

ومكافحة، ومعاينة وسماعًا، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية، من سد الخلل، ولَمِّ الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة، ما أعياني مثله عندكما، وعند غيركما، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصم1 الصلاب، وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة، قدم على الصديق والفاروق، ومن دونهما من أكابر الصحابة، وأوائل المهاجرين، يوم غزوة ذات السلاسل2، من لم يقارب القوم، ولم يعاندهم3، برتبة في قرابة موصولة، ولا سنة مذكورة، فقادهم الرجل بأمره، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئه، وقال ولم يُقَلْ معه، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فمهلا بني عبد المطلب، فإنا وأنتم شِعْبَا نفعٍ وجِدّ، وما زلتُ أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما، فرُدَّا على ذي رحم مستعتب، ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما".

فتيسر ابن عباس للكلام، ونصب يده للمخاطبة، فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر، فأمسك ابن عباس، فقام الحسين:

1 الصم جمع أصم: وهو الحجر الصلب المصمت.

2 غزوة ذات السلاسل، وهي وراء وادي القرى من أرض بني عذرة: غزاها سرية عمرو بن العاص سنة ثمانٍ للهجرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه يستنفر العرب إلى الشأم، فلما كان على ماء بأرض جذام، يقال له: السلسل -وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل- خاف، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا، فخرج أبو عبيدة، حتى إذا قدم عليه، قال له عمرو: إنما جئت مددًا لي، قال أبو عبيدة: لا، ولكني على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت عليه -وكان أبو عبيدة رجلا لينًا سهلا، هينًا عليه أمر الدنيا- فقال له عمرو: بل أنت مدد لي، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك، قال: فإني الأمير عليك، وأنت مدد لي، قال: فدونك، فصلى عمرو بالناس.

3 المعاندة: المفارقة، أي ولم يمتز عليهم برتبة.

ص: 254

246-

‌ خطبة الحسين:

فحمد الله، وصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

"أما بعد يا معاوية، فلن يؤدي القائل -وإن أطنب- في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جميعٍ جزءًا، قد فهمتُ ما ألبستَ1 به الخلفَ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من إيجاز الصفة، والتَّنَكُّبِ عن استبلاغ البيعة، وهيهاتَ هيهاتَ يا معاوية! فضحَ الصبحُ فحمةَ الدُّجَى، وبهرتِ2 الشمسُ أنوارَ السرج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد، من اكتماله وسياسته لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوبًا، أو تنعت غائبًا، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه3 الكلاب المتهارشة4 عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات5 ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرًا، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور، وحَنَقًا في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضةٌ، فتقدِم على عمل محفوظ. في يوم مشهود، ولاتَ حين مناصٍ، ورأيتك عَرَّضْتَ بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثًا، ولقد -لعمر الله- أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام

1 ألبسه: غطاه.

2 يقال: بهر القمر كمنع: غلب ضوءه الكواكب، والسرج جمع سراج: وهو المصباح.

3 استقراء الأشياء: تتبع أفرادها.

4 المهارشة: تحريش بعضها على بعض.

5 جمع قينة: وهي الجارية المغنية أو أعم، والمعازف: الآلات التي يضرب بها كالعود، جمع معزف كمنبر.

ص: 255

ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول عليه الصلاة والسلام، فأذعن للحجة بذلك، ورده الإيمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية، من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك1، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأميره له، وقد كان ذلك، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة، بصحبة الرسول وبيعته له وما صار لعمرٍو يومئذ حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه وعدُّوا عليه أفعاله، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا جرم2 معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري". فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحوال، وأولاها بالمجتمَعِ عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعًا، وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، وتتخطاهم إلى مسرفٍ مفتونٍ؟ تريد أن تلبس الناس شبهة، يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك، إن هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم".

فنظر معاوية إلى ابن عباس، فقال: ما هذا يابن عباس، ولما عندك أدهى وأمرّ! فقال ابن عباس: لعمر الله، إنها لذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد أصحاب الكساء3، ومن البيت المطهر، فالْهَ عما تريد، فإن لك في الناس مقنعًا، حتى يحكم الله بأمره، وهو خير الحاكمين، فقال معاوية: أعود4 الحلم التحلم، وخيرُه التحلمُ عن الأهل، انصرفا في حفظ الله.

ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، فجلسوا.

1 مسهل عن هنأ، يقال: هنأه الطعام: إذا ساغ ولذ، أي فهنيئًا لك ما نلت من الخلافة.

2 لا جرم: قال الفراء "هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقًّا، فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب بها عن القسم، ألا تراهم يقولون: "لا جرم لآتينك".

3 انظر ص32.

4 أعود: أنفع، والعائدة: المنفعة.

ص: 256

247-

خطبة معاوية:

فحمد الله، وأثنى عليه معاوية، ثم قال:

"يا عبد الله بن عمر: قد كنت تحدثنا أنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وأن لك الدنيا وما فيها، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملئهم1، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وَكَّدَ الناسُ بيعتهم في أعناقهم. وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم". ثم سكت.

1 الملأ: الجماعة.

ص: 257

248-

خطبة عبد الله بن عمر:

فتكلم عبد الله بن عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد: يا معاوية، لقد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدًا، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم، وأنت تحذرني أن أشق عصا المسلمين، وأفرق مَلأهم، وأسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس، فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد".

فقال معاوية: يرحمك الله، ليس عندك خلاف، ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر، فقال له عبد الرحمن: إنك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنها شورى، أو لأعيدنها جَذَعَة، ثم قام ليخرج، فتعلق معاوية بطرف ردائه، ثم قال: على رسلك

ص: 257

اللهم اكفنيه بما شئت، لا تظهرن لأهل الشام، فإني أخشى عليك منهم، ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثم قال له: أنت ثعلب رواغ، كلما خرجت من جحر انجحرت1 في آخر، أنت أَلَّبْتَ2 هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه.

فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع؟ أنطيعك أم نطيعه، إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه، فكثر كلامه وكلام ابن الزبير، حتى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلا قاتلا نفسك، ولكأني بك قد تخبَّطْتَ في الحبالة، ثم أمرهم بالانصراف، واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج، ثم خرج، فأمر المنادي أن ينادي في الناس، أن يجتمعوا لأمر جامع، فاجتمع الناس في المسجد، وقعد هؤلاء حول المنبر.

1 أي دخلت، جحر الضب كمنع: دخل الجحر، وجحر فلان الضب: أدخله فيه، فانجحر.

2 التأليب: التحريض والإفساد.

ص: 258

249-

خطبة معاوية

فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر يزيد وفضله وقراءته للقرآن، ثم قال:

"يا أهل المدينة، لقد هممت ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة1 إلا بعثت إليها ببيعته، فبايع الناس جميعًا وسلموا، وأخرت المدينة بيعته، وقلتُ: بيضتُهُ2، وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة، منهم من كان أجدر أن يصلَه. ووالله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له".

فقام الحسين فقال: "والله لقد تركتَ مَن هو خيرٌ منه أبًا وأمًّا ونفسًا"! فقال معاوية: "كأنك تريد نفسك؟ " فقال الحسين: "نعم. أصلحكَ اللهُ"! فقال معاوية: "إذن أخبرك، أما قولك: خيرٌ منه أُمًّا، فلعمري أمك خيرٌ من أمه، ولو لم يكن إلا أنها امرأة من قريش، لكان نساء قريش أفضلهن، فكيف وهي ابنةُ رسول الله صلى

1 المدرة: المدينة.

2 جماعته وأصله.

ص: 258

الله عليه وسلم، ثم فاطمة في دينها وسابقتها؟ فأمك لعمر الله خير من أمه1، وأما أبوك فقد حاكم أباه إلى الله، فقضى لأبيه على أبيك". فقال الحسين:"حسبك جهلك، آثرت العاجل على الآجل". فقال معاوية: "وأما ما ذكرت من أنك خيرٌ من يزيدَ نفسًا، فيزيدُ والله خيرٌ لأمةِ محمدٍ منك". فقال الحسينُ: "هذا هو الإفك والزور! يزيدُ شاربُ الخمرِ، ومشتري اللهو خيرٌ مني! " فقال معاوية: "مهلا عن شتمِ ابنِ عمك؛ فإنك لو ذُكِرْتَ عنده بسوء لم يشتمك"، ثم التفتَ معاويةُ إلى الناس. وقال:

"أيها الناس: قد علمتم أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ ولم يستخلفْ أحدًا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعتُهُ بيعةَ هدًى، فَعَمِلَ بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يستخلفَ عمرَ، فعمل عمرُ بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفرٍ اختارَهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنع عمرُ ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظرًا للمسلمين، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد، لما وقع الناس فيه من الاختلاف. ونظرًا لهم بعين الإنصاف".

وروي من طريق آخر: أن معاويةَ لما خرج إلى المدينة ودنا منها، استقبله أهلها، فيهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأقبل على عبد الرحمن بن أبي بكر، فَسَبَّهُ وقال:"لا مرحبًا بك ولا أهلا"؛ فلما دخل الحسينُ عليه قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، بَدَنةٌ2 يترقرق دمُها والله مُهَرِيقُه"؛ فلما دخل ابن الزبير قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، ضبُّ تلعة3، مدخلُ رأسِه تحت ذنَبِهِ"؛ فلما دخل عبد الله بن عمر قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، وسَبَّهُ"، فقال:

1 وأم يزيد هي ميسون بنت بحدل الكلبية.

2 البدنة: من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة، للذكر والأنثى.

3 التلعة: ما ارتفع من الأرض وما انهبط منها.

ص: 259

"إني لست بأهل لهذه المقالة" قال: "بلى، ولما هو شرٌّ منها" فدخل معاوية المدينة وأقام بها، وخرج هؤلاء الرهط معتمرين، فلما كان وقت الحج خرج معاوية حاجًّا، فأقبل بعضهم على بعض، فقالوا: لعله قد ندم، فأقبلوا يستقبلونه، فلما دخل ابن عمر، قال:"مرحبًا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الفاروق، هاتوا لأبي عبد الرحمن دابة"، وقال لابن أبي بكر:"مرحبًا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق، هاتوا له دابة"، وقال لابن الزبير:"مرحبًا بابن حواريّ رسول الله صلى الله عله وسلم وابن عمته، هاتوا له دابة"، وقال للحسين: "مرحبًا بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب المسلمين، قربوا لأبي عبد الله دابة، وجعلت ألطافُهُ1 تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس، ويحسن إذنهم وشفاعتهم وحملهم على الدواب، وخرج حتى أتى مكة، فقضى حجة، ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدمت، وأمر بالمنبر فقرب من الكعبة، ثم أرسل إليهم، فاجتمعوا، وقال بعضهم لبعض: من يكلمه؟ فأقبلوا على الحسين فأبى، فقالوا لابن الزبير: هات، فأنت صاحبنا، قال: على أن تعطوني عهد الله أن لا أقول شيئًا إلا تابعتموني عليه، قالوا: لك ذلك، فأخذ عهودهم رجلا رجلا، فدخلوا عليه، فرحب بهم، وقال: قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وإنما أردت أن أقدمه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون، فسكتوا، فقال: أجيبوني، فسكتوا، فقال: أجيبوني، فسكتوا، فقال: لابن الزبير: هات؛ فأنت صاحبهم، قال:

1 الألطاف: جمع لطفة بالتحريك، وهي الهدية.

ص: 260

250-

خطبة عبد الله بن الزبير:

"نخيرك بين إحدى ثلاث، أيها أخذت فهي لك رغبة، وفيها خيار؛ إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبضه الله ولم يستخلفْ أحدًا، فرأى

ص: 260

المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم، وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا، وإن شئت، فما صنع عمر، جعلها شورى في ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا".

فقال معاوية: هل غير هذا؟ قال: لا، ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير، فقال معاوية: "إني أتقدم إليكم، وقد أعذرَ من أنذرَ، إني قائمٌ قائلٌ مقالة، فإياكم أن تعترضوا علي حتى أتمها، فإن صدقتُ فعليَّ صدقي، وإن كذبتُ فعليَّ كذبي، وأقسم بالله لئن ردَّ عليَّ رجلٌ منكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمتُهُ، حتى يُضرَب رأسُه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقي إلا عليها، وأمر أن يقوم على رأسِ كلِّ رجلٍ منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يردُّ بها عليه قولَه قتلاه، وخرجَ وأخرجهم معه، حتى رقِيَ المنبرَ، وحفَّ به أهلُ الشام، واجتمع الناسُ، فقام خطيبًا فقال:

ص: 261

251-

خطبة معاوية:

قال بعد حمد الله، والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار1، قالوا: إن حسينًا، وابن أبي بكر، وابن عمر، وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نبرم أمرًا دونهم، ولا نقضي أمرًا إلا عن مشورتهم، وإني دعوتهم، فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا، وسلموا، وأطاعوا".

قال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء؟ ائذن لنا، فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية، فقال معاوية: سبحان الله! ما أسرع الناسُ إلى قريشٍ بالشرِّ،

1 العوار: مثلثة: العيب.

ص: 261

وأحلى دماءهم عندهم، أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد، ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا ثم قربت رواحله، فركب ومضى، فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم: لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم. قالوا: لم نفعل. قالوا: بلى قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم؟

قالوا: خفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم.

"العقد الفريد 2: 247-157، الإمامة والسياسة 1: 121، ومروج الذهب 2: 69، والأمالي 2: 73، وذيل الأمالي ص177، وعيون الأخبار م2 ص210، 1: 95 والبيان والتبيين 1: 163-164".

ص: 262

‌تهنئة وتعزية:

252-

‌ خطبة عبد الله بن همام السلولي:

لما توفي معاوية واستخلف يزيد ابنه "سنة 60" اجتمع الناس على بابه، ولم يقدروا على الجمع بين تهنئة وتعزية، حتى أتى عبد الله بن همام السلولي، فدخل عليه، فقال:

"يا أمير المؤمنين، آجرك الله على الرزية، وبارك لك في العطية، وأعانك على الرعية، فلقد رزئت عظيمًا، وأعطيت جسيمًا، فاشكر الله على ما أعطيت، واصبر له على ما رزيت، فقد فقدت خليفة الله، ومنحت خلافة الله، ففارقت جليلا، ووهبت جزيلا، إذ قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، ووليت الرياسة، فأعطيت السياسة، فأوردك الله موارد السرور، ووفقك لصالح الأمور، وأنشد:

فاصبر يزيدُ فقد فارقت ذا ثقة

واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا1

لا رزء أصبح في الأقوام نعلمه

كما رزئت ولا عقبى كعقباكا

أصبحت والِيَ أمر الناس كلهم

فأنت ترعاهم والله يرعاكا

وفي معاوية الباقي لنا خلف

إذا نُعيتَ ولا نسمعْ بمنعاكا2

"وعبد الله بن همام هو أول من فتح الباب في الجمع بين تهنئة وتعزية، فولجه الناس، كما روي من غير وجه".

"زهر الآداب 1: 61، ونهاية الأرب 5: 215، وتهذيب الكامل 1: 16، والعقد الفريد 2: 35-141-250، ومروج الذهب 2: 93، والبيان والتبيين 2: 66".

1 أصفاه: آثره.

2 هو أبو ليلى معاوية بن يزيد.

ص: 263

253-

‌ خطبة عطاء بن أبي صيفي الثقفي:

وروى المسعودي أن يزيد بعد موت أبيه أذن للناس، فدخلوا عليه لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه، فقام عطاء بن أبي صيفي، فقال:

"السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أصبحت وقد رزئت خليفة الله وأعطيت خلافة الله، ومنحت هبة الله، وقد قضى معاوية نحبه، فغفر الله له ذنبه، وأعطيت بعده الرياسة، ووليت السياسة، فاحتسب1 عند الله أعظم الرزية، واحمده علي أفضل العطية".

"مروج الذهب 2: 93، والبيان والتبيين 2: 102،تهذيب الكامل 1: 16، وصبح الأعشى 9: 278، "والعقد الفريد 2: 35".

1 احتسب به أجرًا عند الله: اعتده ينوي به وجه الله "واحتسب ابنه إذا مات كبيرًا، فإن مات صغيرًا قيل: افترطه".

ص: 264

254-

‌ خطبة عبد الله بن مازن:

ثم قام عبد الله بن مازن، فقال:

"السلام عليك يا أمير المؤمنين، رزئت خير الآباء وسميت خير الأسماء، ومنحت أفضل الأشياء، فهناك الله بالعطية، وأعانك على الرعية، فقد أصبحت قريش مفجوعة ببعد ساستها، مسرورة بما أحسن الله إليها من الخلافة بك، والعقب من بعده، ثم أنشأ يقول:

الله أعطاك التي لا فوقها

وقد أراد الملحدون عوقها

عنك فيأبى الله إلا سوقها

إليك، حتى قلدوك طوقها

ثم قام عبد الله بن همام فخطب خطبته السالفة.

"مروج الذهب 2: 93"

ص: 264

255-

‌ خطبة غيلان بن مسلمة الثقفي:

وروى الجاحظ: أنه لما توفي عبد الملك، وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه، فأقبل غيلان بن مسلمة الثقفي، فسلم عليه، ثم قال:

"يا أمير المؤمنين، أصبحت قد رزئت خير الآباء، وسميت خير الأسماء، وأعطيت أفضل الأشياء، فعظم الله لك على الرزية الصبر، وأعطاك في ذلك نوافل1 الأجر، وأعانك على حسن الولاية والشكر، ثم قضى عبد الملك2 بخير القضية، وأنزله بأشرف المنازل المرضية، وأعانك من بعده على الرعية". "البيان والتبيين 2: 103".

1 النافلة في الصلاة وغيرها: الزيادة.

2 أي قضى على عبد الملك بإسقاط الجار.

ص: 265

‌خطب ولاة الأمويين وقوادهم

‌خطبته بفارس وقد كتب إليه معاويه يتهدده

خطب ولاة الأمويين وقوادهم خطب زياد بن أبيه المتوفى سنة 53:

256-

خطبته بفارس وقد كتب إليه معاوية يتهدده:

كان الإمام علي عليه السلام ولى زيادًا فارس -أو بعض أعمال فارس- فضبطها ضبطًا صالحًا، وجبى خراجها وحماها، فلما قُتِل الإمام بقي زيادٌ في عمله، وخاف معاوية جانبه، وعلم صعوبة ناحيته، وأشفق من ممالأته الحسن بن علي، عليه السلام، فكتب إليه يتهدده1، فغضب زياد غضبًا شديدًا، وجمع الناس، وصعد المنبر، فحمد الله، ثم قال:

"العجب من ابن آكلة الأكباد2، وقاتلة أسد الله، ومظهر الخلاف، ومسرِّ النفاق، ورئيس الأحزاب، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله، كتب إلي يرعد ويبرق3

1 ومما ورد في كتابه إليه قوله: "أمس عبد، واليوم أمير! خطة ما ارتقاها مثلك يابن سمية، وإذا أتاك كتابي هذا، خذ الناس بالطاعة والبيعة، وأسرع الإجابة، فإنك إن تفعل فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك بأضعف ريش؛ ونلتك بأهون سعي، وأقسم قسمًا مبرورًا أن لا أوتي بك إلا في زمارة، تمشي حافيًا من أرض فارس إلى الشأم، حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدًا، وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه".

2 هي هند أم معاوية، وذلك أنها بعد انتهاء غزوة أحد بقرت بطن حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذت كبده لتأكلها، فلاكتها ثم أرسلتها، وكان قد قتله وحشي مولى جبير بن مطعم، دعاه سيده، وقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة بعمي طعيمة فأنت حر.

3 رعد الرجل وبرق "كنصر" وأرعد وأبرق: تهدد وتوعد.

ص: 266

عن سحابة جفل1 لا ماء فيها، وعما قليل تصيرها الرياح قزعًا2، والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة، أفمن إشفاق علي تنذر وتعذر؟ كلا، ولكن ذهب إلى غير مذهب، وقعقع3 لمن رَوِيَ بين صواعق تهامة4، كيف أرهبه وبيني وبينه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين والأنصار؟ والله لو أذن فيه أو ندبني إليه، لأرينه الكواكب نهارًا، ولأسعطنه5 ماء الخردل دونه، الكلام اليوم، والجمع غدًا، والمشورة بعد ذلك إن شاء الله" ثم نزل.

"شرح ابن أبي الحديد م4 ص68، وتاريخ الطبري 6: 97".

1 الجفل: السحاب هراق ماءه ومضى.

2 القزع: قطع من السحاب رقيقة.

3 القعقعة: صوت الرعد، وتحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت؛ ومنه "ما يقعقع له بالشنان" وسيأتي تفسيره في خطبة الحجاج.

4 روي: ارتوى، والمراد نشأ وترعرع بينهما، ولعله "ربي" وذكروا أنه لما نصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزبير، وأظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق، ففزع الناس وأمسكوا عن القتال، فقام فيهم الحجاج، فقال:"أيها الناس لا يهولنكم هذا فإني أن الحجاج بن يوسف، وقد أصحرت لربي، فلو ركبنا عظيما لحال بيننا وبينه، ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعق تنزل بها".

5 سعطه الدواء كمنعه ونصره وأسمطه إياه: أدخله في أنفه.

ص: 267

257-

‌ خطبته وقد بعث معاوية إليه المغيرة بن شعبة يستقدمه:

وكتب إلى معاوية يرد عليه ردًّا شديد اللهجة1، فغم ذلك معاوية وأحزنه، وأوفد إليه المغيرة بن شعبة بكتاب يتلطف به فيه ويستدنيه منه، ويستلحقه بنسب أبيه

1 ونص كتابه إليه: "أما بعد، فقد وصل إليَّ كتابك يا معاوية، وفهمت ما فيه، فوجدتك كالغريق يغطيه الموج، فيتشبث بالطحلب، ويتملق بأرجل الضفادع طمعًا في الحياة، إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حادَّ الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا. فأما سبك لي فلولا حلمٌ ينهاني عنك، وخوفي أن أُدعَى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء. وأما تعبيرك لي بسمية، فإن كنت ابن سمية فأنت ابن حمامة. وأما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي، فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر؟ أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟ فامض الآن لطيتك، واجهد جهدك، فلست أنزل إلا بحيث تكره، ولا أجتهد إلا فيما يسوءك، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه، الظالع إليه والسلام".

ص: 267

أبي سفيان1، وجعل المغيرة يترفق به، وينصح له أن يصل حبله بحبله، ولا يقطع رحمه، فتريث زياد يومين أو ثلاثة يروي في أمره، ثم جمع الناس، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أيها الناس: ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم، ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم، فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان، وفكرت فيهم، فوجدتهم كالأضاحي.

في كل عيد يذبحون، ولقد أفنى هذان اليومان: يوم الجمل وصفين ما ينيف على مائة ألف، كلهم يزعم أنه طالب حق، وتابع إمام، وعلى بصيرة من أمره، فإن كان الأمر هكذا، فالقاتل والمقتول في الجنة، كلا: ليس كذلك ولكن أشكل الأمر، والتبس على القوم، وإني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ، فكيف لامرئ بسلامة دينه، وقد نظرت في أمر الناس، فوجدت أحمد العاقبتين العافية، وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته، فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله" ثم نزل.

وكتب إلى معاوية يستوثق منه2، فأعطاه معاوية جميع ما سأله، وكتب إليه بخط يده ما وثق به، فدخل إليه الشام، فقربه وأدناه، وأقره على ولايته، ثم استعمله على العراق.

"شرح ابن أبي الحديد م4: 69"

1 وكانت ديباجة كتابه إليه: "من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان" وفيه يقول: "وحملك سوء ظنك بي، وبغضك لي على أن عققت قرابتي، وقطعت رحمي، وبتت نسبي وحرمتني، كأنك لست أخي، وليس صخر بن حرب أباك وأبي! " وفي آخره يقول: "فإن أحببت جانبي ووثقت بي، فإمرة بإمرة؛ وإن كرهت جانبي، ولم تثق بقولي، ففعل جميل، لا عَلَيّ ولا لي والسلام".

2 وفي كتابه يقول: "إن كنت كتبت كتابك هذا عن عقد صحيح، ونية حسنة، وأردت بذلك برًّا، فستزرع في قلبي مودة وقبولا، وإن كنت إنما أردت مكيدة ومكرًا وفساد نية، فإن النفس تأبى ما فيه العطب، ولقد قمت يوم قرأت كتابك مقامًا يعيا به الخطيب المدره، فتركت من حضر، لا أهل ورد، ولا صدر، كالمتحيرين بمهمة ضل بهم الدليل، وأنا على أمثال ذلك قدير".

ص: 268

258-

‌ خطبته وقد استلحقه

معاوية:

ولما أراد معاوية استلحاق زياد، وقد قدم عليه الشام، جمع الناس وصعد المنبر، وأصعد زيادًا معه؛ فأجلسه بين يديه على المرقاة1 التي تحت مرقاته، وحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أيها الناس: إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد، فمن كان عنده شهادة فليقم بها"، فقام ناس، فشهدوا أنه ابن أبي سفيان، وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته2؛ فلما انقضى كلام معاوية ومناشدته، قام زياد وأنصت الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

1 المرقاة بفتح الميم وتكسر: الدرجة.

2 فقام أبو مريم السلولي – وكان خمارًا في الجاهلية فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان: قدم علينا الطائف، فأتاني؛ فاشتريت له لحمًا وخمرًا وطعامًا؛ فلما أكل قال: يا أبا مريم، أصب لي بغيًّا؛ فخرجت فأتيت سمية، فقلت لها: إن أبا سفيان من قد عرفت شرفه وجوده وقد أمرني أن أصيب له بغيًّا، فهل لك؟ فقالت: نعم يجيء الآن عبيد بغنمه –وكان راعيًا- فإذا تعشى ووضع رأسه أتيته؛ فرجعت إلى أبي سفيان فقلت لم أجد إلا جارية الحرث بن كلدة سمية، فقال: ائتني بها على ذفرها وقذرها، فقال له زياد: مهلًا يا أبا مريم؛ إنما بعثت شاهدًا، ولم تبعث شاتمًا، فقال أبو مريم: لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إليَّ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت، والله لقد أخذ بكم درعها، وأغلقت الباب عليهما، فلم ألبث أن خرج على يمسح جبينه، فقلت: مه يا أبا سفيان، فقال: ما أصبت مثلها يا أبا مريم لولا استرخاء من ثدييها، وذفر في إبطيها" -والدفر بالتحريك ويسكن: النتن، والذفر بالتحريك: كل ريح ذكية من طيب أو نتن أو يخص برائحة الإبط المنتنة- وكانت أمه سمية قد وهبها أبو الخير بن عمرو الكندي الحارث بن كلدة -وكان طبيبًا يعالجه- فولدت له على فراشه نافعًا، ثم ولدت أبا بكرة؛ فأنكر لونه، وقيل له إن جاريتك بغيٌّ، فانتفى من أبي بكرة ومن نافع، وزوجها عبيدًا وكان عبدًا لابنته، فولدت على فراشه زيادًا.

وذكروا أن عمر بن الخطاب كان قد بعث زيادًا في إصلاح فساد واقع باليمن؛ فلما رجع من وجهته خطب عند عمر خطبة لم يسمع بمثلها، وهو غلام حدث، وأبو سفيان حاضر، وعليٌّ عليه السلام، وعمرو بن العاص، فقال عمرو: لله أبو هذا الغلام لو كان قرشيًّا لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: أما والله =

ص: 269

"أيها الناس: هذا أمر لم أشهد أوله، ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهدت الشهود بما سمعتم؛ فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيعوا، فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب1 مشكور" ثم نزل.

"شرح ابن أبي الحديد 4: ص70، والعقد الفريد 2: 151، 3: 3، ومروج الذهب 2: 56، وذيل الأمالي ص189"

= إنه لقرشيّ، ولو عرفته لعرفت أنه خير من أهلك، فقال: ومن أبوه؟ قال: أنا والله وضعته في رحم أمه، قال: فهلا تستلحقه، قال: أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي".

ومن كتاب لعلي عليه السلام إلى زياد، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه:"وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس، ونزغة من نزغات الشيطان لا يثبت بها نسب، ولا يستحق بها إرث" فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها ورب الكعبة، ولم تزل في نفسه حتى نسب، ولا يستحق بها إرث" فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها ورب الكعبة، ولم تزل في نفسه حتى ادعاء معاوية، وكان يقال له: زياد بن عبيد، وزياد بن أبيه، وزياد ابن سمية، وزياد ابن أمه، ولما استلحق قال له أكثر الناس: زياد بن أبي سفيان، قال الطبري: توفي سنة 44 استلحق معاوية نسب زياد ابن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل".

1 الربيب هنا: زوج الأم.

ص: 270

‌خطبته حين ولى البصرة

259-

خطته حين ولي البصرة "وهي البتراء"

وقدم زياد البصرة "غرة جمادى الأولى سنة 45هـ" واليًا لمعاوية بن أبي سفيان، وضم إليه خراسان وسجستان، والفسق بالبصرة كثير فاش ظاهر؛ فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها، وقيل بل قال:

"الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعمًا فألهمنا شكرًا" أما بعد: فإن الجهالة الجهلاء1، والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم2، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا

1هذا الوصف توكيد للمبالغة، ومثله: وتد واتد، وهمج هامج، وليلة ليلاء، ويوم أيوم "أي شديد، أو آخر يوم في الشهر".

2 عقلاؤكم.

ص: 270

ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي1 الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت2 عينَه الدنيا، وسدت مسامعُه الشهواتُ، واختار الفانيةَ على الباقيةِ، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدثَ الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم للضعيف يُقهر ويؤخذ مالُه، هذه المواخير3 المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعددُ غيرُ قليل، ألم يكن منكم نُهاةٌ، تمنعُ الغُوَاةَ4 عن دَلَج5 الليل، وغارةِ النهار؟ قربتم القرابة، وباعدتم الدين! تعتذرون بغير العذر، وتغضون على المختلس، كل امرئ منكم يذب6 عن سفيه، صنيعَ من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادًا، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء؛ فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم7 الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم، كُنُوسًا في مكانسِ الرِّيب8 حرامٌ عليَّ الطعام والشراب، حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا.

إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف،

1 الدائم.

2 طرف عينه: أصابها بشيء فدمعت، وطرف بصره: أطبق أحد جفنيه على الآخر، وطرفه عنه كضربه: صرفه ورده.

3 جمع ماخور وهو بيت الريبة معرب أو عربي من مخرت السفينة لتردد الناس إليه.

4 جمع ناه، وغواة جمع غاو.

5 السير من أول الليل، وقد أدلجوا، فإن ساروا من آخره فادلجوا بالتشديد.

6 يدفع.

7 جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه. روى الشعبي قال:"لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة ونزل، سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون، فقال: ما هذا؟ قالوا: إن البلد مفتون، وإن المرأة من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفساق، فيقال لها: نادي ثلاثة أصوات، فإن أجابك أحد، وإلا فلا لوم علينا فيما نصنع! ".

8 كنوس جمع كانس: أي مستتر كقعود وجلوس جمع قاعد وجالس، وأصله من كنس الظبي كضرب: دخل في كناسه "ككتاب" وهو مستتره من الشجر، ويجمع كانس أيضًا على كنس "كركع" ومنه الجواري الكنس "وهي الخنس" وهي الكواكب السيارة، أو النجوم الخمسة: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد؛ لأنها تكنس في المغيب كالظباء في الكنس "ككتب"، أو هي كل النحوم لأنها تبدو ليلًا وتختفي نهارًا "وخنوسها أنها تغيب كما يخنس الشيطان إذا ذكر الله عز وجل" ومكانس الريب: مكامنها المستترة جمع مكنس كمجلس.

ص: 271

وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي1 بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه، فيقول:"انج سعد فقد هلك سعيد2" أو تستقيم لي قناتكم، إن كذب المنبر بلقاء3 مشهورة، فإذا تعلقتم علَيّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي4، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها5 في، واعلموا أن عندي أمثالها، من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه6 فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبرُ الكوفة ويرجعُ إليكم7، وإياي ودعوى الجاهلية8، فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قطعتُ لسانه، وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غَرَّقَ قومًا غرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نقب

1 الولي: السيد، والمولى هنا: العبد.

2 سعد وسعيد هما ابنا ضبة بن أدّ خرجا في طلب إبل لأبيهما؛ فوجدها سعد فردها وقتل سعيد "فكان ضبة إذا رأى سوادًا تحت الليل قال: سعد أم سعيد؟.

3 من البلق بالتحريك: وهو ارتفاع التحجيل في الفرس إلى الفخذين "والتحجيل: بياض في قوائم الفرس"، والفرس البلقاء مشهورة لتميزها عما سواها ببلقها.

4 في الطبري "قال الشعبي: فوالله ما تعلقنا عليه بكذبة، ولا وعدنا خيرًا ولا شرًّا إلا أنفذه".

5 عُدُّوها من عيوبي، واغتمزه: طعن عليه.

6 في الطبري: "وكان زياد أول من شدَّ أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس بالطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس في سلطانه خوفًا شديدًا، حتى أمن الناس بعضهم بعضًا، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة؛ فلا يعرض له أحد، حتى يأتيه صاحبه؛ فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسة لم يُرَ مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحدًا قبل، وكان يقول: "لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه".

7 في الطبري: "استعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن؛ فأمهل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر إلى الكوفة، وكان يؤخر العشاء حتى يكون آخر من يصلي، ثم يصلي، يأمر رجلًا يقرأ سورة البقرة ومثلها، يرتل القرآن؛ فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أن إنسانًا يبلغ الخريبة "كجنينة موضع بالبصرة يسمى البصيرة الصغرى"، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج، ولا يرى إنسانًا إلا قتله فأخذ ليلة أعرابيًّا، فأتى به زيادًا، فقال: هل سمعت النداء؟ قال: لا والله، قدمت بحلوبة لي، وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير، قال: أظنك والله صادقًا، ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة، ثم أمر به فضربت عنقه".

8 قولهم: يا لفلان، والغرض مناصرة العصبية.

ص: 272

بيتًا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه حيًّا فيه، فكفوا عني أيدكم وألسنتكم، أكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف1 ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوام إحن2؛ فجعلت ذلك دَبْرَ أذني3 وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنًا فليزدد إحسانًا، ومن كان منكم مسيئًا فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلُّ من بغضي لم أكشف له قناعًا، ولم أهتك له سترًا، حتى يبدي لي صفحته4، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيُسرُّ، ومسرورٌ بقدومنا سيبتئس.

أيها الناس: إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا5؛ فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا أني مهما قصرت عنه، فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبًا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقًا بليل، ولا حابسًا عطاء ولا رزقًا عن إبانة6، ولا مجمرًا7 لكم بعثًا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرًّا لكم. أسأل الله أن يعين كلا على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر، فأنفذوه على

1 أي تخالف ما اجتمع عليه عامة القوم.

2 جمع إحنة: وهي الحقد والضغينة.

3 أي خلف أذني، وقد اقتبسها من كلام معاوية كما مر بك.

4 أي يجاهرني بالعدواة.

5 ملكنا، والفيء: ما كان شمسا فينسخه الظل، والخراج، أي ندفع عنكم بظل الله ونعمته التي وهبنا، أو ندفع عنكم بما صار في أيدينا من أموال الخراج.

6 وقته وموعده.

7 جمر الجند: حبسهم في أرض العدو ولم يقفلهم.

ص: 273

أذلاله1، وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة؛ فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي".

فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: "أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب"، فقال له:"كذبت ذاك نبي الله داود صلوات الله عليه؛ فقام الأحنف بن قيس، فقال: "إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلى" فقال له زياد: صدقت، فقام أبو بلال مرداس2 بن أدية وهو يهمس ويقول: أنبأنا الله بغير ما قلت. قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر، فسمعها زياد، فقال:"إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضًا".

"البيان والتبيين 2: 29، والعقد الفريد 2: 150، وصبح الأعشى 1: 216، وتاريخ الطبري 6: 124، والكامل لابن الأثير 3: 226، وشرح ابن أبي الحديد م4: ص57، وعيون الأخبار م2: ص241، وذيل الأمالي 188".

1 أي وجوهه وطرقه جمع ذل بالكسر. وذل الطريق: محجته، وأمور الله جارية على أذلالها أي مجاريها.

2 وهو من رؤساء الخوارج.

ص: 274

260-

‌ خطبته بالكوفة وقد ضمت إليه:

ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة سنة 50هـ، ضم معاوية الكوفة إلى زياد؛ فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة1، فاستخلف على البصرة، وشخص إلى الكوفة فأتاها، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"إن هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة

1 وكان يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بالبصرة.

ص: 274

البصرة، ثم ذكرت أنكم أهل حق، وأن حقكم طالما دفع الباطل، فأتيتكم في أهل بيتي؛ فالحمد لله الذي رفع مني ما وضع الناس، وحفظ مني ما ضيعوا، حتى فرغ من الخطبة1".

"تاريخ الطبري 6: 131"

1 قال الطبري: فحصب على المنبر، "أي رمى بالحصباء وهي الحصى" فجلس حتى أمسكوا، ثم دعا قومًا من خاصته، وأمرهم فأخذوا أبواب المسجد، ثم قال: ليأخذ كل رجل منكم جليسه، ولا يقولن لا أدري من جليسي، ثم أمر بكرسي فوضع له على باب المسجد، فدعاهم أربعة أربعة، يحلفون بالله ما منا من حصبك، فمن حلف خلاه، ومن لم يحلف حبسه وعزله، حتى صار إلى ثلاثين، ويقال بل كانوا ثمانين فقطع أيديهم على المكان"؟

ص: 275

261-

‌ خطبة أخرى له بالكوفة

وروى الطبري أيضًا قال:

"فجمعت الكوفة والبصرة لزياد بن أبي سفيان، فأقبل حتى دخل القصر بالكوفة ثم صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد: فإنا قد جُرِّبنا وجَرَّبنا، وسُسْنا وساسنا السائسون، فوجدنا هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح أوله، بالطاعة اللينة المشبه سرُّها بعلانيتها، وغيبُ أهلها بشاهدِهم، وقلوبهم بألسنتهم، ووجدنا الناس لا يصلحهم إلا لينٌ في غير ضعف، وشدةٌ في غير عنف، وإني والله لا أقوم فيكم بأمر إلا أمضيته على أذلاله، وليس من كذبةٍ الشاهد عليها من الله والناس أكبر من كذبةِ إمامٍ على المنبر، ثم ذكر عثمان وأصحابه فقرَّظهم، وذكر قَتَلَته ولعنهم".

"تاريخ الطبري 6: 142"

ص: 275

262-

‌ خطبته بالكوفة يتهدد الشيعة

وكان زياد قد ولَّى الكوفة عمرو بن الحريث، ورجع إلى البصرة؛ فبلغه أن حجر بن عدي يجتمع إليه شيعةُ علي، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم

ص: 275

حصبوا عمر بن الحريث؛ فشخص إلى الكوفة، حتى دخلها، فأتى القصر، ثم خرج فصمد المنبر، وعليه قباء سندس، ومطرف خزّ أخضر قد فرق شعره، وحجرٌ جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد: فإن غِبَّ البغيّ والغيّ وخيمٌ، إن هؤلاء جموا1 فأشروا، وأَمِنُونِي فاجترءوا عليّ، وايم الله لئن لم تستقيموا لأدواينكم بدوائكم، وقال: ما أنا بشيء إن لم أمنع باحة2 الكوفة من حجر، وأدعه نكالًا لمن بعده، ويل أمك يا حجر، سقط العَشَاء بك على سرحان3".

"تاريخ الطبري 6: 143"

1 من جم الماء جمومًا: كثر واجتمع.

2 الباحة: الساحة.

3 هو مثل: وأصله أن رجلًا خرج يلتمس العَشاء؛ فوقع على ذئب فأكله، يضرب في طلب الحاجة يؤدي بصاحبها إلى التلف

ص: 276

263-

‌ خطبة أخرى له:

وخطب زياد فقال:

"استوصوا بثلاثة منكم خيرًا: الشريف والعالم والشيخ؛ فوالله لا يأتيني شيخ بشاب قد استخف به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالمٌ بجاهل استخف به إلا نكلت به، ولا يأتيني شريفٌ بوضيع استخف به إلا انتقمت له منه".

"البيان والتيين 2: 73، والعقد الفريد 2: 151: شرح ابن أبي الحديد م4 ص74"

ص: 276

‌خطبة ثالثة له

264-

خطبة أخرى:

وخطب على المنبر فقال:

"أيها الناس: لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا، فإن الشاعر يقول:

اعمل بقولي وإن قصرت في عملي

ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري

ص: 276

265-

‌ وصية لزياد:

وروى الجاحظ عن عمرو بن عبيد أنه قال: كتب عبد الملك بن مروان وصية زياد، وأمر الناس بحفظها وتدبر معانيها وهي:

"إن الله عز وجل جعل لعباده عقولًا عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم بها على طاعته؛ فالناس بين محسن بنعمة الله عليه، ومسيء بخذلان الله إياه، ولله النعمة على المحسن، والحجة على المسيء، فما أولى من نمَّت عليه النعمة في نفسه ورأى العبرة في غيره بأن يضع الدنيا بحيث وضعها الله، فيعطي ما عليه منها، ولا يتكثر بما ليس له منها، فإن الدنيا دارُ فناء، ولا سبيل إلى بقائها، ولا بد من لقاء الله، فأحذركم الله الذي حذركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخرته العَجَزَةُ، قبل أن تصيروا إلى الدار التي صاروا إليها، فلا تقدرون على توبة، وليس لكم منها أَوبة، وأنا أستخلف الله عليكم، وأستخلفه منكم".

قال الجاحظ: وقد روي هذا الكلام عن الحجاج، وزياد أحق به منه.

"البيان والتبيين 1: 206"

ص: 277

266-

‌ ما كان يقوله لمن ولاه عملًا:

وكان زيادًا إذا ولى رجلًا عملًا قال له:

"خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروفٌ رأس سَنَتِك، وأنك تصير إلى أربع خلال؛ فاختر لنفسك، إنا إن وجدناك أمينًا ضعيفًا، استبدلنا بك لضعفك، وسلَّمَتْك من معرتِنا أمانتُك، وإن وجدناك قويًّا خائنًا استهنا وتك، وأوجعنا ظهرك ثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين؛ جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أمينًا قويًّا؛ زدنا في عملك، ورفعنا ذكرك، وكثرنا مالك، وأوطأنا عقبك".

ص: 277

267-

‌ خطبة الضحاك بن قيس الفهري بالكوفة

"قتل سنة 64هـ": 1

وخطب الضحاكُ بن قيس الفهري على منبر الكوفة – وقد كان بَلَغَه أن قومًا من أهلها يشتمون عثمان ويبرءون منه، فقال:

"بلغني أن رجالًا منكم ضُلالًا يشتمون أئمة الهدى، ويعيبون أسلافنا الصالحين، أما والذي ليس له نِدٌّ ولا شريكٌ، لئن لم تنتهوا عما يبلغني عنكم؛ لأضعن فيكم سيف زياد، ثم لا تجدونني ضعيف السورة2، ولا كليل الشفرة3، أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم4؛ فكنت أول من غزاها في الإسلام، وشرب من ماء الثعلبية

1 ولاه معاوية الكوفة سنة 55 إلى سنة 58 ثم جعله على شرطته، ولما مات معاوية الثاني بايعه أهل دمشق على أن يصلي بهم، ويقيم لهم أمرهم، حتى يجتمع أمر الأمة، وكان يهوى ابن الزبير، ويمنعه من إظهار ذلك أن بني أمية كانوا بحضرته، وكان يعمل في ذلك سرًّا، ثم نشبت الحرب بينه وبين مروان بن الحكم في مرج راهط، ودارت الدائرة على جيش الضحاك وقتل منتصف ذي الحجة سنة 64هـ.

2 سورة السلطان: سطوته واعتداؤه.

3 الشفرة: حد السيف، وكليل: غير قاطع.

4 وكان ذلك سنة 39 هـ، دعاه معاوية، وقال: سِرْ حتى تمرَّ بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت؛ فمن وجدته من الأعراب في طاعة علِيٍّ فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلًا فأغر عليها؛ فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف؛ فأقبل الضحاك فنهب الأموال، وقتل من لقي من الأعراب ومر بالثعلبية؛ فأغار على مسالح عليٍّ وأخذ أمتعتهم، ومضى حتى انتهى إلى القطقطانة، فأتى عمرو بن عميس بن مسعود -وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود- وكان في خيل لعليٍّ، وأمامه أهله، وهو يريد الحجّ؛ فقتله وقتل ناسًا من أصحابه، فلما بلغ ذلك عليًّا سرح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف؛ فلم يزل مغذا في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر فواقعه، فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلًا، وقتل من أصحاب حجر رجلان، وحجز الليل بينهم؛ فهرب الضحاك وأصحابه؛ فلما أصبحوا لم يجدوا لهم أثرًا -شرح ابن أبي الحديد م1: ص154، وتاريخ الطبري 6:78.

ص: 278

ومن شاطئ الفرات، أعاقب من شئتُ، وأعفو عمن شئتُ، لقد ذَعَرتُ المخدرات في خدورهن، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي؛ فاتقوا الله يا أهل العراق، أنا الضحاك بن قيس، أنا أبو أنيس، أنا قاتل عمرو بن عميس".

فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد، فقال:"صدق الأمير، وأحسن القول! ما أعرفنا والله بما ذكرتَ! ولقد لقيناك بغربيّ تدمر فوجدناك شجاعًا مجرِّبًا صبورًا1! ".

ثم جلس، وقال: أيفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم؟ وايم الله لأذكرنه أبغض مواطنه إليه؛ فسكت الضحاك قليلا، وكأنه خَزِيَ واستحيا، ثم قال: نعم، كان ذلك اليوم بأَخَرَة2 -بكلام ثقيل- ثم نزل.

"شرح ابن أبي الحديد 1: 155"

1 هذا المقول تهكم به كما ترى.

2 يقال: جاء أخرة وبأخرة بالتحريك: أي آخر كل شيء.

ص: 279

268-

‌ خطبته عند موت معاوية:

ولما مات معاوية "سنة 60هـ" خرج الضحاك بن قيس الفهري -وكان صاحب شرطته- حتى صعد المنبر، وأكفان معاوية على يديه تلوح؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"إن معاوية كان عمود العرب، وحد العرب، قطع الله عز وجل به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثم هو في البرزخ1 إلى يوم القيامة؛ فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحصرْ عند الأولى2".

"تاريخ الطبري 6: 182، والعقد الفريد 2: 250"

1 البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل البرزخ.

2 وفي العقد "فمن أراد حضوره صلاة الظهر فليحضره".

ص: 279

269-

‌ خطبة النعمان بن بشير بالكوفة

"قتل سنة 64هـ": 1

خطب النعمان بن بشير على منبر الكوفة، فقال: "يا أهل الكوفة: إني والله ما وجدت مثلي ومثلكم إلا الضبع والثعلب، أتيا الضب في جحره؛ فقالا: أبا الحسل2. قال: أجبتكما. قالا: جئناك نختصم. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت الضبع: فتحت عيني. قال: فعل النساء فعلت. قالت: فلقطت تمرة. قال: حلوًا اجتنيت قالت: فاختطفها ثمالة3. قال: لنفسه بغى الخير.

قالت: فلطمته لطمة قال: حقًّا قضيت. قالت؛ فلطمني أخرى. قال: كان حرًّا فانتصر. قالت: فاقضِ الآن بيننا. قال: حَدِّثْ حديثين امرأة، فإن لم تفهم فأربعة4".

"العقد الفريد 1: 269-2: 158، ومجمع الأمثال للميداني 2: 13"

1 ولي الكوفة وحمص لمعاوية ويزيد، وكان هواه معها، وميله إليهما؛ فلما مات معاوية بن يزيد دعا الناس إلى بيعة عبد الله بن الزبير بالشام، وكان أول من خالف من أمراء الأجناد -وكان واليًا على حمص- وانضم إلى الضحاك بن قيس الفهري، أمده بجيش من أهل حمص عليه شرحبيل بن ذي الكلاع ونشبت الحرب بين الضحاك وبين مروان بن الحكم في مرج راهط، ودارت الدائرة على جيش الضحاك وقتل كما قدمنا؛ فلما بلغ الخبر النعمان بن بشير خرج عن حمص هاربًا ليلًا ومعه امرأته وولده وثقله، فسار ليلته جمعاء متحيرًا لا يدري أين يأخذ، فاتبعه خالد بن عدي الكلاعي فيمن خف معه من أهل حمص، فلحقه وقتله وبعث برأسه إلى مروان، وكان قتله في ذي الحجة سنة 64هـ.

2 أبو حسل وأبو حسيل: كنية الضب، وفي مجمع الأمثال أن المتخاصمين: الأرنب والثعلب.

3 ثعالة: اسم الثعلب الذكر والأنثى.

4 وقد ذهبت أقوال الضب كلها أمثالًا. قال الميداني في شرح المثل الأخير "1: 130": "أي زده وأراد بالحديثين حديثًا واحدًا تكرره مرتين؛ فكأنك حدثتها بحديثين. والمعنى كرر لها الحديث لأنها أضعف فهما، فإن لم تفهم فاجعلهما أربعة، وقال أبو سعيد: فإن لم تفهم بعد الأربعة فالمربعة "والمربعة كمكنسة: العصا" ويروى، فأربع "أمر من ربع كمنع" أي كُفّ، تضرب في سوء السمع والإجابة".

ص: 280

270-

‌ خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه بين يدي معاوية

"قتل سنة 67هـ":

قدم عبيد الله بن زياد على معاوية بعد هلالك زياد، جعل يتصدى منه بخلوة، ليسبر من رأيه ما كره أن يُشْرَكَ في علمه؛ فاستأذن عليه بعد انصداع الطلاب، واشتغال الخاصة، وافتراق العامة، وهو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه، ففطن معاوية لما أراد، فبعث إلى ابنه يزيد وإلى مروان بن الحكم وإلى سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، وعمرو بن العاص، فلما أخذوا مجالسهم أذن له، فسلم ووقف واجمًا يتصفح وجوه القوم. ثم قال:

"صريح العقوق مكاتمة الأدنَيْنَ، لا خير في اختصاص وإن وَفَر، أحمد الله إليكم على الآلاء1، وأستعينه على اللأواء2، وأستهديه من عمى مجهد، وأستعينه على عدو مرصد3، وأشهد أن لا إله إلا الله المنقذ بالأمين الصادق من شفا جرف هار4، ومن بَدٍّ غارٍ5، وصلوات الله على الزكي نبي الرحمة، ونذير الأمة، وقائد الهدى، أما بعد يا أمير المؤمنين: فقد عسف بنا ظنٌ فرَّع6، وفذعٌ7 صدَّع، حتى طمع السحيقُ8، وبئس الرفيقُ، ودبَّ الوشاةُ بموت زياد، فكلهم مستحقِر9

1 النعم.

2 الشدة.

3 أرصدت له: أعددت.

4 الشفا: حرف كل شيء، والجرف كعتق وقفل: ما تجرفته السيول وأكلته من الأرض، وهار الجرف: انصدع ولم يسقط فهو هار كقاض، وهو مقلوب من هائر، فإذا سقط فقد انهار وتهور.

5 البد: التعب، والغاري: الملازم الشامل، من غرا السمن قلبه لزق به وغطاه.

6 فرّع بين القوم وفرق بمعنى واحد: أي أن هذا الظن فرق بيننا وبينك فجافيتنا.

7 هي في الأصل "فرع" وأراها محرفة عن قذع وهي التي تناسب المقام. قذعه قذعا "بالسكون" رماه بالفحش وسوء القول كأقذعه، والقذع محركة: الخنا والفحش والقذر، وصدع: شقق وفرق: أي أن مارمانا به الوشاة لديك من سوء القول فرق بيننا وبينك.

8 البعيد.

9 في الأصل هكذا بمعنى محتقر، أي محتقر لنا لمعاداته إيانا، وأنه لا يبالي بمعاداتنا لما نابنا من الضعف بموت زياد، وربما كان "متحفز للعداوة" أي متوثب مستوفز أو "مسحنفر للعداوة" من اسحنفر: إذا مضى مسرعًا.

ص: 281

للعداوة، وقد قلص الآزرة1، وشمر عن عطافه2 ليقول: مضى زياد بما استلحق به، ودل على الأناة3 من مستلحقه؛ فليت أمير المؤمنين سلم في دعته4، وأسلم5 زيادًا في ضيعته؛ فكان ترب6 عامته، وأحد رعيته، فلا تشخص7 إليه عين ناظرة، ولا إصبع مشير، ولا تندلق8 عليه ألسنٌ كلمته حيًّا، ونَبَشَته ميتًا؛ فإن تكن يا أمير المؤمنين حابيت زيادًا بأول رفات، ودعوة أموات، فقد حاباك زياد بحد هصور، وعزم جسور، حتى لانت شكائم الشرِس، وذلت صعبة الأشوس9، وبذل لك يا أمير المؤمنين يمينه ويساره، تأخذ بهما المنيع، وتقهر بهما البديع، حتى مضى والله يغفر له، فإن يكن أخذ بحق أنزله منازل الأقربين، فإن لنا بعده ما كان له، بدالة الرحم، وقرابة الحميم؛ فما لنا يا أمير المؤمنين نمشي الضراء10، ونشتف النضار11؟

ولك من خيرنا أكمله، وعليك من حوبنا12 أثقله، وقد شهد القوم، وما ساءني قربهم ليقروا حقًّا، ويردوا باطلًا؛ فإن للحق منارًا واضحًا. وسبيلًا قصدًا13. فقل يا أمير المؤمنين بأي أمريك شئت، فما نأرِزُ14 على غير جُحْرِنا، ولا نستكثر بغير حقنا، وأستغفر الله لي ولكم".

1 الآزرة والأزر بضمتين: جمع إزار، وهو الملحفة.

2 العطاف: الرداء، وجمعه عطف بضمتين، وأعطفة، وكذا المعطف بالكسر، وهو مثل إزار، ومئزر، ولحاف، وملحف.

3 في الأصل "الأنية" وأراه محرفا عن "الأناة" وهي الحلم.

4 الدعة: الخفض.

5 أسلمه: خذله، أي فليته ترك زيادًا ضائع النسب مغمورًا ولم يستلحقه.

6 الترب: من ولد معك: أي فكان تربًا لأحد عامة الناس، ولم يكن تربًا لك فلا يقدر له قدر.

7 أي فلا ترتفع.

8 اندلق السيل: اندفع، والسيف انسل بلا سل أو شق جفنه فخرج منه، وكلمته: جرحته وآذته.

9 وصف من الشوس بالتحريك، وهو النظر بمؤخر العين تكبرًا، أو تغيظًا.

10 الضراء: الشجر الملتف في الوادي، يقال توارى الصيد منه في ضراء، وفلان يمشي الضراء: إذا مشي مستخفيًا فيما يواري من الشجر.

11 اشتف ما في الإناء: شربه كله، والنضار: الذهب أو الفضة، والمراد: نمنع منه، ولا نمكن من أخذه، أي يحال بيننا وبين الولاية.

12 الحوب بضم الحاء وفتحها: الإثم، أي وعليك من آثامنا التي ارتكبناها في سبيل تأييد سلطانك أثقلها. وفي بعض النسخ:"من جوابنا" أي من جوابنا حين يسألنا المولى عما أتينا من أخذ الناس بالعسف والإرهاق لتمكين ملكك.

13 القصد: استقامة الطريق.

14 من أرزت الحية: أي لاذت بجحرها ورجعت إليه.

ص: 282

271-

‌ رد معاوية على ابن زياد:

فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب، فتصفحهم بلحظه رجلًا رجلًا وهو مبتسم، ثم اتجه تلقاءه، وعقد حبوته1، وحسر عن يده، وجعل يومي بها، ثم قال معاوية:

"الحمد لله على ما نحن فيه، فكل خير منه. وأشهد أن لا إله إلا الله؛ فكل شيء خاضع له، وأن محمدًا عبده ورسوله، دلَّ على نفسه بما بان عن عجز الخلق أن يأتوا بمثله؛ فهو خاتم النبيين، ومصدق المرسلين، وحجة رب العالمين، صلوات الله عليه وبركاته؛ أما بعد: فرب خير مستور، وشرٍّ مذكور، وما هو إلا السهم الأخيب لمن طار به، والحظ المُرْغِب لمن فاز به، فيهما التفاضل وفيهما التغابن، وقد صفقت2 يداي في أبيك صفقة ذي الخلة من رواضع الفُصْلان، عَامَلَ اصطناعي3 له بالكفر لما أوليته؛ فما رميتُ به إلا انتصلَ4، ولا انتضيتُهُ5 إلا غلق جفنه، ولزَّت6 لسعتُهُ، ولا قلت إلا عانَدَ، ولا قمت إلا قعد، حتى اخترمه7 الموت، وقد أوقع بختره8، ودل على حقده، وقد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل، والتبس به الزلل؛ فأخذ مني بحظ الغفلة، وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء،

1 احتبى بالثوب: اشتمل، أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها، والاسم: الحبوة، وحسر: كشف.

2 صفق له بالبيع، وصفق يده، وعلى يده صفقا وصقة: ضرب يده على يده، وذلك عند وجوب البيع. والفصلان جمع فصيل: وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، والحلة: الحاجة.

3 اصطنعه لنفسه: اختاره لخاصة أمر استكفاه إياه.

4 انتصل السهم: سقط نصله.

5 انتضى السيف: استله، والجفن: غمد السيف.

6 لزّه: طعنه.

7 أهلكه.

8 الختر: الغدر والخديعة، أو أقبح الغدر، وأوقع به: أهلكه.

ص: 283

فما برحت هنات1 أبيك تحطب في حبل القطيعة؛ حتى انتكث2 المُبرَم، وانحل عقد الوداد، فيا لها توبةً تُؤتَنَف3 من حوبة أورثت ندمًا، أسمع بها الهاتف، وشاعت للشامت؛ فليهنأ4 الواشم ما به احتقر، وأراك تحمد من أبيك جِدًّا وجسورًا5 هما أوفيا به على شرف التقحم6، وغبط النعمة، فدعهما فقد أذكرتنا منه ما زهدنا فيك من بعده، وبها مشيت الضراء، واشتففت النضار، فاذهب، إليكَ، فأنت نجلُ الدَّغَل7، ونثر النَّغَل8، والأجر شرٌّ".

1 أعماله وسيئاته جمع هنة.

2 انحل وانتفض.

3 تؤتنف: تستأنف، والحوبة: الإثم والذنب.

4 من هنأه الطعام: أي ساغ ولذ، والواشم فاعل من الوشم، وشم يَدَه: إذا غرزها بإبرة ثم ذر عليها النيلج، والمراد به هنا المعادي -والوشيمة: العداوة- أي فهنيئا لأعدائه الذين حقروه ونالوا من عرضه؛ فهو أهل لما قيل فيه: "يرد معاوية بذلك على قول عبيد الله قبل "ولا تندلق عليه ألسنٌ كلمته حيًّا، ونبشته ميتًا".

5 الجسور: الجسارة.

6 تقحمت به دابته: ندت به وربما طوحت به في وهدة أو وقصت به، والقحمة كغرقة: الورطة والمهلكة، والمراد التعرض للهلاك.

7 الدخل والفساد.

8 نغل الأديم نغلًا: فسد في الدباغ، والجرح فسد.

ص: 284

272-

‌ مقال يزيد بن معاوية:

فقال يزيد: "يا أمير المؤمنين إن للشاهد غيرَ حكم الغائب، وقد حضرك زيادٌ، وله مواطنُ معدودة بخير، لا يفسدها التظني1، ولا تغيرها التهم، وأهلوه أهلوك التحقوا بك، وتوسطوا شأنك؛ فسافرت به الركبان، وسمعت به أهل البلدان، حتى اعتقده الجاهل، وشك فيه العالم، فلا تتحجر2 يا أمير المؤمنين ما قد اتسع، وكثرت فيه الشهادات، وأعانك عليه قوم آخرون".

فانحرف معاوية إلى من معه، فقال: هذا وقذ3 نفسه ببيعته، وطعن في إمرته، يعلم ذلك كما أعلمه، يا للرجال من آل أبي سفيان! لقد حكموا وبذهم4 يزيد وحده،

1 التظني: إعمال الظن، وأصله التظنن.

2 أي فلا تضيق. تحجر عليه: ضيق، وتحجر ما وسعه الله: حرمه وضيقه، وفي الحديث:"لقد تحجرت واسعًا" أي ضيقت ما وسعه الله، وفي الأصل: فلا يتحجر" وهو تصحيف.

3 في الأصل "وفد" ولعله وقذ، يقال وقذه: أي غلبه وسكنه.

4 فاقهم.

ص: 284

ثم نظر إلى عبيد الله، فقال: يابن أخي، إني لأعرف بك من أبيك، وكأني بك في غمرة لا يخطوها1 السابح؛ فالزم ابن عمك، فإن لما قال حقًّا، فخرجوا ولزم عبيد الله يزيد يرد مجلسه، ويطأ عقبه أيامًا، حتى رمى به معاوية إلى البصرة واليًا عليها2.

1 في الأصل "لا يخطرها" وأراه "لا يخطوها".

2 قال الطبري: "ولى معاوية عبيد الله بن زياد البصرة سنة 55هـ".

ص: 285

273-

‌ وصية المهلب بن أبي صفرة لأبنائه عند موته:

1

روى الطبري قال:

لما كان المهلب بن أبي صفرة بزاغول من مرو الروذ "من خراسان" أصابتها الشوصة2 "وقوم يقولون الشوكة3" فدعا حبيبًا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا. قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تُنْسِئُ4 في الأجل، وتثري المال، وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، تباذلوا وتواصلوا تحابوا، واجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم، إن بني الأم يختلفون؛ فكيف ببني العلات5؟ وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب، وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك، اعرفوا لمن يغشاكم حقَّه، فكفى بِغُدُوِّ

1 سترد خطبه إن شاء الله في باب "خطب الخوارج وما يتصل بها" وذكر الطبري أنه توفي سنة 82هـ، وابن خلكان أنه توفي سنة 83هـ، وكان الحجاج قد ولاه بعد فراغه من حرب الأزارقة على خراسان، فوردها واليًا عليها سنة 79هـ ولم يزل واليًا عليها حتى أدركته الوفاة هناك.

2 الشَّوصة بالفتح وقد تضم الشين: وجع في البطن.

3 الشوكة: حمرة تعلو الجسد.

4تؤخر وتطيل.

5 بنو العلات: بنو أمهات شتى من رجل واحد.

ص: 285

الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب، واصطنعوا العرب؛ فإن الرجل من العرب تَعِدُه العِدَةَ فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده؟ وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه، قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة، قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن وأدب الصالحين. وإياكم والخِفَّةَ وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبًا على الجند، حتى يقدم بهم على يزيد؛ فلا تخالفوا يزيد" فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه.

"تاريخ الطبري 8: 19، ونهاية الأرب 7: 249، والبيان والتبيين 2: 98".

وعهد إلى ولده يزيد؛ فكان من جملة ما قال له:

"يا بُنَيَّ، استعقِلْ الحاجبَ، واستظرف الكاتبَ، فإن حاجبَ الرجلِ وجهُهُ، وكاتبه لسانه"، وكان يقول لبنيه:"يا بَنِيّ أحسْنُ ثيابِكُم ما كان على غيرِكُم". ومن كلماته المأثورة قوله: "الحياة خيرٌ من الموت، والثناءُ الحسنُ خيرٌ من الحياة، ولو أعطيت ما لم يعطه أحدٌ لأحببتُ أن تكون لي أذنٌ أسمع بها ما يقال في غدٍّ إذا مِتُّ"، وقوله:"عجبت لمن يشتري العبيد بماله ولا يشتري الأحرار بإفضاله".

"وفيات الأعيان 2: 146، وسرح العيون 137".

ص: 286

‌خطب الحجاج بن يوسف الثقفي

‌خطبته بمكة بعد مقتل ابن الزبير

خطب الحجاج بن يوسف الثقفي "المتوفى سنة 95هـ":

274-

خطبته بمكة بعد مقتل ابن الزبير "سنة 73هـ":

لما قتل الحجاجُ عبدَ الله بن الزبير، ارتجتْ مكةُ بالبكاء، فصعد المنبر، فقال:

"ألا إن ابن الزبير كان من أحبارِ1 هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها، وخلع طاعة الله، واستكنَّ بحرم الله، ولو كان شيء مانعًا للعصاة، لمنع آدم حرمة الجنة؛ لأن الله تعالى خلقَه بيده، وأسجدَ له ملائكتَه، وأباحَه جنتَه؛ فلما عصاه أخرجه منها بخطيئته، وآدم على الله أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة".

"سرح العيون ص122 وتاريخ ابن عساكر 4: 50"

1 جمع حبر: بفتح الحاء وكسرها، وهو العالم أو الصالح.

ص: 287

275-

‌ خطبته بعد قتل ابن الزبير:

وصعد الحجاج بعد قتله ابن الزبير متثلمًا؛ فحط اللثام عنه ثم قال:

"موجُ ليلٍ التطم، وانجلى بضوء صبحُه، يا أهل الحجاز، كيف رأيتموني؟ ألم أكشف ظلمة الجور، وطُخْيَة1الباطل بنور الحق؟ والله لقد وطئكم الحجاج وطأة مشفق، وعطفة رحم، ووصلَ قرابة؛ فإياكم أن تزلوا عن سَنَنٍ أقمناكم عليه،

1 الطخية: الظلمة، ويثلث.

ص: 287

فأقطع عنكم ما وصلته لكم، بالصارم البتار، وأقيم من أَوَدِكُم ما يُقِيم المثقف من أود1 القناة بالنار" ثم نزل وهو يقول:

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها

وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

"مواسم الأدب 2: 123"

1 مقوم الرماح والأود: الاعوجاج.

ص: 288

276-

‌ خطبته حين ولي العراق

"سنة 75هـ": 1

حَدَّثَ عبدُ الملك بن عمير الليثي قال:

بينا نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مَوَاليه؛ إذ أتى آتٍ، فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرًا على العراق؛ فإذا به قد دخل المسجدَ معتمًا بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه متقلدًا سيفًا، متنكبًا2 قوسًا، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قَبَّحَ اللهُ بني أمية؛ حيث تستعمل مثل هذا على العراق! حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى ننظر3؛ فلما رأى عيون الناس إليه، حسر اللثام عن فيه، ونهض فقال:

"أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفونني4

1 ويروى: أنه خرج يريد العراق واليًا عليها في اثني عشر راكبًا على النجائب، حتى دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج فهموا به.

2 تنكب قوسه: ألقاها على منكبه.

3 قال ابن نباتة "فلما سمعوا هذه الخطبة -وكان بعضهم قد أخذ حصى أراد أن يحصبه به- تساقط من أيديهم حزنًا ورعبًا".

4 البيت لسحيم بن وثيل الرياحي؛ قاله الحجاج متمثلًا، وقوله "أنا ابن جلا" أي الواضح الأمر المنكشفه؛ وقيل ابن جلا الصبح، لأنه يجلو الظلمة. وهو مثل يضرب للمشهور المتعالم، أي أنا الظاهر الذي لا يخفى وكل أحد يعرفني، ولم ينون جلا لأنه أراد الفعل؛ فحكي على ما كان عليه قبل التسمية كقول الشاعر:

والله ما زيد بنام صاحبه

ولا مخالط الليان جانبه

وتقديره أنا ابن الذي يقال له جلا الأمور وكشفها. وقال بعضهم: ابن جلا -وابن أجلى- رجل بعينه، قال في اللسان:"وكان ابن جلا هذا صاحب فتك يطلع في الغارات من ثنية الجبل على أهلها "والثنايا جمع ثنية: وهي الطريق في الجبل، أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، والعمامة: المغفر والبيضة قال ثعلب: العمامة تلبس في الحرب وتوضع في السلم.

ص: 288

ثم قال: يا أهل الكوفة، أما والله إني لأحمل الشرَّ بحمله، وأحذوه بنعلِهِ، وأجزِيه بمثلِه، وإني لأرى أبصارًا طامحة، وأعناقًا متطاولة، ورءوسًا قد أينعت وحان قطافُها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بن العمائم واللحى تترقرق، ثم قال:

هذا أوان الشد فاشتدي زِيَم

قد لفها الليلُ بسواق حُطَم

ليس براعي إبلٍ ولا غنم

ولا بجزارٍ على ظهرِ وَضَم1

ثم قال:

قد لفها الليلُ بعصلبي

أروع خراج من الدَّوِّيّ

مهاجرٍ ليس بأعرابيّ2

ثم قال:

قد شمرت عن ساقها فشُدُّوا

وجدتِ الحربُ بكم فجِدُّوا

والقوس فيها وترٌ عُرُدُّ

مثل ذراع البَكْرَ أو أشَدُّ

لابد مما ليس منه بُدُّ3

1 الشعر لرويشد بن وميض المنبري والشد: العدو، وزيم: اسم فرس أو ناقة، وقيل اسم للحرب، والحطم: الراعي الظلومُ للماشية يهشمُ بعضها ببعض؛ فلا يبقى من السير شيئًا وقد ضرب المثل برعاة الغنم في الحمق فقيل: "أحمقُ من راعي ضأن ثمانين" قال الجاحظ في البيان والتبيين 1: 139 "فأما استحماق رعاة الغنم في الجملة فكيف يكون ذلك صوابًا؟ وقد رعى الغنم عدة من جلة الأنبياءِ عليهم السلام" والوضم: كل ما قطع عليه اللحم.

2 العصلبي: الشديد القوي، والأروع: الذكي، أو من يعجبك بشجاعته، والدو والدوية والداوية ويخفف: الفلاة المتسعة التي تسمع لها دويًّا بالليل؛ "وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل، تنفسح أصواتها فيها، وتقول جهلةُ الأعرابِ: إن ذلك عزيفُ الجنِّ" أي: خراج من كل غماء شديدة، وهجر الرجل: خرج من البدو إلى المدن، والأعرابيُّ بطبيعته غِرٌّ ساذج ليس في تجربته كأهل المدن.

وسيرد عليك إن شاء الله في الجزء الثالث في خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة: "إني لست أتاويًّا أعلَّم، ولا بدويًّا أفهَّم".

3 حد به الأمر: اشتد، وعرد: أي شديد، والبكر: الفتيُّ من الإبل، ولا بد من كذا: أي لا محيد عنه.

"19 -جمهرة خطب العرب- ثان".

ص: 289

إني والله يا أهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، ما يقعقع لي بالشنان1، ولا يغمز جانبيّ كتغماز التين، ولقد فُرِرْتُ2 عن ذكاء، وفُتِّشْتُ عن تجربة، وجريت إلى الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- نثر كنانته3، بين يديه، فعجم4 عيدانها، فوجدني أمرَّها عودًا، وأصلبها مكسرًا5 فرماكم بي؛ لأنكم طالما أوضعتم6 في الفتن، واضطجعتم في مراقد الضلال، وسننتم سنن الغِيّ، أما والله لألحونكم7 لحو العصا، ولأقرعنك قرع المروة8، ولأعصبنكم عصب السلمة9، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل10؛ فإنكم لكأهل قرية {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وإني والله لا أعدُ إلا وفيتُ، ولا أهم إلا أمضيتُ، ولا أخلَقُ إلا فَرَيْتُ11؛ فإياي وهذه الشفعاء، والزرافات12 والجماعات، وقالًا وقيلًا13، وما تقول؟ وفيم أنتم وذاك؟

1 القعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت مثل السلاح وغيره، والشنان: جمع شَنّ بالفتح، وهو القربة البالية، وهم يحركونها إذا أرادوا حث الإبل على السير لتفزع فتسرع: مثل يضرب لمن لا يُرَوِّعُهُ ما لا حقيقة له، وقد تمثل به معاوية من قبله.

2 فر الدابة: فتح حنكها وكشف أسنانها لينظر سنها، وفر عن الأمر: بحث عنه.

3 الكنانة: جعبة السهام. وفي رواية: "كب كنانته" أي قلبها.

4 عجم العود: عضه ليعرف صلابته من خوره.

5 وفي رواية "وأصلبها عمودًا".

6 أوضع إيضاعًا: أسرع في سيره كوضع.

7 لحا العصا: قشر، وفي رواية:"لحو العود".

8 المرو: حجارة بيض براقة توري النار.

9 السلمة: شجر كثير الشوك. قال الجاحظ في البيان والتبيين "لأن الأشجار تعصب أغصانها، ثم تخبط بالعصى لسقوط الورق وهشيم العيدان""3: 21".

10 قال الجاحظ أيضًا: "3: 27""وهي تضرب عند الهرب، وعند الخلاط، وعند الحوض أشد الضرب" وقال الحارث بن صخر:

بضرب يزيل الهام عن سكناته

كما ذيد عن ماء الحياض الغرائب

11 أخلق: أقدر، وفريت: قطعت.

12 الشفعاء جمع شفيع، وكانوا يجتمعون إلى السلطان فيشفعون في أصحاب الجرائم؛ فنهاهم عن ذلك، والزرافات جع زرافة بفتح الزاي وضمها: الجماعة من الناس.

13 القول في الخير، والقال، والقالة في الشر.

ص: 290

أما والله لتستقيمُن على طريق الحق، أو لأدعن لكل رجل منكم شغلًا في جسده، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم1، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة2، وإني أقسم بالله لا أجد رجلًا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا سفكت دمه، وأنهبت3 ماله، وهدمت منزله".

"الكامل للمبرد 1: 181، والبيان والتبيين 2: 164، والعقد الفريد 2: 153- 3: 7، وتاريخ الطبري 7: 210، وصبح الأعشى 1: 218، وعيون الأخبار م2: ص244، ومروج الذهب 2: 132، ومعاهد التنصيص 1: 115، والكامل لابن الأثير 4: 156، وسرح العيون 116، وتاريخ ابن عساكر 4: 53".

1 أعطيات جمع أعطية، وهي جمع عطاء.

2 قائد الجيوش الذي حارب الخوارج الأزارقة، وفل شوكتهم، وسيأتي.

3 جعلته نهبًا يغار عليه.

ص: 291

277-

‌ خطبته وقد سمع تكبيرًا في السوق:

فلما كان اليوم الثالث خرج من القصر؛ فسمع تكبيرًا في السوق، فراعه ذلك، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى عليه نبيه، ثم قال:

"يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، وبني اللكيعة1، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفَقْع بالقَرْقَر2، إني سمعت تكبيرًا لا يراد الله به، وإنما يراد به الشيطان3، ألا إنها عجاجة تحتها قصف4، وإنما مثلي ومثلكم ما قال عمرو بن براق الهمداني:

وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم

فهل أنا في ذا يا ال همدان ظالم!

1اللئيمة.

2 القرقر: أرض مطمئنة لينة، والفقع ويكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة، ويقال للذليل: هو أذل من فقع بقرقر؛ لأنه لا يمتنع على من اجتناه؛ أو لأنه يوطأ بالأرجل.

3 وفي رواية: "إني سمعت تكبيرًا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب؛ ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب".

4 العجاج: الغبار، والقصف: شدة الريح.

ص: 291

متى تجمع القلب الذكي وصارما

وأنفًا حميًا تجتنبك المظالم

أما والله لا تقرع عصًا عصًا إلا جعلتها كأمس الدابر1".

"البيان والتيين 2: 69-1: 209، والعقد الفريد 2: 152، وإعجاز القرآن 124، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114، وتاريخ الطبري 7: 212، وتهذيب الكامل 1: 19"

1 وفي رواية الطبري خاصة: "ألا يربع رجل منكم على ظلعه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه؛ فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالًا لما قبلها، وأدبًا لما بعدها" - يربع "كيمنع" يقف وينتظر، والظلع "كشمس": الغمز في المشي، ويقال: اربع على ظلعك، أي إنك ضعيف، فانته عما لا تطيقه.

ص: 292

278-

‌ خطبته وقد قدم البصرة:

وخطب لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم فقال:

"أيها الناس: من أعياه داؤه؛ فعندي دواؤه، ومن استطال أجله؛ فعلي أن أعجله، ومن ثقل عليه رأسه، وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره، قصرت عليه باقيه، إن للشيطان طيفًا، وللسلطان سيفًا؛ فمن سقمت سريرتُهُ، صحت عقوبتُه، ومن وضعَه ذنبُه، رفعَه صلبُه، ومن لم تسعْهُ العافية، لم تضقْ عنه الهلكةُ، ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه، إني أنذر ثم لا أنظر1، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أعفو؛ إنما أفسدكم ترنيق2 ولاتكم، ومن استرخى لببه3، ساء أدبه، إن الحزم والعزم سلباني سوطي4، وأبدلاني به سيفي، فقائمه في يدي، ونجاده5 في عنقي، وذبابه6 قلادة لمن عصاني، والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الباب الذي يليه، إلا ضربت عنقه".

"نهاية الأرب 7: 244 صبح الأعشى 1: 220 وسرح العيون 122".

1 أنظره: أمهله.

2 الترنيق: الضعف في الأمر "وفي البدن والبصر أيضًا".

3 اللبب: ما يشد في صدر الدابة ليمنع استئخار الرحل، والمراد أن الهوادة واللين تفسد أدب الرعية.

4 هكذا في نهاية الأرب، وفي صبح الأعشى:"سكنا في وسطي" والأول أصح، أي أنه رأى من الحزم والعزم: المبالغة في استعمال الشدة والقوة في التأديب؛ فطرح السوط، واستبدل به ما هو أشد منه وهو السيف.

5 النجاد: علاقة السيف.

6 ذباب السيف: حده.

ص: 292

279-

‌ خطبته بعد وقعة دير الجماجم:

1

وخطب أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم فقال:

"يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم، فخالط اللحم والدم والعصب، والمسامع والأطراف، والأعضاء2 والشغاف3، ثم أفضى إلى المخاخ4 والأصماخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض وفرخ، فحاشكم نفاقًا وشقاقًا، وأشعركم خلافًا، اتخذتموه دليلًا تتبعونه، وقائدًا تطيعونه، ومؤامرًا5 تستشيرونه؛ فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز6؟.

1 وقعة دير الجماجم: هي وقعة نشبت بين الحجاج وبين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قرب الكوفة سنة 83هـ هزم فيها ابن الشعث؛ وذلك أن عبيد الله بن أبي بكرة عامل الحجاج على سجستان كان قد غزا رتبيل ملك الترك، وأوغل في بلاده فأصيبوا، وهلك أكثرهم، فوجه الحجاج إلى رتبيل ابن الأشعث على رأس جيش عظيم لمحاربته؛ فسار إليه وامتلك بعض بلاده، وكان يرى أن يتدرج في الفتح، فينتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم، ولا يتوغل في بلادهم؛ لكيلا يعرض جيشه للدمار والهلكة، وكتب إلى الحجاج بذلك؛ فأبى عليه الحجاج، وكتب إليه يضعف رأيه ويأمره بالوغول في أرضهم وإلا عزله، وكان من جراء ذلك أن بايع الجند ابن الأشعث على خلع الحجاج وقتاله ثم خلع عبد الملك بن مروان، وسار ابن الأشعث بهم من سجستان إلى العراق، وتجهز الحجاج للقائه؛ فسار بأهل الشام حتى نزل تستر "مدينة بالأهواز"؛ فانهزمت مقدمته، فرجع إلى البصرة حتى نزل الزاوية "موضع قرب البصرة" ودارت رحى الحرب بين الفريقين فهزم أهل العراق أهل الشام؛ فجثا الحجاج على ركبتيه وانتضى نحو شبر من سيفه، واستعد للقاء الموت كريمًا فقويت بذلك قلوبُ جنده واستبسلوا حتى كان لهم النصر. وانهزم ابن الأشعث؛ فأقبل نحو الكوفة، حتى هزم هزيمة منكرة بدير الجماجم وتبدد أمره، وفر إلى فارس حتى نزل مدينة بست؛ فسمع رتبيل بمقدمه فأنزله عنده وأكرمه فكتب الحجاج إلى رتبيل يأمره أن يبعث إليه بابن الأشعث ويتوعده إن لم يفعل؛ فأراد رتبيل أن يرسله إليه، فقتل ابن الأشعث نفسه بأن ألقى نفسه من فوق قصر، فمات فاحتز رتبيل رأسه، وبعث به على الحجاج سنة 85هـ.

2 في العقد الفريد "والأعضاد".

3 الشغاف: غلاف القلب أو حبته.

4 رواية نهاية الأرب "المخاخ" وهو الوارد في كتب اللغة: مخ يجمع على مخاخ ومخخة "كعنبة"، أما سائر المصادر التي روت هذه الخطبة؛ فترويها "الأمخاخ"، وهو ما لم أره في كتب اللغة.

وقد روت جميع المصادر "الأصماخ" بهذا النص، والذي في كتب اللغة:"الصماخ من الأذن: الخرق الباطن الذي يفضي على الرأس جمعه أصمخة وصمائخ، ومثل الصماخ الأصموخ كعصفور، وجمعه أصاميخ؛ فصواب الكلمة "الصمائخ" أو "الأصاميخ".

5 آمره في كذا مؤامرة: شاوره.

6 يشير إلى وقعة "تستر".

ص: 293

حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي، وأنتم تتسللون لواذًا1، وتنهزمون سراعًا؟ ثم يوم الزاوية، وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عنكم؛ إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها2، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي3 الشيخ على بنيه، حتى عضكم4 السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم يوم دير الجماجم، وما يوم دير الجماجم! بها كانت المعارك والملاحم5، بضرب يزيل الهام6، عن مقيله7، ويذهل الخليل عن خليله، يا أهل العراق، والكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات8، والنزوات9 بعد النزوات، إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم10 وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة، هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم11 خالع، إلا تبعتموه وآويتموه، ونصرتموه وزكيتموه؟ يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟ يا أهل العراق: ألم تنهكم المواعظ، ألم تزجركم الوقائع؟ ".

ثم التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر، فقال: "يا أهل الشام؛ إنما أنا لكم كالظليم12 الرامح عن فراخه، ينفي عنها المدر13، ويباعد عنها الحجر، ويكنها

1 أي يلوذ بعضهم ببعض: لاوذ لواذًا وملاوذة.

2 أعطان جمع عطن كسبب: مبرك الإبل حول الحوض كالمعطن، ونوازع: أي مشتاقة.

3 لا يلوي على أحد؛ أي لا يقف ولا ينتظر.

4 في نهاية الأرب "عظكم" بالظاء: عظته الحرب كعضته بالضاد.

5 جمع ملحمة وهي الوقعة العظيمة القتل.

6 جمع هامة، وهي الرأس.

7 موضعه، أي الأعناق، قال الشاعر:

بضرب بالسيوف رءوس قوم

أزلنا هامهن عن المقيل

8 جمع خترة، والختر كشمس: الغدر والخديعة أو أقبح الغدر.

9 جمع نزوة، من نزا نزوانا: أي وثب.

10 غل كنصر غلولًا: خان.

11 استعضده: سأله أن يعضده.

12 ذكر النعام، والرامح، أي المدافع، من رمحه: أي طعنه بالرمح.

13 قطع الطين اليابس.

ص: 294

من المطر، ويحميها من الضباب1، ويحرسها من الذئاب، يا أهل الشام؛ أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والحذاء".

"البيان والتبيين 2: 71، ونهاية الأرب 7: 245، والعقد الفريد 2: 152، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114، ومروج الذهب 2: 135 – وتاريخ ابن عساكر 4: 55".

1 جمع ضب، وهو حيوان كالوزغة والحرباء.

ص: 295

280-

‌ خطبة أخرى له في أهل الكوفة وأهل الشام:

وخطب فقال:

"يا أهل الكوفة، إن الفتنة تلقح بالنجوى1، وتنتج بالشكوى، وتحصد بالسيف؛ أما والله إن أبغضتموني لا تضروني، وإن أحببتموني لا تنفعوني، ما أنا بالمستوحش لعداوتكم، ولا المستريح إلى مودتكم، زعمتم أني ساحر، وقد قال الله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ} . وقد أفلحت، وزعمتم أني أعلم الاسم الأكبر؛ فلم تقاتلون من يعلم ما تعلمون؟ ".

ثم التفت إلى أهل الشام فقال: "لأزواجكم أطيب من المسك، ولأبناؤكم آنس بالقلب من الولد، وما أنتم إلا كما قال أخو بني ذبيان:

إذا حاولت في أسد فجورًا

فإني لست منك ولست مني

هم درعي التي استلأمت فيها

إلى يوم النسار وهم مجني2

ثم قال: "بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ثم نزل.

"شرح ابن أبي الحديد م1: ص115"

1النجوى: المسارة.

2 استلأم: لبس اللأمة، وهي الدرع، النسار: ماء لبني عامر له يوم، والمجن: الترس.

ص: 295

281-

‌ خطبة له بالبصرة:

وخطب بالبصرة، فقال:

قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ؛ فهذه لله، وفيها مثوبة1، وقال:

1 ثواب.

ص: 295

{وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} ، وهذه لعبد الله، وخليفة الله، وحبيب الله، عبد الملك بن مروان؛ أما والله لو أمرت الناس أن يأخذوا في باب واحد، فأخذوا في باب غيره1؛ لكانت دماؤهم لي حلالًا من الله، ولو قتل ربيعة ومضر لكان لي حلالًا.

"عذيري2 من أهل هذه الحميراء، يرمي أحدهم بالحجر إلى السماء ويقول: يكون إلى أن يقع هذا خير3، والله لأجعلنهم كالرسم4 الدائر وكالمس الغابر، عذيري من عبد هذيل يقرأ القرآن كأنه رَجَز الأعراب، أما والله لو أدركته لضربت عنقه -يعني عبد الله بن مسعود5-، عذيري من سليمان بن داود، يقول لربه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} كان والله -فيما علمت- عبدًا حسودًا بخيلًا".

"مروج الذهب 2: 143 والعقد الفريد 2: 152".

1 وفي مروج الذهب: "لو أمر الناس أن يدخلوا في هذا الشعب؛ فدخلوا في غيره" والشعب بالكسر: مسيل الماء في بطن الأرض؛ والطريق في الجبل.

2 العذير: العاذر والنصير؛ والحال التي تحاولها تعذر عليها.

3 وفي مروج الذهب: يلقي أحدهم الحجر إلى الأرض ويقول: إلى أن يبلغها يكون فرج الله".

4 الرسم الأثر، أو بقيته. والدائر: الدارس الممحو.

5 هو من بني هذيل.

ص: 296

282-

‌ خطبة أخرى له بالبصرة:

حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"إن الله كفانا مئونة الدنيا، وأمرنا بطلب الآخرة؛ فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا، ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يعلمون، وشراركم لا يتوبون؟ ما لي أراكم تحرصون على ما كفيتم، وتضيعون ما به أمرتم؟ إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء؛ ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس، الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرًا1، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا2؛ ألا وإن الدنيا عَرَضٌ حاضر، يأكل منها البر والفاجر؛ ألا وإن الآخرة أجل مستأخر، يحكم فيها ملك قادر

1 أي هجرًا له وتركًا، ومعناه أنهم لا يقرءونه، ولا يتلونه.

2 الدبر من كل شيء: عقبه ومؤخره، أي ولا يأتون الصلاة إلا في آخر وقتها.

ص: 296

ألا فاعلموا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم ملاقوه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشرَّ كله بحذافيره في النار، ألا وإن {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، وأستغفر الله لي ولكم1.

"العقد الفريد 2: 153".

1 وذكر صاحب العقد أيضًا هذه الخطبة من قوله: "ألا وإن الدنيا عرضٌ حاضرٌ" إلى آخرها وعزاها إلى شداد بن أوس الطائي. انظر العقد الفريد 2: 158.

ص: 297

283-

‌ خطبته في أهل العراق يصارحهم بالكراهية:

وخطب أهل العراق، فقال:

"يا أهل العراق: إني لم أجد دواء أدوى لدائكم، من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب، وفرحة القفل1؛ فإنها تعقب راحة، وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم، ولا الراحة بكم، وما أراكم إلا كارهين لمقالتي، وأنا والله لرؤيتكم أكره، ولولا ما أرد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم، ما حملت نفسي مقاساتكم، والصبر على النظر إليكم، والله أسأل حسن العون عليكم"، ثم نزل.

"العقد الفريد 2: 153"

1 الرجوع.

ص: 297

284-

‌ خطبة أخرى:

وخطب أهل العراق، فقال:

"يا أهل العراق، بلغني أنكم تروون عن نبيكم أنه قال: من ملك على عشر رقاب من المسلمين، جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور. وايم الله إني لأحب إلي أن أحشر مع أبي بكر وعمر مغلولًا، من أن أحشر معكم مطلقًا".

"العقد الفريد: 3: 17".

ص: 297

285-

خطبته لما مات عبد الملك بن مروان:

ولما مات عبد الملك بن مروان، قام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى نعى نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى نفسه فقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، وقال:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ؛ فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات الخلفاء الراشدون المهتدون المهديون، منهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان الشهيد المظلوم، ثم تبعهم معاوية، ثم وليكم البازل1 الذكر، الذي جربته الأمور، وأحكمته التجارب، مع الفقه وقراءة القرآن، والمروءة الظاهرة، واللين لأهل الحق، والوطء لأهل الزيغ؛ فكان رابعًا من الولاة المهديين الراشدين، اختار الله له ما عنده، وألحقه بهم، وعهد إلى شبهه في العقل والمروءة والحزم والجلد والقيام بأمر الله وخلافته، فاسمعوا له وأطيعوه.

أيها الناس، إياكم والزيغ، فإن الزيغ لا يحيق إلا بأهله، ورأيتم سيرتي فيكم، وعرفت خلافكم وطيبكم، على معرفتي بكم، ولو علمت أن أحدًا أقوى عليكم مني، أو أعرف بكم ما وليتكم؛ فإياي وإياكم، من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غمًا" ثم نزل.

"العقد الفريد 2: 154"

1 الرجل الكامل في تجربته.

ص: 298

286-

‌ خطبته حين أراد الحج:

وأراد الحجاج أن يحج؛ فاستخلف محمدًا ولده على أهل العراق، ثم خطب فقال: "يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني محمدًا، هذا وما كنتم له بأهل، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله.

ص: 298

صلى الله وسلم في الأنصار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وإني أمرته ألا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم؛ ألا وإنكم ستقولون بعدي مقالة ما يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي: ألا وإنكم ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة، ألا وإني معجل لكم الإجابة: لا أحسن الله الخلافة عليكم" ثم نزل.

"عيون الأخبار م2: ص245، والعقد الفريد 2: 153-3: 18، والبيان والتبيين 1: 206، ومروج الذهب 2: 144، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114".

ص: 299

287-

‌ خطبته لما أصيب بولده محمد وأخيه محمد في يوم واحد:

قال صاحب العقد: فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج؛ فلما كان بالعشي أتاه بريد من اليمن بوفاة محمدٍ أخيه، ففرح أهل العراق، وقالوا: انقطع ظهر الحجاج وهيض1 جناحه، فخرج فصعد المنبر، ثم خطب الناس، فقال:

"أيها الناس: محمدانِ في يوم واحد! أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا، لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة، وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى، والجديد أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تدال2 الأرضُ منا كما أدلنا منها؛ فتأكل من لحومنا، وتشرب من دمائنا، كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها، ثم نكون كما قال الله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 3 ثم تمثل بهذين البيتين:

1 هاض العظم: كسره بعد الجبور.

2 أدال الله منه: نصره عليه.

3 الصور: القرن يُنفخ فيه، وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق، وقيل هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، والبسر بالضم: التمر قبل إرطابه" أي نفخ في صور الموتى الأرواح.

وقرأ الحسن: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ". والأجداث جمع جدث كسيب وهو القبر، ونسل كضرب ونصر: أسرع.

ص: 299

عزائي نبيُّ الله من كل ميت

وحسبي ثواب الله من كل هالك

إذا ما لقيت الله عني راضيًا

فإن سرور النفس فيما هنالك

"العقد الفريد 2: 154-3: 18، وسرح العيون ص122"

ص: 300

288-

‌ خطبته وقد أرجف أهل العراق بموته:

ومرض الحجاج ففرح أهل العراق، وأرجفوا بموته؛ فلما بلغه تحامل حتى صعد المنبر فقال:

"إن طائفة من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نزغ1 الشيطان بينهم فقالوا: مات الحجاج، ومات الحجاج فمه؟ وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما يسرني ألا أموتَ، وأن لي الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رَضِيَ بالتخليد إلا لأهون خلقِهِ عليه إبليس، قال: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} ، ولقد دعا الله العبد الصالح، فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فأعطاه ذلك إلا البقاء، فما عسى أن يكون أيها الرجل؟ وكلكم ذلك الرجل، كأني والله بكل حيٍّ منكم ميتًا، وبكل رطب يابسًا، ونقل في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولًا، في ذراعٍ عرضًا، وأكلت الأرض لحمَه، ومصتْ صديدَه، وانصرفَ الحبيبُ من ولده يقسم الخبيث من ماله، إن الذين يعقلون يعلمون ما أقول"، ثم نزل.

"عيون الأخبار م2: ص244، والعقد الفريد 2: 154، 3: 17، وسرح العيون 122، ومروج الذهب 2: 142، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص115".

1 نزغ: أفسد وأغرى.

ص: 300

289-

‌ خطبه الوعظية:

وخطب الحجاج يومًا فقال:

"أيها الناس، قد أصبحتم في أجل منقوص، وعمل محفوظ، رُبَّ دائبٍ مضيع، وساعٍ لغيره، والموتُ في أعناقكم، والنارُ بين أيديكم، والجنةُ أمامكم، خذوا من أنفسكم لأنفسكم، ومن غناكم لفقركم، ومما في أيديكم لما بين أيديكم؛ فكأن ما قد مضى من الدنيا لم يكن، وكأن الأموات لم يكونوا أحياء، وكل ما ترونه فإنه ذاهب، هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك، هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة، وخزائنهم السائرة بين أيديهم، وقصورهم المشيدة، ثم طلعت على قبورهم، أين الملوك الأولون، أين الجبابرة المتكبرون؟ المحاسب الله، والصراط منصوب، وجهنم تزفر1 وتتوقد، وأهل الجنة ينعمون، في روضة يحبرون2، جعلنا الله وإياكم من الذين {إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} .

فكان الحسن البصري رحمه الله يقول: "ألا تعجبون من هذا الفاجر؟ يرقى عتبات المنبر، فيتكلم بكلام الأنبياء، وينزل فيفتك فتك الجبارين، يوافق الله في قوله ويخالفه في فعله".

"شرح ابن أبي الحديد م1 ص150".

1 زفرت النار كضرب: سمع لتوقدها صوت.

2 أحبره: سره، والحبور: السرور.

ص: 301

290-

خطبة ثانية:

وقال مالك بن دينار: غدوت إلى الجمعة؛ فجلست قريبًا من المنبر، فصعد الحجاج، ثم قال:

"امرؤ حاسب نفسه، امرؤ راقب ربه، امرؤ زوَّر1 عمله، امرؤ فكر فيما يقرؤه غدًا في صحيفته، ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند همِّه آمرًا، وعند هواه زاجرًا، امرؤ أخذ بعنان قلبه، كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى حقٍّ تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفَّه، إننا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار".

"عيون الأخبار م2: ص521، العقد الفريد 2: 152، والبيان والتبيين 2: 88، شرح ابن أبي الحديد م1: ص150".

291-

خطبة ثالثة:

وخطب يومًا، فقال:

أيها الناس، اقدَعُوا2 هذه الأنفس؛ فإنها أسْألُ3 شيء إذا أعطيت، وأعصى4 شيء إذا سئلت، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطامًا وزمامًا فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله؛ فإني رأيت الصبر عن محارم الله، أيسر من الصبر على عذاب الله5".

"شرح ابن أبي الحديد م: ص150، وسرح العيون 121، وعيون الأخبار م2: ص247، والبيان والتبيين 1: 206، وتهذيب الكامل 1: 19".

1 زوره: حسنه.

2 قدعه كمنعه وأقدعه: كفه وكبحه.

3 وفي عيون الأخبار: "أيها الناس، احفظوا فروجكم، وخذوا الأنفس بضميرها؛ فإنها أسوك شيء

" وأسوك: أضعف، من ساك الرجل سواكًا: سار سيرًا ضعيفًا.

4 وفي رواية "وأعطى شيء وهو تحريف.

5 قال ابن أبي الحديد: "وأكثر الناس يروون هذا الكلام عن عَلِيٍّ عليه السلام.

ص: 302

292-

خطبة رابعة:

وخطب فقال:

"اللهم أرني الغيَّ غيًّا فأجتنبه، وأرني الهدى هدًى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالًا بعيدًا، والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء".

"العقد الفريد 2: 152، والبيان والتبيين 2: 69، 1: 206، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص150، وسرح العيون ص122".

293-

خطبة خامسة:

ومن كلامه:

"إنَّ امرأ أتت عليه ساعة من عمره، لم يذكر فيها ربه، ويستغفر ربه من ذنبه، ويفكر في معاده، لجدير أن يطول حزنُه، ويتضاعف أسفُه، إنّ الله كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء؛ فلا بقاء لما كُتب عليه الفناء، ولا فناء لما كُتب عليه البقاء، فلا يغرنكم شاهد1 الدنيا، عن غائب الآخرة، واقهرُوا طول الأمل، بقصر الأجل2".

"شرح ابن الحديد م1: ص150، ومروج الذهب 2: 148، والبيان والتبيين: 2: 99، سرح العيون 121، وتهذيب الكامل 1: 19".

1 أي حاضرها.

2 قال الشعبي: سمعت الحجاج يقول بكلام ما سبقه إليه أحد؛ سمعته يقول: "إن الله عز وجل كتب على الدنيا الفناء

إلخ"، وروى الجاحظ عن أبي عبد الله الثقفي عن عمه قال سمعت الحسن البصري يقول: لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج، قلت: وإن كلام الحجاج ليقذك؟ قال: نعم، سمعته على هذه الأعواد يقول: "إنّ امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرتُه".

ص: 303

‌خطب قتيبة بن مسلم الباهلى

‌خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو

خطب قتيبة بن مسلم الباهلي "قتل سنة 96هـ":

294-

خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو "طُخارستان":

قدم قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان واليًا عليها من قبل الحجاج1 سنة 86؛ فلما تهيأ لغزو أخرون وشومان -وهما من بلاد طخارستان2- خطب الناس وحثهم على الجهاد فقال:

"إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقمًا3 ووعد نبيه صلى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فقال:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ، ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذخر عنده، فقال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ 4 فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حيٌّ مرزوق، فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ

1 ولي قتيبة خراسان بعد يزيد بن المهلب، وغزا بلاد ما وراء النهر، وافتتح بخارى، وسمرقند، وخوارزم، ووصل في فتوحه إلى كشغر من بلاد الصين، وقتل سنة 96هـ.

2 ناحية كبيرة شرقي خراسان على نهر جيحون، وقد ضبطها ابن خلكان هكذا -انظر وفيات الأعيان 1: 90 في ترجمة بشار بن برد- وضبطها ياقوت في معجم البلدان بفتح الطاء.

3 وقمه: قهره وأذله.

4 مجاعة.

ص: 304

قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فتنجَّزوا موعود ربكم، ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر، وأمضى ألم، وإياكم والهوينى".

ص: 305

295-

‌ خطبته وقد تهيأ لغزو بلاد السُّغْد:

ولما صالح قتيبة أهل خوارزم، وسار إلى السغد1 سنة 93هـ خطب الناس؛ فقال:

"إن الله قد فتح لكم هذه البلدة في وقتٍ الغزُو فيه ممكنٌ، وهذه السغد شاغرة2 برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا ما كنا صالحنا عليه طَرْخُون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله تعالى:{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} ، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسغد كالنضير3 وقريظة4، وقال الله تعالى:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} .

"تاريخ الطبري 8: 85"

1 وكان قتيبة حين فتح بخارى سنة 90هـ، وأوقع بأهلها، هابه أهل السغد، وهي بين نهري سيحون وجيحون، وكانت قصبتها سمرقند، وهي بالسين، وربما قيلت بالصاد" وأتاه طرخون ملك السغد، وسأله الصلح على فدية يؤديها إليه، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وصالحه، ثم نقضوا عهودهم.

2 شغر الكلب كمنع: رفع إحدى رجليه ليبول.

3 بنو النضير: حي من يهود خيبر، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهود يأمن بها كل فريق الآخر؛ ولكنهم لم يفوا بها حسدًا منهم وبغيًا، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه في ديارهم؛ إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يلقي عليه أحدهم صخرة من علو، فاطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع، فأرسل إليهم يأمرهم بالجلاء، لما تقدم منهم من الغدر، فتهيئوا للرحيل، فأرسل إليهم إخوانهم المنافقون يقولون: لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم، فسار عليه الصلاة والسلام لقتالهم، وتحصن بنو النضير في حصونهم، وظنوا أنها مانعتهم من الله؛ فحاصرهم ست ليال؛ ثم أمر بقطع نخيلهم كي يسلموا؛ فقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فسالوه أن يجليهم ويكف عن دمائهم؛ وأن لهم ما حملت الإبلُ من أموالهم إلا آلة الحرب ففعل؛ وصار اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم؛ لئلا يسكنها المسلمون.

4 كان يهود بني قريظة يساكنون المسلمين في المدينة؛ فانتهزوا فرصة اشتغال المسلمين بصد جموع الأحزاب -في غزوة الخندق- ونقضوا عهودهم معهم؛ وذلك أن حيي بن أخطب سيد بني النضير الذين =

"20 -جمهرة خطب العرب- ثان".

ص: 305

296-

‌ خطبته وقد سارت إليه جيوش الشاش وفرغانة:

وأتى قتيبة السغد فحصرها شهرًا، وخاف أهلها طول الحصار؛ فكتبوا إلى ملك الشاش وفرغانة1 "إنا نحن دونكم فيما بينكم وبين العرب، فإن وُصِلَ إلينا كنتم أضعفَ وأذلَّ، فمهما كان عندكم من قوة فابذلوها. فجمعوا جموعهم، وولوا عليهم ابنًا لخاقان2، وساروا وقد أجمعوا أن يُبيِّتوا عسكر قتيبة، ونمى ذلك إليه، فانتخب أهل النجدة والبأس ووجوه الناس، وخطبهم فقال:

"إن عدوكم قد رأوا بلاء3 الله عندكم، وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم4، كل ذلك يفلجكم5 الله عليهم، فأجمَعُوا على أن يحتالوا غِرّتكم وبَيَاتَكم، واختاروا دهاقينهم6 وملوكهم، وأنتم دهاقينُ العرب وفرسانُهم، وقد

= أجلوا عن ديارهم؛ توجه إلى كعب بن أسد القرظي؛ فحسن له نقض العهد؛ ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين؛ فاشتد وجل المسلمين؛ وزلزوا زلزالا شديدًا؛ وأرسل الله على الأعداء ريحًا باردة في ليلة مظلمة وجنودًا لم يروها، فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح: وكفى الله المؤمنين شرَّ الأحزاب، ولم يعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سار إلى بني قريظة، فتحصنوا بحصونهم؛ وحاصرهم المسلمون خمسًا وعشرين ليلة؛ فلما ضاقوا بالحصار ذرعًا؛ طلبوا أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير؛ من الجلاء بالأموال وترك السلاح؛ فأبى الرسول إلا أن ينزلوا على حكمه ففعلوا؛ فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله؛ إنهم كانوا موالينا دون الخزرج؛ وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع؛ وكانوا حلفاء الخزرج؛ فنزلوا على حكمه؛ فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذاك إلى سعد بن معاذ -وكان جريحًا من سهم أصيب به في غزوة الخندق- وأرسل من يأتي به؛ فقال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال؛ وتقسم الأموال؛ وتسبى النساء والذراري، فقال عليه الصلاة والسلام: فقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد؟ ثم أمر بتنفيذ الحكم؛ فنفذ فيهم.

1 الشاش وفرغانة: كورتان وراء نهر سيحون متاخمتان للصين.

2 خاقان: اسم لكل ملك من ملوك الترك؛ وقد خقَّنوه على أنفسهم: أي رأَّسُوه "بالتشديد".

3 أي نعمته.

4 كاثروهم فكثروهم: غالبوهم فغلبوهم.

5 أي ينصركم عليهم؛ ويظفركم بهم.

6 جمع دهقان بكسر الدال وضمها: زعيم فلاحي العجم، ورئيس الإقليم. معرب.

ص: 306

فضلكم الله بدينه؛ فأبلوا1 لله بلاء حسنًا تستوجبون به الثواب، مع الذب عن أحسابكم".

"تاريخ الطبري 8: 87"

1 الإبلاء: الإنعام والإحسان، يقال: أبليت عنده بلاء حسنًا، وأبلاه الله بلاء حسنًا، وأبليته معروفًا. والمعنى: فاصدقوا القتال، وقدموا معروفًا تبغون به ثواب الله.

ص: 307

297-

‌ خطبه حين دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك:

وقام بخراسان حين خَلَع سليمان بن عبد الملك1، ودعا الناس إلى خلعه فقال للناس:

"إني قد جمعتكم من عين التمر2، وفيض البحر؛ فضممت الأخ إلى أخيه، والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية3؛ فكتب إلى أمير المؤمنين: إن خراج خراسان لا يقوم4 بمطبخي، ثم جاءكم أبو سعيد5 فدوَّم 6 بكم ثلاث سنين، لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية؛ لم يَجْبِ فيئًا، ولم ينكأ7 عدوا، ثم جاءكم بنوه بعده، يزيد فحلٌ تَبَارَى إليه النساء؛ وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هَبَنّقة القيسي8" فلم يُجِبْهُ أحدٌ فغضب، فقال:

1 وسبب ذلك أن الوليد بن عبد الملك أراد أن يجعل ابنه عبد العزيز ولي عهده، ودس في ذلك إلى القواد والشعراء، فبايعه على خلع سليمان الحجاج وقتيبة، ثم مات الوليد وقام سليمان بن عبد الملك، فخافه قتيبة وخشى أن يولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان.

2 بلد على الفرات قرب الكوفة.

3 هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس، وكان عاملًا عليها لعبد الملك بن مروان حتى كانت سنة 78 فعزله وجمع سلطانه للحجاج فبعث المهلب إليها.

4 في الأصل "لا يقيم" وهو تحريف أو لايقيم مطبخي.

5 أبو سعيد: كنية المهلب بن أبي صفرة.

6 من دومت الكلاب: أي أمعنت في المسير: وفي رواية أخرى "فدوخ بكم البلاد" وستأتي.

7 نكأ العدو ونكاه نكاية: قتل وجرح.

8 هو يزيد بن ثروان هبنقة ذو الودعات، ويكنى أبا نافع أحد بني قيس بن ثعلبة، يضرب به المثل في الحمق فيقال:"أحمق من هبنقة" وله نوادر في الحمق، منها أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف وهو ذو لحية طويلة؛ فسئل في ذلك، فقال: لأعرف بها نفسي، ولئلا أضل؛ فبات ذات ليلة، وأخذ أخوه =

ص: 307

"لا أعزَّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة، ولا أقول أهل العالية. يا أوباش1 الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب2. يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفخ3 والكذب والبخل، بأي يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم بيوم سلمكم؟ فوالله لأنا أعزُّ منكم يا أصحاب مسيلمة. يا بني ذميم، ولا أقول تميم. ياأهل الخور4 والقصف5 والغدر: كنتم تسمُّون الغدر في الجاهلية "كيسان6" يا أصحاب سجاح7، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم بأبر النخل8 أعنة الخيل، يا معشر الأزد، تبدلتم بقُلُوسِ9 السفن، أعنة الخيل والحصن10، إن هذا لبدعة في الإسلام، والأعراب، وما الأعراب؟

لعنة الله على الأعراب، يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم11،

= قلادته فتقلدها؛ فلما أصبح، ورأى القلادة في عنق أخيه، قال يا أخي: أنت أنا فمن أنا؟ ومنها: أنه ضل له بعير؛ فجعل ينادي: من وجد بعيري فهو له، فقيل له فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان؟ ومنها: أنه اختصمت الطفاوة وبنو راسب في رجل ادعاه هؤلاء وهؤلاء، ثم قالوا: رضينا بأول من يطلع علينا؛ فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم هبنقة، فقصوا عليه قصتهم، فقال: الحكم عندي في ذلك أن يذهب به إلى نهر البصرة، فيلقى فيه، فإن كان راسبيًا رسب فيه، وإن كان طفاويًا طفا، فقال الرجل: لا أريد أكون من أحد هذين الحيين.

وقول قتيبة: "إنما خليفتكم هبنقة" ذلك لأن هبنقة كان يحسن إلى السمان من إبله، فيرعيها في العشب وينحي المهازيل، فقيل له: ويحك! ما تصنع؟ فقال: إنما أكرم ما أكرم الله، وأهين ما أهان الله، وكذلك كان سليمان يعطي الأغنياء، ولا يعطي الققراء ويقول:"أصلح ما أصلح الله، وأفسد ما أفسد الله" -انظر مجمع الأمثال 1: 146، والبيان والتبيين 1: 126-.

1 الأوباش: السفلة، جمع وبش كسبب.

2 الطريق والجهة.

3 الفخر والكبر.

4 الضعف.

5 اللهو.

6 كيسان: علم للغدر.

7 هي سجاح بنت الحارث ادعت النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزيرة في بني تغلب.

8 أبر النخل أبرًا: أصلحه.

القلوس جمع قلس كشمس: وهو حبل ضخم من ليف أو خوص أو غيرهما من قلوس سفن البحر.

10 جمع حصان.

11 من نبات البادية زهره مرٌّ جدًّا.

ص: 308

ومنابت القلقل1، تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان2؛ حتى إذا جمعتكم كما يُجمع قَزَع الخريف3 قلتم: كيت وكيت، أما والله إني لابن أبيه4 وأخو أخيه، أما والله لأعصبنكم عصب السلمة، إنّ حول الصلِّيان الزمزمة5، يا أهل خراسان، هل تدرون من وليكم؟ وليكم يزيد بن ثروان، كأني بأمير مزجاء6، وحكمٍ قد جاءكم؛ فغلبكم على فيئكم وأطلالكم، إن هاهنا نارًا، ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى، قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات، إن الشأم أبٌ مكفور، حتى متى ينبطح أهل الشأم بأفنيتكم وظلال دياركم؟ يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقيّ الأم، عراقيّ الأب، عراقي المولد، عراقي الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من المن والعافية، قد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم؛ فالظعينة7 تخرج من مروٍ إلى بَلْخ بغير جِوار، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه الشكر والمزيد". ثم نزل.

"تاريخ الطبري 8: 105"

وورد كلام قتيبة في هذا الصدد في العقد الفريد، والبيان والتبيين في ثلاث خطب هذا نصها:

1 نبت له حب أسود حسن الشم.

2 هي جزيرة في الخليج الفارسي بين عمان والبحرين.

3 القزع: كل شيء يكون قطعًا متفرقة "ومنه قيل لقطع السحاب في السماء قًزًع" وخرقت الثمار أخرقها كنصر: اجتنيتها، والثمر مخروف وخريف، وفي كلام سيدنا علي رضي الله عنه "كما يجتمع قًزًع الخريف".

4 أي ابن أبي.

5 الصليان: نبت من أفضل المرعى يختل "يجز" للخيل التي لا تفارق الحي، والزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم، يعني صوت الفرس "بالتحريك" إذا رآه، وأصلها صوت المجوس عند أكلهم -يتراطنون على الكل، وهم صموت لا يستعملون لسانا، ولا شفة؛ لكنه صوت تديره في خياشيمها وحلوقها، فيفهم بعضها عن بعض- وهو مثل يضرب للرجل يحوم حول الشيء ولا يظهر مرامه.

والمعنى في المثل: أن ما تسمع من الأصوات والجلب، لطلب ما يؤكل ويتمتع به. قال الميداني: ويروى وحول الصلبان الزمزمة" الصلبان جمع صليب، والزمزمة: صوت عابديها.

6 هو مزجاء للمطي أي كثير الإزجاء لها، زجاها وأزجاها: ساقها ودفعها: والمراد أنه قاس ظلوم.

7 الظعينة: المرأة ما دامت في الهودج.

ص: 309

298-

خطبة أخرى:

قام بخراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك؛ فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أتدرون من تبايعون؟ إنما تبايعون يزيد بن ثروان -يعني هبنقة القيسي- كأني بأمير مزجاء، وحكم قد أتاكم، يحكم في أموالكم ودمائكم وفروجكم وأبشاركم1 ثم قال: الأعراب وما الأعراب؟ لعنة الله على الأعراب، جمعتكم كما يجمع قزع الخريف2 من منابت الشيح والقيصوم، ومنابت القلقل، وجزيرة ابن كاران، تركبون البقر، وتأكلون الهبيد3، فحملتكم على الخيل، وألبستكم السلاح، حتى منع الله بكم البلاد، وأفاء بكم الفيء" قالوا: مرنا بأمرك قال: غُرُّوا غيري.

"العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 101"

299-

خطبة ثالثة:

وخطب مرة أخرى، فقال:

"يا أهل العراق، ألست أعلم الناس بكم؟ أما هذا الحي من أهل العالية؛ فنعم الصدقة، وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعِلْجةٌ4 بظراء، لا تجمع رجليها، وأما هذا الحي عبد القيس فما ضرب العير بذنبه، وأما هذا الحي من الأزد، فًعُلُوج5 خلق الله وأنباطه6، وايم الله لو ملكت أمر الناس لنقشت أيديهم، وأما هذا الحي من تميم؛ فإنهم كانوا يسمُّون الغدرً في الجاهلية كيسان".

"العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 67"

1 أبشار جمع بشر: وهو جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد.

2 في العقد الفريد: "كما يجمع فرخ الحريق" وفي البيان والتبيين والطبري "قرع الخريف" والصواب ما ذكرنا.

3 الحنظل.

4 مؤنث العلج: وهو حمار الوحش السمين القوي. وأمه بظراء: طويلة البظر كشمس، وهو ما بين شفرى الرحم.

5 جمع علج "بالكسر" وهو الرجل من كفار العجم.

6 جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق ثم اسعمل في أخلاط الناس وعوامهم.

ص: 310

300-

خطبة رابعة:

وخطب مرة أخرى، فقال:

"يا أهل خراسان، قد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية؛ فكان كاسمه أمية الرأي، وأمية الدين، فكتب إلى خليفته: إنّ خراج خراسان وسجستان، لو كان في مطبخه لم يًكْفٍه، ثم أتاكم بعده أبو سعيد، فدوخ بكم البلاد، لا تدرون أفي طاعة الله أنتم أم في معصيته، ثم لم يجبِ فيئًا، ولم ينكأ عدوًّا، ثم أتاكم بنوه بعده، مثل أطباء1 الكلبة؛ منهم ابن الرحمة2، حصان يضرب في عانةٍ3، ولقد كان أبوه يخافه على أمهات أولاده، ثم أصبحتم وقد فتح الله عليكم البلاد، وأمن لكم السبل، حتى إن الظعينة لتخرج من مروٍ إلى سمرقند في غير جوار".

"العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 67"

1 جمع طبي كقفل. والطبي: لذات الخف والظلف كالثدي للمرأة.

2 يريد به يزيد بن المهلب.

3 العانة: الأتان، والقطيع من حمر الوحش، والمراد بها النساء.

ص: 311

301-

‌ كلمات حكيمة لقتيبة بن مسلم:

وخرجت خارجة بخراسان؛ فقيل لقتيبة بن مسلم: لو وجهت إليهم وكيع بن أبي سود1، قال: وكان وكيع رجلًا عظيم الكبر، في أنفه خنزوانة2، وفي رأسه نعرة3؛ وإنما أنفه في أسلوب4، ومن عظم كبرُه اشتد عجبُه، ومن أُعْجِبَ برأيه لم يشاور كفيًّا، ولم يؤامر5 نصيحًا. ومن تفرد بالنظر لم يكمل له الصواب، ومن تبجح6 بالانفراد، وفخر بالاستبداد، كان من الصواب بعيدًا، ومن الخذلان قريبًا، والخطأ مع الجماعة، خير من الصواب مع الفرقة؛ وإن كانت الجماعة لا تخطئ، والفرقة لا تصيب، ومن تكبر على عدوه حقره، وإذا حقره تهاون بأمره، ومن تهاون بخصمه، ووثق بفضل قوته قل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عثاره، وما رأيت عظيم الكبر صاحب حرب؛ إلا كان منكوبًا؛ فلا والله حتى يكون عدوه عنده، وخصمه فما تغلب

1 هو وكيع بن أبي سود التميمي، أحد الأبطال البواسل، كان مع قتيبة في فتح بخارى، وأبلى في القتال بلاء محمودًا -انظر خبره في الطبري 8: 68- وولاه الناس أمرهم حين ثاروا بقتيبة وقتلوه.

2 الخنزوان، والخنزوانة، والخنزوانية: الكبر، يقال: هو ذو خنزوانات.

3 النعرة: الخيلاء والكبر.

4 الأسلوب: الشموخ في الأنف، ويقال: إن أنفه لفي أسلوب إذا كان متكبرًا، قال الراجز:

أنوفهم ملفخر في أسلوب

وشعر الأستاه في الجيوب

"وهو في معنى المثل المشهور: أنف في السماء واست في الماء، والجَيوب كصبور: الأرض، والأستاه جمع سته كشمس وسبب وهو الأست، وقوله: ملفخر أصله: من الفخر، ونظيره قول جميل بثينة:

وما أنس ملأ شياء لا أنس قولها

"وقد قربت نضوى" أمصر تريد؟

أي من الأشياء، وقول قطري بن الفجاءة:

غداة طفت علماء بكر بن وائل

وعجنا صدور الخيل نحو تميم

أي على الماء".

5 الكفيّ: الكافي، ويؤامر: يشاور.

6 تبجح به: افتخر وتباهى.

ص: 312

عليه، أسمع من فَرَس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأحذر من عقعق1، وأشد إقدامًا من الأسد، وأوثب من الفهد، وأحقد من جمل، وأروغ من ثعلب، وأغدر من ذئب، وأسخى من لافظة2، وأشح من صبي، وأجمع من ذرة3، وأحرس من كلب، وأصبر من ضب؛ فإن النفس تسمح من العناية على قدر الحاجة، وتتحفظ على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر السبب".

"جمهرة الأمثال 1: 117"

ومن كلماته البليغة قوله حين قدم خراسان:

ٍ"من كان في يديه شيء من مال عبد الله بن خازم4 فلينبذه، وإن كان في فيه فليلفظه، وإن كان في صدره فلينفثه" فعجب الناس من حسن ما فصل وقسم.

"البيان والتبيين 2: 54"

1 العقعق: نوع من الغربان، وهو ذو لونين: أبيض وأسود طويل الذنب، يشبه صوته العين والقاف -ولذا سمي عقعقًا- وقيل لأنه يعق فراخه؛ فيتركهم بلا طعام، وجميع الغربان يفعل ذلك، وقد ضربوا به المثل في الحذر، فقالوا:"أحذر من عقعق" -انظر جمهرة الأمثال- كما قالوا: "أحذر من غراب" وقالوا أيضًا: "ألص من عقعق" لأن في طبعه شدة الاختطاف لما يراه من الحلي، وقالوا:"أحمق من عقعق"؛ لأنه كالنعامة التي تضيع بيضها وأفراخها، وتشتغل ببيض غيرها، وإياها عني هدبة بقوله:

كتاركة بيضها بالعراء

وملبسة بيض أخرى جناحًا

انظر حياة الحيوان الكبرى الدميري 2: 209، ومجمع الأمثال.

2 رواه الميداني: "أسمح من لافظة"، وقال: قد اختلفوا فيها، فقال بعضهم: هي العنز التي تشلي الحلب- أشلى دابته: أراها المخلاة لتأتيه، وأشلاها: دعاها للحلب- فتجيء لافظة بجرتها فرحًا بالحلب.

وقال بعضهم: هي الحمامة؛ لأنها تخرج ما في بطنها لفرخها، وقال بعضهم: هي الديك؛ لأنه يأخذ الحبة بمنقاره فلا يأكلها، ولكن يلقيها إلى الدجاجة، والهاء فيها للمبالغة هاهنا، وقال بعضهم: هي الرحى لأنها تلفظ ما تطحنه أي تقذف، وقال بعضهم: هي البحر لأنه يلفظ بالدرة، قال الشاعر:

تجود فتجزل قبل السؤال

وكفك أسمح من لافظة

3 الذر: صغار النمل، وفي كلام عمر بن عبد العزيز: قاتل الله زيادًا جمع لهم "أي لأهل العراق" كما تجمع الذرة، وحاطهم كما تحوط الأم البرة"، وقال الشاعر:

تجمع للوارث جمعًا كما

تجمع في قريتها الذر

4 وكان من أمره أنه لما مات يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، وثب أهل خراسان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، وغلب عبد الله بن خازم على خراسان، ثم كتب إليه عبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله بن الزبير –وقيل قبله- يدعوه إلى الدخول في طاعته على أن يطعمه خراسان عشر سنين، فأبى وحلف ألا يعطيه طاعة أبدًا، وكان ابن خازم يقاتل بجير بن ورفاء الصريمي بأبرشهر، وخليفته على مرو بكير بن وشاح، فكتب عبد الملك إلى بكير بعهده على خراسان، ووعده ومناه، فدعا إلى عبد الملك، وأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير، فيجتمع عليه أهل مرو وأهل أبرشهر، فترك بجيرًا وأقبل إلى مروٍ، فاتبعه بجير فلحقه، ودارت بينهما الحرب فقُتل ابن خازم في المعركة- انظر تاريخ الطبر 7: ص44، وص196.

ص: 313

302-

‌ خطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس:

لما دانت بلاد المغرب لموسى بن نصير -وكان واليًا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك- طمح بصره إلى فتح بلاد الأندلس؛ فبعث مولاه طارق بن زياد على جيش جله من البربر سنة 92هـ فعبر بهم البحر، ونمى خبره إلى لذريق ملك القوط؛ فأقبل لمحاربته بجيش جرار، وخاف طارق أن يستحوذ الرعب على جنده لقلتهم، فأحرق السفن التي أقلتهم، حتى يقطع من قلوبهم كل أمل في العودة، وقام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثهم على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، فقال:

"أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق1 والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب2 اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وقواته موفورة، وأنتم لا وزر3 لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم؛ فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة4 هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة5،

1 أي الصدق في القتال، والصدق: الشدة، يقال صدقه القتال.

2 جمع مأدبة بالفتح والضم: وهي طعام صنع لدعوة أو عرس.

3 لا ملجأ.

4 أي مبارزته.

5 النجوة: ما ارتفع من الأرض.

ص: 314

ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس، أربأ1 فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلًا، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلًا؛ فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي.

وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور2 الحسان، من بنات اليونان، الرافلات3 في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان4، المقصورات5 في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُزْبانًا6، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا7 وأختانًا8، ثقة منه بارتياحكم للطعان، وإسماحكم9 بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصًا لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين.

واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين، حامل بنفسي على طاغية القوم لُذَرِيق؛ فقاتِلُه إن شاء الله، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده، فقد كفيتم أمره، ولن يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه، فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون".

"نفخ الطيب 1: 112، ووفيات الأعيان 2: 135".

1 ربأ بنفسه: علا بها وارتفع، أي أتنحى عن مشاركتكم.

2 جمع حوراء، من الحور بالتحريك: وهو شدة سواد العين وبياضها.

3 رفلت: جرت ذيلها وتبخترت، أو خطرت بيدها.

4 الذهب.

5 المخدورات: المخبوءات.

6 جمع عزيب. والعزيب والعزب والأعزب: من لا زوجة له.

7 جمع صهر: كحمل، وهو زوج بنت الرجل وزوج أخته.

8 جمع ختن كسبب، وهو الصهر، أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ.

9 سمح وأسمح: جاد وكرم.

ص: 315

303-

‌ نص آخر لخطبة طارق:

وروى ابن قتيبة هذه الخطبة في الإمامة والسياسة بصورة أخرى، قال:

لما بلغ طارقًا دنو لُذريق، قام في أصحابه؛ فحمد الله، ثم حض الناس على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، وبسط لهم في آمالهم، ثم قال:

"أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم؛ فليس ثم والله إلا الصدق والصبر؛ فإنهما لا يغلبان، وهما جندان منصوران، ولا تضر معهما قلة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة، أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، ألا وإني عامد إلى طاغيتهم، بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه، وأقتل دونه، فإن قتلت فلا تهنوا1 ولا تحزنوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم. وتولوا الدبر لعدوكم، فتبددوا بين قتيل وأسير. وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة، من المهنة والذلة، وما قد حل لكم من ثواب الشهادة؛ فإنكم إن تُفَلُّوا2 "والله معكم ومعيذكم" تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدًا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه، فاحملوا بحملتي".

"الإمامة والسياسة 2: 53".

1 فلا تضعفوا.

2 إن تغلبوا وتهزموا.

ص: 316

304-

‌ خطبة عثمان بن حيان المري بالمدينة:

وولى الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيان المري المدينة سنة 94هـ، وقد خطب على المنبر فقال بعد حمد الله:

"أيها الناس: إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين، في قديم الدهر وحديثه،

ص: 316

وقد ضوى1 إليكم من يزيدكم خبالًا: أهل العراق، هم أهل الشقاق والنفاق، هم والله عش النفاق، وبيضته التي تفلقت عنه، والله ما جربت عراقيًّا قط؛ إلا وجدت أفضلهم عند نفسه، الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم لأعداءٌ لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم؛ فإني والله لا أوتى بأحد آوى أحدًا منهم أو أكراه منزلًا، أو أنزله؛ إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله2.

ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب، وهو مجتهد على ما يصلح رعيته، جعل يمر عليه من يريد الجهاد؛ فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إلي.

إني رأيت العراق داء عضالًا، وبها فرخ الشيطان، والله لقد أعضلوا بي3، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟ ولم؟ وسرعة وَجِيفٍ4 في الفتنة؛ فإذا خُبِرُوا عند السيوف، لم يخبر منهم طائل5، لم يصلحوا على عثمان، فلقي منهم الأمرين6، وكانوا أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقضوا عُرا الإسلام عُروة عُروة، وأنغلوا7 البلدان، والله إني لأتقربُ إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم، ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية، فدامَجَهُم8 فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجلُ الناس9 جلدًا،

1 ضوى كرمى: انضم ولجأ، والخبال: الفساد.

2 ولم يترك بالمدينة أحدًا من أهل العراق، تاجرًا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن يخرجوا، وحبس بعضهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف.

3 عضل به الأمر وأعضل: اشتد، وأعضله أيضًا.

4 وجف يجف وجيفًا: اضطرب.

والوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل.

5 الطائل والطائلة والطول: الفضل والقدرة.

6 الأمران: الفقر والهرم، وهو كناية عن اشتداد الأمر.

7 أفسدوا، من تغل الأديم كفرح: فسد في الدباغ، وأفغله: أفسده.

8 المدامجة مثل المداجاة ودامجه عليه: وافقه.

9 يريد الحجاج بن يوسف.

ص: 317

فبسط عليهم السيف وأخافهم؛ فاستقاموا له، أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم.

أيها الناس: إنا والله ما رأينا شعارًا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسًا1 قط شرًّا من الخوف؛ فالزموا الطاعة، فإن عندي يا أهل المدينة خبرة من الخلاف، والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم، وعَضُوا على النواجذ؛ فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم، إنكم في فضول كلام غيرُه ألزمُ لكم، فدعوا عيب الولاة؛ فإن الأمر إنما يُنْقَضُ شيئًا شيئًا حتى تكون الفتنة، وإن الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد".

"تاريخ الطبري 7: 92"

1 الحلس: بساط البيت، وكساء على ظهر البعير تحت رحله، والمراد: ما رأينا مركبًا شرًّا من الخوف، وفلان حلسٌ من أحلاسِ البيت: الذي لا يبرح البيت.

ص: 318

305-

‌ وصية يزيد بن المهلب لابنه مخلد

"قتل سنة 102هـ":

ولما ولي يزيد بن المهلب خراسان في عهد سليمان بن عبد الملك، فتح جرجان1 وطبرستان2 "سنة 98"، وقد أوصى ابنه مخلدًا حين استخلفه على جرجان؛ فقال:

"يا بُني، إني قد استخلفتك على هذه البلاد، فانظر هذا الحي من اليمن، فكن لهم كما قال الشاعر:

إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم

فَرِشْ واصطنع عند الذين بهم ترمي3

وانظر هذا الحي من ربيعة؛ فإنهم شيعتك وأنصارك، فاقضِ حقوقهم، وانظر هذا

1 في الجنوب الشرقي من بحر قزوين.

2جنوبي بحر قزوين.

3 راش السهم يريشه: ألزق عليه الريش، وراش الصديق: أطعمه وسقاه وكساه وأصلح حاله ونفعه، واصطنع عنده صنيعة: اتخذها، والبيت لأبي دؤاد الإيادي.

ص: 318

الحي من تميم؛ فأمطرهم1، ولا تُزْهَ2 لهم، ولا تُدْنِهم فيطمعوا، ولا تقصهم فيقطعوا، وانظر هذا الحي من قيس؛ فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية، ومناصفوهم المنابر في الإسلام، ورضاهم منك البِشْرُ.

يا بني: إن لأبيك صنائع فلا تفسدها، فإنه كفى بالمرء نقصًا أن يهدم ما بنى أبوه، وإياك والدماء؛ فإنها لا بقية معها، وإياك وشتم الأعراض، فإن الحرَّ لا يُرْضِهِ عن عرضه عوضٌ، وإياك وضرب الأبشار، فإنه عار باق، ووتر مطلوب، واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى، ولا تعزل إلا عن عجز أو خيانة، ولا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه؛ فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها، وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه، احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم، وإذا كتبت كتابًا فأكثر النظر فيه، وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفقه عني وعنك، فإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع سره، وأستودعك الله، فلا بد للمودّع أن يسكت، وللمشيّع أن يرجع، وما عفَّ من المنطق، وقل من الخطيئة أحب إلى أبيك، وكذلك سلك هذا المسلك المحمود".

"شرح ابن أبي الحديد م4: ص155، وبلوغ الأرب 3: 173"

1 مطرتهم السماء: أصابتهم بالمطر، ومطرهم بخير: أصابهم وما مطر منه خيرًا -وبخير- أي ما أصابه منه خير.

2 الزهو: الكبر والتيه، زهى كعنى، وكدعا قليلة

ص: 319

306-

‌ نصيحة عمر بن هبيرة لبعض بنيه:

وقال عمر بن هبيرة1 يؤدب بعض بنيه:

"لا تكونن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير2، وتجنب ارتجال الكلام، ولا تشر على مستبد، ولا على وغد، ولا على متلوِّن، ولا على لَجُوج، وخَفِ الله في موافقة هوى المستشير؛ فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة".

وقال: "من كثر كلامه كثر سَقَطُهُ، ومن ساء خُلُقُه قلَّ صديقُهُ".

"البيان والتبيين 2: 98"

1 هو عمر بن هبيرة الفزاري، وكان عاملًا على الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، وولي العراق "وأضيفت إليه خراسان" ليزيد بن عبد الملك.

2 كل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير -والعجين الفطير: ضد الخمير: أي الذي لم يختمر- "وكان عبد الله بن وهب الراسبي أمير الخوارج يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري -والدبري بالتحريك وتسكن الباء: الذي يعرض من بعد وقوع الشيء- ولا تقل دبري بضمتين فإنه من لحن المحدثين".

ص: 320

‌خطب خالد بن عبد الله القسرى

‌خطبته بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة

خطب خالد بن عبد الله القسري 1 "توفي سنة 126هـ":

307-

خطبته بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة:

خطب خالد بن عبد الله القسري بمكة، فقال:

"يا أيها الناس، إنكم بأعظم بلاد الله حرمة، وهي التي اختار الله من البلدان فوضع بها بيته، ثم كتب على عباده حجه، من استطاع إليه سبيلًا، أيها الناس: فعليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، وإياكم والشبهات؛ فإني والله ما أوتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم، إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا وأطيعوا، ولا تقولوا كَيْتَ وكَيْتَ، إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قومًا من أهل الخلاف يَقْدَمُون عليكم، ويقيمون في بلادكم؛ فإياكم أن تنزلوا أحدًا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة، فإني لا أجد أحدًا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله، فانظروا من تنزلون في منازلكم، وعليكم بالجماعة والطاعة، فإن الفرقة هو البلاء العظيم".

وسُمِعَ يومًا يقول: "والله لو أعلم أن هذه الوحشَ التي تأمن في الحرم لو نطقت

1 ولاه الوليد بن عبد الملك مكة سنة 89هـ، وولي العراق في عهد هشام بن عبد الملك، وكانت أمه نصرانية، قالوا وكان يتهم في دينه، وهو من خطباء العرب المعدودين المشهورين بالفصاحة والبلاغة، توفي سنة 126هـ.

"21 –جمهرة خطب العرب- ثان".

ص: 321

لم نقر بالطاعة، لأخرجتها من الحرم، إنه لا يسكن حرم الله وأمنه مخالف للجماعة زارٍ1 عليهم".

"تاريخ الطبري 8: 80".

1 زرى عليه: عابه.

ص: 322

308-

‌ خطبة أخرى يشيد فيها بفضل الوليد:

ومن غُلُوِّه أنه خطب على منبر مكة؛ فقال:

"أيها الناس، أيهما أعظم؟ أخليفة الرجل على أهله، أم رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقى ربه، فسقاه ملحًا أُجاجًا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبًا فراتًا1" يعني بئرًا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين: ثنية طوى، وثنية الحجون2؛ فكان ينقل ماؤها، فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم، ليعرف فضله على زمزم".

"تاريخ الطبري 8: 67، وسرح العيون ص205 والأغاني 19: 60"

1 ماء أجاج: ملح مر، والفرات: الماء العذب جدًا.

2 ذو طوى مثلث الطاء وينون: موضع قرب مكة، والحجون: جبل مشرف بمكة. وفي سرح العيون أنه قال: "قد جئتكم بماء العاذبة، لا تشبه ماء أم الخنافس" يعني زمزم.

ص: 322

309-

‌ خطبته بمكة في الحجاج:

وصعد خالد المنبر في يوم جمعة -وهو على مكة- فذكر الحجاج فحمد طاعته، وأثنى عليه خيرًا؛ فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشتم الحجاج ونشر عيوبه، وإظهار البراءة منه فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"إن إبليس كان مَلَكًا من الملائكة، وكان يُظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلًا، وكان الله قد علم من غشه وخبثه ما خفي على ملائكته،

ص: 322

فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم؛ فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه، وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلًا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي علينا؛ فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين، فلعنه، فالعنوه لعنه الله" ثم نزل.

"العقد الفريد 2: 158-3: 11"

ص: 323

310-

‌ خطبة له في الحث على مكارم الأخلاق:

وقام على المنبر بواسط، فحمد الله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

"أيها الناس، نافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذمًّا، ولا تعتدّوا بالمعروف ما لم تعجلوه، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها؛ فالله أحسن لها جزاء، وأجزل عليها عطاء. واعلموا أن حوائج الناس إليكم، نعمة من الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحولوها نقمًا.

واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجرًا، وأورث ذكرًا، ولو رأيتم المعروف رجلًا رأيتموه حسنًا جميلًا يسرُّ الناظرين، ولو رأيتم البخل رجلًا رأيتموه مشوهًا قبيحًا تنفر عنه القلوب، وتغضي عنه الأبصار.

أيها الناس، إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوًا من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطِبْ حرثُه، لم يزكُ1 نبتُه، والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم".

"صبح الأعشى 1: 223، ونهاية الأرب 7: 255، وسرح العيون ص205"

1 لم ينم.

ص: 323

311-

‌ خطبة له يوم عيد:

خطب فذكر الله وجلاله، ثم قال:

"كنتَ كذلك ما شئتَ أن تكون، لا يَعلمُ كيف أنتَ إلا أنتَ، ثم ارتأيتَ أن تخلُقَ الخلقَ؛ فماذا جئتَ به من عجائب صُنعك؟ والكبيرُ والصغيرُ مِن خلقِكَ، والظاهرُ والباطنُ من ذَرِّكَ، مِن صُنوف أفواجِهِ1، وأفراده وأزواجه، كيف أدمجتَ2 قوائمَ الذَّرَّة والبعوضة، إلى ما هو أعظم من ذلك، من الأشباح، التي امتزجت بالأرواح".

"عيون الأخبار م2: ص246"

ٍـ

1 جمع فوج كشمس، وهو الجماعة.

2 من أدمج الحبل: أحكم فتله في رقة.

ص: 324

312-

‌ قوله وقد سقطت جرادة على ثوبه:

وكان خالد إذا تكلم يظن الناس أنه يصنع الكلام، لعذوبة لفظه، وبلاغة منطقه؛ فبينا هو يخطب يومًا إذ سقطت جرادة على ثوبه، فقال:

"سبحان مَنِ الجرادةُ من خَلْقه، أدمجَ قوائمها، وطوَّفها جَنَاحَهَا، ووشَّى1 جلدها، وسلطها على ما هو أعظم منها".

"عيون الأخبار م2: ص247، والعقد الفريد 2: 163"

1نقش ونمنم وزيّن.

ص: 324

313-

‌ خطبة يوسف بن عمر الثقفي

4 "قتل سنة 127هـ":

قام خطيبًا، فقال:

اتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمِّلٍ أملًا لا يبلغه، وجامعٍ مالًا لا يأكله، ومانعٍ عما سوف يتركه، ولعله من باطلٍ جَمَعَه، ومن حقٍّ مَنَعَه، أصابه حرامًا، وأورثه

1 هو ابن ابن عم الحجاج، ولاه هشام بن عبد الملك اليمن سنة 106هـ، ثم ولاه العراق سنة 120هـ بعد عزل خالد بن عبد الله القسري، وقتل سنة 127هـ.

ص: 324

عدوا، فاحتمل إصره1، وباء بوزره، وورد على ربه آسفًا لاهفًا، قد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين".

"العقد الفريد 2: 158، والبيان والتبيين 2: 71، ونهاية الأرب 7: 255"

1 الإصر: الذنب.

ص: 325

314-

‌ خطبة يوسف بن عمر:

ولما قتل يوسف بن عمر زيد بن عليٍّ سنة 122هـ أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر فقال:

"يا أهل المدرة الخبيثة: إني والله ما تقرَن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، ولا أخوَّفُ بالذئب، هيهات! حُبيتُ بالساعد الأشدّ.

أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق، ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم، أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه؛ فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله إلا حكيم بن شريك المحاربي، ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم، ولو أذن لقتلتُ مقاتلتكم وسبيت ذراريكم".

"تاريخ الطبري 8: 278"

ص: 325

‌خطب الفتن والأحداث

‌خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصارى

خطب الفتن والأحداث فتنة المدينة ووقعة الحرة:

315-

خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصاري:

وقد علم بقدوم جيش الشأم إلى المدينة "قتل سنة 63هـ"

لما كره أهل المدينة خلافة يزيد بن معاوية، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الأنصاري على خَلْعِهِ، ووثبوا على من كان بالمدينة من بني أمية وحصروهم وأخافوهم، وجه إليهم يزيد جيشًا من أهل الشام بقيادة مسلم بن عقبة المرّيّ ونمى إليهم خبر مقدمه عليهم؛ فجمعهم عبد الله بن حنظلة، فقال:"تبايعونني على الموت؛ وإلا فلا حاجة في بيعتكم" فبايعوه على المنبر: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"أيها الناس: إنما خرجتم غضبًا لدينكم، فأبلوا إلى الله بلاءً حسنًا، ليوجب لكم به الجنة ومغفرتَه، ويحل بكم رضوانَه، واستعدوا بأحسن عدتكم، وتأهبوا بأكمل أهبتكم فقد أُخبرت بأن القوم نزلوا بذي خُشُب1 ومعهم مروان بن الحكم، واللهُ إن شاءَ مُهْلِكُهُ بنقضِهِ العهدَ والميثاقَ عند منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2".

1 ذو خشب: وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة.

2 وذلك أن أهل المدينة كانوا قد أخرجوا مروان بن الحكم وكبراء بني أمية عن المدينة، وحَلَّفُوهم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لقوا جيش يزيد ليردونهم عنهم إن استطاعوا؛ فإن لم يستطيعوا مضوا إلى الشام، ولم يرجعوا معهم، فحَلَفُوا لهم على ذلك.

ص: 326

فتصايح الناس، وجعلوا ينالون منه ويسبونه، فقال لهم:"إن الشتم ليس بشيء، نَصْدُقُهم اللقاءَ، واللهِ ما صَدَقَ قومٌ قطُّ إلا نُصِرُوا"، ثم رَفَعَ يديه إلى السماء، وقال:"اللهم إنا بك واثقون، وعليك متوكلون، وإليك ألجأنا ظهورنا" ثم نزل.

"الإمامة والسياسة 1: 154"

ص: 327

316-

‌ خطبة مسلم بن عقبة يؤنب أهل الشأم:

وأقبل مسلمٌ بجيشه إلى المدينة؛ فحاصَرَها من جهة الحرة1، ودعا أهلها إلى الطاعة ومراجعة الحقِّ، وأجلهم ثلاثًا فلم يُذعِنوا لقوله، ونشبت الحرب بين الفريقين، وحملت خيل ابن حنظلة على أهل الشام فانكشفوا، وقتل صاحب رايتهم، فأخذ مسلم الراية، ونادى:

"يا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم؟ وأن يُعِزُّوا به نصرَ إمامهم؟ قبح الله قتالكم منذ اليوم، ما أَوْجَعَه لقبي، وأغيظه لنفسي! أما واللهِ ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء، وأن تجمروا في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية، تَرَّحَ2 اللهُ وجوهَكم إن لم تعتبوا3".

"تاريخ الطبري 7: 9"

1 الحرة: أرضٌ بظاهر المدينة بها حجارة سودٌ كبيرة.

2 ترح ترحا كفرح فرحا: حزن، وترحه تتريحًا أحزنه.

3 أعتبه: أعطاه العتبى "كقربى" وهي الرضا، أي إن لم ترضوني بصدقكم القتال.

ص: 327

317-

‌ خطبة مسلم يحرضهم:

ثم إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو ابن حنظلة ورجاله حتى دنوا منه، وأخذ مسلم يسير في أهل الشام ويحرضهم، ويقول:

"يا أهل الشأم، إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها، ولا أكثرها

ص: 327

عددًا، ولا أوسعها بلدًا، ولم يخصصكم الله بالذى خصكم به من النصر على عدوكم، وحسن المنزلة عند أئمتكم؛ إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيروا؛ فغير الله بهم، فتموا1 على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة، يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج2".

"تاريخ الطبري 7: 9"

1 تم على الأمر وتمم عليه كضرب: أي استمر عليه.

2 الفلج: الظفر والنصر.

ص: 328

318-

‌ خطبة ابن حنظلة يحرض أصحابه:

وقام عبد الله بن حنظلة في أصحابه حين رآهم قد أقبلوا يمشون تحت راياتهم؛ فقال: "يا هؤلاء: إن عدوكم قد أصابوا وجه القتال الذى ينبغي أن تقاتلوهم به، وإني قد ظننت ألا تلبثوا إلا ساعة، حتى يفصل الله بينكم وبينهم، وإما لكم وإما عليكم، أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة! والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخظ منه على هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، إن لكل امرئ منكم ميتة هو ميت بها، والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم، فاغتنموها؛ فوالله ما كلما أردتموها وجدتموها".

ودارت الدائرة على أهل المدينة، وقتل ابن حنظلة فيمن قتل، ودخل مسلم المدينة1 وكانت وقعة الحرة في ذي الحجة سنة 63هـ.

"تاريخ الطبرى 7: 10".

1 انظر ص 195.

ص: 328

‌اضطراب الأمر بعد موت يزيد:

319-

‌ خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه:

قام عبيد الله بن زياد بن أبيه خطيبًا بعد موت يزيد ين معاوية -وهو يومئذ أمير العراق- فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"يا أهل البصرة، انسبوني؛ فوالله ما مُهاجَرُ أبي إلا إليكم، وما مولدي إلا فيكم، وما أنا إلا رجلٌ منكم، ولقد وليتكم وما أحصَى ديوان مقاتِلتِكم إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصَى اليوم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفًا، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفًا، ولقد أحصى اليوم مائة وأربعين ألفًا1، وما تركت لكم ذا ظنة2 أخافه عليكم، إلا وهو في سجنكم هذا، وإن أمير المؤمنين: يزيد بن معاوية قد توفي وقد اختلف أهل الشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددًا، وأعرضُه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادًا؛ فاختاروا لأنفسكم رجلًا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، يجاهد عدوكم، وينصف مظلومكم من ظالمكم، ويكف سفهاءكم، ويجبي لكم فيئكم، ويقسمه فيما بينكم، فأنا أول راضٍ من رضيتموه وتابع، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترتضونه، دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم3

1 وفي البيان والتبيين: "والله لقد وليكم أبي وما مقاتلتُكم إلا أربعون ألفًا؛ فبلغ بها ثمانين ألفًا، وما ذريتكم إلا ثمانون ألفًا، وقد بلغ بها عشرين ومائة ألف، وأنتم أوسع الناس بلادًا، وأكثره جنودًا وأبعد مقادًا، وأغنى الناس عن الناس..إلخ".

2 الظنة: التهمة.

3 الجديلة: الطريقة، وقال: ما زال على جديلة واحدة، أي على حال واحدة، وطريقة واحدة.

ص: 329

حتى تعطوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغني الناس عنكم".

فقامت خطباء أهل البصرة، فقالوا: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا واللهِ ما نعلم أحدًا أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك، فقال: لا حاجة لي في ذلك، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا عليه، وأبى عليهم، حتى كرروا ذلك عليه ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه.

فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بالحيطان وباب الدار، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نُوَلِّيه أمرنا في الفرقة! وأقام عبيد الله أميرًا غير كثير، حتى جعل سلطانُه يضعف، ويأمر بالأمر فلا يُقضى، ويرى الرأي فيُرد عليه، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه.

"تاريخ الطبري 7: 18، والبيان والتبيين 2: 65، ومروج الذهب 2: 105"

ص: 330

320-

‌ خطبة أخرى له:

وبلغه أن سلمة بن ذؤيب يدعو الناس إلى ابن الزبير؛ فأمر فنودي: الصلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أول أمره وأمرهم، وما قد كان دعاهم إلى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وقال:"وإنكم أبيتم غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم ما قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي1، ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف".

فقال الأحنف بن قيس والناس جميعًا نحن نأتيك بسلمة، فأتوه فإذا جمعه قد كثف وإذا الفتق قد اتسع على الراتق، وامتنع عليهم، فقعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه.

1 طلبتك: ما طلبته.

ص: 330

وروي أنه قال في خطبته: "يا أهل البصرة، والله لقد لبسنا الخز واليمنة1 واللين من الثياب، حتى لقد أجمَّنا2 ذلك، وأجمته جلودنا؛ فما بنا إلى أن نعقبها الحديد؟

يا أهل البصرة، والله لو اجتمعتم على ذنبِ عيرٍ لتكسروه ما كسرتموه".

"تاريخ الطبري 7: 20"

1 اليمنة: برد يمني.

2 أجمه: أراحه، وأصله من أجم الفرس: تركه فلم يركبه فعفه من تعبه، والجمام بالفتح: الراحة.

ص: 331

321-

‌ خطبة عمرو بن حريث:

ولما بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد -وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث- بعث وافدين من قبله إلى الكوفة: عمرو بن مسمع، وسعد بن القرحاء1 التميمي، ليعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة، ويسألانهم البيعة لابن زياد، حتى يصطلح الناس، فجمع الناس عمرو بن حريث، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم، يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم، ويصلح به ذات بينكم؛ فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشد ما أتياكم".

1القرحاء في الأصل: الروضة في وسطها نور أبيض.

ص: 331

322-

‌ خطبة عمرو بن مسمع:

فقام عمرو بن مسمع؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر أهل البصرة، واجتماع رأيهم على تأمير عبيد الله بن زياد؛ حتى يرى الناس رأيهم، فيمن يولون عليهم وقال:

"قد جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم، فيكون أميرنا وأميركم واحدًا؛ فإنما الكوفة من البصرة، والبصرة من الكوفة".

ص: 331

وقام ابن القرحاء، فتكلم نحوا من كلام صاحبه؛ فقام يزيد بن الحارث الشيباني فحصبهما أول الناس، ثم حصبهما الناس بعد، ثم قال: أنحن نبايع لابن مرجانة؟

لا ولا كرامة! ورجع الوفد إلى البصرة، فأعلم الناس الخبر، فقالوا: أهل الكوفة يخلعونه، وأنتم تولونه وتبايعونه؟ فوثب به الناس؛ فاستجار بمسعود بن عمرو الأزدي فأجاره ومنعه، ثم خرج إلى الشام في خفارة رجال من الأزد وبكر بن وائل.

"تاريخ الطبري 7: 30"

ص: 332

323-

خطبة الأحنف بن قيس

واستخلف ابن زياد مسعود بن عمرو الأزدي على البصرة، فقالت بنو تميم وقيس: لا نولى إلا رجلا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: قد استخلفني، فلا أدع ذلك أبدًا، وبينما هو على المنبر يبايع من أتاه، إذا رماه رجل من الخوارج فقتله، فخرجت الأزد إلى الخوارج، فقتلوا منهم وجرحوا، وطردوهم عن البصرة، وجاءهم الناس، فقالوا لهم: تعلمون أن بني تميم يزعمون أنهم قتلوا مسعود بن عمرو؟ فبعثت الأزد تسأل عن ذلك، فإذا أناس منهم يقولونه، فاجتمعت الأزد عند ذلك، وازدلفوا إلى بني تميم، وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد بكر بن وائل، فالتقى القوم، واقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثيرة، فقالت لهم بنو تميم: اللهَ اللهَ يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم، بيننا وبينكم القرآن، ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا، فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينة، فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا، ولا نعلم لصاحبكم قاتلا، وإن لم تريدوا ذلك، فنحن نَدِي صاحبكم بمائة ألف درهم، فاصطلحوا، فأتاهم الأحنفُ بن قيس، فقال:

"يا معشر الأزد: أنتم جيرتنا في الدار، وإخوتنا عند القتال، وقد أتيناكم

ص: 332

324-

خطبة روح بن زنباع الجذامي بالمدينة: 1

لما نَمَى هلاك يزيد بن معاوية إلى الحصين بن نمير، وهو على حرب ابن الزبير

1 هو روح بن زنباع سيد جذام -إحدى قبائل اليمن- وقد خلفه مسلم بن عقبة المري، على المدينة بعد فراغه من قتال أهلها -في وقعة الحرة- وشخوصه إلى مكة لقتال ابن الزبير -وقد نزل الموت بمسلم في الطريق، وولي أمر الجيش الحصين بن نمير- ولما كانت الفتنة بعد موت معاوية الثاني، دعا حسان بن مالك بن بحدل الكلبي -وكان على فلسطين والأردن- روح بن زنباع فاستخلفه على فلسطين، ونزل هو الأردن فوثب نائل بن قيس الجذامي على روح، فأخرجه من فلسطين، وبايع لابن الزبير.

"الطبري ج7: ص13، 34، والأغاني 17: 111"، وكان لروح اليد الطولى في ظفر مروان بن الحكم بالخلافة، قال صاحب العقد "ج2: ص259" لما مات معاوية بن يزيد بايع أهل الشام كلهم ابن الزبير إلا أهل الأردن، وبايع أهل مصر أيضًا ابن الزبير، واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام؛ فلما رأى ذلك رجال بني أمية وناس من أشراف الشام ووجوهم منهم روح بن زنباع وغيره، قال بعضهم لبعض: إن الملك كان فينا أهل الشام، فانتقل عنا إلى الحجاز لا نرضى بذلك، هل لكم أن تأخذوا رجلًا منا فينظر في هذا الأمر؟ فقال: استخيروا الله، فأتوا عمرو بن سعيد بن العاص، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر، فرأوه حدثًا، فجاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فقالوا له: ارفع أسك لهذا الأمر، فرأوه حدثًا حريصًا على هذا الأمر؛ فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حديث فأتوا مروان بن الحكم، فقالوا: يا أبا عبد الملك ارفع رأسك لهذا الأمر، فقال: استخيروا الله، واسألوه أن يختار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرها وأعدلا، فقال له روح بن زنباع: إن معي أربعمائة من جذام، فأنا آمرهم أن يتقدموا في المسجد غدًا، ومُرْ أنت ابنك عبد العزيز أن يخطب الناس ويدعوهم إليك؛ فإذا فعل ذلك تنادوا من جانب المسجد: صدقت صدقت! فينظر الناس أن أمرهم واحد، فلما اجتمع الناس قام عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان، كبير قريش وسيدها، والذي نفسي بيده لقد شاب شعر ذراعيه من الكبر"؛ فقال الجذاميون: صدقت صدقت! قال خالد بن يزيد: أمر دُبِّرَ بليل! فبايعوا مروان بن الحكم أهـ. ومن أجل ذلك كان روح أثيرًا عند عبد الملك بن مروان "كما يقول المبرد في الكامل 2: 122"، ويقول ابن نباتة في سرح العيون ص113:"وكان روح بمنزلة نائب عبد الملك" ويقول صاحب العقد: "وكان روح بن زنباع وزير عبد الملك" -2: 70، 3: 6- قال ابن طباطبا في الفخرى ص136: "والوزارة لم تتمهد قواعدها إلا في دولة بني العباس فأما قبل ذلك؛ فلم تكن مقننة القواعد؛ بل كان لكل واحد من الملوك أتباع وحاشية فإذا حدث أمر استشار ذوي الحجى والآراء الصائبة، فكل منهم يجري مجرى وزير؛ فلما ملك بنو العباس تقررت قوانين الوزارة، وسمي الوزير وزيرًا، وكان قبل ذلك يسمى كاتبًا أو مشيرًا، وأول وزير وُزِّرَ لأول خليفة عباسي حفص بن سليمان أبو سلمة الخلال وزير السفاح".

ص: 334

بمكة- انصرف بجيشه إلى الشأم؛ فلما صاروا إلى المدينة، جعل أهلها يهتفون1 بهم، ويتوعدونهم، ويذكرون قتلاهم بالحرة، فلما أكثروا من ذلك وخافوا الفتنة وهَيْجَها، صعد روح بن زنباع الجذامي على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان في ذلك الجيش- فقال:

"يا أهل المدينة: ما هذا الإبعاد2 الذي توعدوننا؟ إنا والله ما دعوناكم إلى "كلب" لمبايعة رجل منهم، ولا إلى رجل من "بَلْقَيْن"3 ولا إلى رجل من "لَخْم" أو "جُذَام" ولا غيرهم من العرب، ولكن دعوناكم إلى هذا الحي من قريش -يعني بني أمية- ثم إلى طاعة يزيد بن معاوية، وعلى طاعته قاتلناكم، فإيانا توعدون؟ أما والله إنا لأبناء الطعن والطاعون، وفضلات الموت والمنون، فما شئتم"4، ومضى القوم إلى الشأم.

"مروج الذهب 2: 104، والبيان والتبيين 1: 208"

1 يصيحون.

2 يقال: وعده خيرًا وبه، ووعده شرًّا وبه – ومن هذا قوله تعالى:

{النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير وعد وفي الشر أوعد، وقالوا أوعده خيرًا وشرًّا بالألف أيضًا، وأدخلوا الباء مع الألف في الشر خاصة؛ فقالوا أوعده بالسجن ونحوه.

3 أصله بنو القين كما قالوا: بلحارث في بني الحارث، وبلعنبر في بني العنبر. قال المبرد في الكامل 2: 183 "وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة؛ فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك "بنو" لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك من بلحارث وبلعنبر وبلهجيم" أي بني الهجيم كزبير.

4 وروى الجاحظ أن روحًا خطب هذه الخطبة يدعو إلى بيعة يزيد بن معاوية، وفي آخرها يقول:"وعندنا إن أجبتم وأطعتم من المعونة والفائدة ما شئتم".

ص: 335

‌خطبة الأحنف بن قيس

في رحالكم، لإطفاء حشيشتكم1، وسل سخيمتكم2، ولكم الحكم مرسلًا3، فقولوا، على أحلامنا وأموالنا؛ فإنه لا يتعاظمنا4 ذهاب شيء من أموالنا كان فيه صلاح بيننا"، فقالوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قال: هي لكم، فانصرف الناس واصطلحوا5"

وروى الجاحظ وابن عبد ربه هذه الخطبة بصورة أخرى، وها هي ذي:

قال بعد حمد الله والثناء عليه: "يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الصِّهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو، واللهِ لأزدُ البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشأم، فإن استشرف شنآنُكم6، وأبى حسدُ صدوركم، ففي أموالنا، وسعة أحلامنا، لنا ولكم سعة".

"تاريخ الطبري 8: 31، والبيان والتبيين 2: 68، والعقد الفريد 2: 157"

1 أي ناركم الموقدة. من حش النار: أوقدها، فهي فعيلة بمعنى مفعولة "وإن كانت لم ترد في كتب اللغة بهذا المعنى، لكن القياس لا يمنعها، والوارد: الحشيشة طاقة الكلأ".

2 السخيمة: الحقد.

3 أي مطلقًا كما تشاءون.

4 تعاظمه: عظم عليه.

5 واجتمع أهل البصرة على أن يجعلوا عليهم منهم أميرًا يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام، فجعلوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر شهرًا ثم جعلوا عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب -وهو ببة- فصلى بهم شهرين، ثم قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر من قبل ابن الزبير، فمكث شهرًا، ثم قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقياع، ثم مصعب بن الزبير، أما أهل الكوفة؛ فإنهم لما ردوا وفد البصرة ولوا عليهم عامر بن مسعود القرشي، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الأنصاري من قبل ابن الزبير كما تقدم.

6 استشرف: انتصب، أي زاد واستحكم، والشنآن: البغض والكراهية.

ص: 233