الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوافدات على معاوية:
367-
وفود سودة بنت عمارة على معاوية:
وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان؛ فاستأذنت عليه فأذن لها، لما دخلت عليه سلمت، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال لها: أنت القائلة لأخيك يوم صفين؟:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة
…
يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليًّا والحسين ورهطه
…
واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخو النبي محمد
…
علم الهدى ومنارة الإيمان
فَقُدِ الجيوشَ وسر أمام لوائه
…
قدمًا بأبيضَ صارم وسنان1
قالت: إي والله، ما مثلي من رغب عن الحق، أو اعتذر بالكذب، قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب علي عليه السلام، واتباع الحق، قال: فوالله ما أرى عليك من أثر عليٍّ شيئًا، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى، وتذكار ما قد نُسِيَ، قال: هيهات! ما مثل مقام أخيك ينسي، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك، قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام ذليل المكان؛ ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخرًا لتأتمُ الهداةُ به
…
كأنه علم في رأسه نار2
1 القدم: الشجاع؛ وفي بلاغات النساء: "فقه الحتوف وسر أمام لوائه".
2 العلم: الجبل.
قال: صدقت، لقد كان كذلك، فقالت: مات الرأس وبتر الذنب، وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي؛ مما استعفيت منه، قال: قد فعلت، قولي حاجتك، قالت: يا أمير المؤمنين، إنك أصبحت للناس سيدًا، ولأمورهم متقلدًا، والله سائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط سلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس1 البقر، ويسومنا2 الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، هذا ابن أرطأة3 قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عزٌّ ومنعة؛ فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك؟ والله لقد هممت أن أحملك على قَتَبٍ4 أشرس فأردَّكِ إليه، ينفذ فيك حكمَه، فأطرقتْ تبكي، ثم أنشأت تقول:
صلى الإله على روحٍ تَضَمَّنَه
…
قبرٌ فأصبح فيه العدلُ مدفونا
قد حالفَ الحقَّ لا يبغِي به ثمنًا
…
فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال: ومن ذلك؟ قالت: عليّ بن أبي طالب، رحمه الله تعالى، قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟ قالت: أتيته يومًا في رجل ولاه صدقاتنا؛ فكان بيننا وبينه ما بين الغث5 والسمين، فوجدته قائمًا يصلي، فانفتل من الصلاة، ثم قال برأفة
1الدوس والدياس والدياسة: الوطء بالرجل.
2 يكلفنا.
3 هو بسر بن أرطأة، وقيل ابن أبي أرطأة، وكان معاوية في أيام عليٍّ سيره إلى الحجاز واليمن ليقتل شيعة عليٍّ ويأخذ البيعةَ له؛ فسار إلى المدينة، ففعل بها أفعالًا شنيعة، وسار إلى اليمن؛ وكان عليها عبيدَ الله بن العباس من قبل عليٍّ، فهرب عبيدُ الله فَنَزَلَها بسر، وذبح عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله وهما صغيران بين يدي أمهما عائشة بنت عبد المدان؛ فأصابها من ذلك حزنٌ عظيمٌ؛ فأنشأت تقول:
يا من أحسن بني اللذين هما
…
كالدرتينِ تشظَّى عنهما الصدفُ
يا من أحس بني اللذين هما
…
سمعِي وقلبي؛ فقلبي اليوم مختطف
يا من أحس بني اللذين هما
…
مخ العظام؛ فمخي اليوم مزدهف
4 القتب: الإكاف الصغير على قدر سنام البعير، والمراد به هنا البعير لوصفه بالأشرس ففيه مجاز؛ أو الأشرس: الخشن الغليظ.
5 الغث: المهزول.
وتعطف: ألكِ حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل؛ فبكى ثم رفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم إنك أنت الشاهد عليَّ وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك، ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب، فكتب فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ 1 وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا 2 فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} ، إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا، حتى يأتي من يقبضه منك والسلام".
فأخذته منه والله ما خَزَمَه بِخِزام، ولا ختمه بختام3 فقرأته، فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها، والعدل عليها؛ فقالت: أليّ خاصة، أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذن الفحشاء واللؤم، إن لم يكن عدلًا شاملًا، وإلا يسعني ما يسع قومي، قال: هيهات! لَمَّظَكم4 ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئًا ما تفطمون، وغرَّكم قوله:
فلو كنت بوابًا على باب جنة
…
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقوله:
ناديت همدان والأبواب مُغْلَقَةٌ
…
ومثل همدان سَنَّى فتحة الباب5
كالهندواني لم تفلل مضاربه
…
وجه جميل وقلب غير وجاب6
اكتبوا لها ولقومها.
"العقد الفريد 1: 129، وبلاغات النساء ص35"
1 القسط: العدل.
2 عثا يعثوا عثوا: أفسد
3 الخزام جمع خزامة بالكسر، وهي في الأصل: حلقة تجعل في أحد جانب منخري البعير، وحزامة النعل: سير رقيق يخزم بين الشراكين. الختام: الطين يختم به على الشيء، "والخاتم: ما يوضع على الطينة".
4 التلمظ: التذوق، وأن يحرك الإنسان لسانه في فمه بعد الأكل، يتتبع به بقية من الطعام بين أسنانه، ويخرجه فيمسح به شفتيه، واسم ما بقي في الفم اللُّماظة بالضم، ويقال: لمظ فلانًا "بالتشديد" لماظة: أي شيئًا يتلمظه، ولمظه من حقه شيئًا: أعطاه "والعامة تبدل الظاء ضادًا".
5 سناه تسنية: سهله وفتحه.
6 سيف هندواني بكسر الهاء، ويجوز ضمها إتباعا للدال منسرب إلى الهند، ووجاب من وجب القلب وجيبًا إذا خفق.