الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
178 -
حدثني حمزة بن العباس، أنبأنا عبدان، أنبأنا عبد اللَّه، عن سليمان بن المغيرة عن ثابت، عن مطرف قال:"لِيُعَظَّم جلال اللَّه في صدوركم، فلا تذكروه عند مثل هذا، قول أحدكم للكلب: اللهم اخزِه، وللحمار وللشاة"
(1)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة الموزعة على ما يناسبها من عناصر بيان مسائل هامة متعلقة بالدعاء.
فشمل العنصر الأول أثرين فيهما بيان بعض أسباب الإجابة وهي الإخلاص والاستكانة للَّه، وهما من جملة أسباب إجابة الدعاء وقد ذكرهما وغيرهما ابن رجب رحمه الله فقال: "من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة:
أحدها: إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء.
والثاني: حصول التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والإغبار.
الثالث: مد يديه إلى السماء وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته.
الرابع: الإلحاح على اللَّه عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما
= كتاب الصمت وآداب اللسان (194) رقم (345)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 314).
(1)
إسناده صحيح.
كتاب الصمت وآداب اللسان (281) رقم (630)، وابن المبارك في الزهد (71) رقم (214)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 179) رقم (35136).
يطلب به إجابة الدعاء"
(1)
.
وشمل العنصر الثاني إنزل الحوائج كلها باللَّه، والمراد هذا العنصر بيان أن سؤال اللَّه وإنزال حاجات الناس به تعالى كان هو السائد بين هذه القرون الفاضلة، فلا نجد في أدعيتهم على اختلاف أسبابها وتنوع حاجاتهم، وتغاير عباراتهم وأساليب خطابهم، رغم كل ذلك نجدها تصب في كوثر واحد هو الرجوع إلى اللَّه والالتجاء إليه
(2)
، وقد صرح بعضهم بهذا الأمر فإن أثر عجردة العابدة فيه:"فبك إلهي لا بغيرك أسألك"، ووصايا كثير من السلف لغيرهم أن ينزل حاجته باللَّه لا بغيره كأثر الثوري، وفي أثر الليث بيان أن دعاء اللَّه لم يقتصر على حال الرخاء بل حتى حال الشدَّة وهي الغرق لم يتوجهوا لغيره تعالى، وهكذا كان دعاء اللَّه حتى في ما ليس محبوبا إليه كالانتقام والقتل كانوا يدعونه أن يمكنهم من ذلك، وعند وقوعهم في الأسر، وفتح الحصون، كل ذلك لا يرجعون إلى غيره ولا يدعون سواه، هذا منهجهم وسبيلهم، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
(1)
جامع العلوم والحكم (105 - 106) وقد ذكر في كل سبب ما يشهد له من الأحاديث والآثار، وانظر سلاح المؤمن في الدعاء (97)، وتحفة الذاكرين للشوكاني (46 - 47).
(2)
ولو تتبعت كتب الأدب الكبيرة فإنها عقدت أبوابا في بعض أدعية الأعراب وأهل البادية تجد فيها العجب من سؤال اللَّه والتضرع بين يديه ولا تجد إشارة إلى الشرك والتوسل بالمخلوقين واللَّه أعلم.
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}
(1)
، وما هذا إلا لعلمهم اليقيني أن الدعاء من أعظم العبادات وأن الشرك فيه من أعظم أنواع الشرك، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:"إن لم يكن الإشراك فيه -أي الدعاء- شركا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(2)
.
أما العنصر الثالث فقد شمل أمرا مهما من أمور الدعاء عند أهل السنة والجماعة وهو علاقة الدعاء بكرامات الأولياء والصالحين، حيث تضمن الأثران أثر أنس بن مالك رضي الله عنه وأثر الشعبي رحمه الله جواز إحياء اللَّه الموتى بدعاء بعض الصالحين، ففي أثر أنس أن الميت من البشر وهو ابن العجوز الأنصارية، وفي أثر الشعبي أنه من الحيوانات وهو حمار، وقد عد العلماء هذا الأمر من التوسل إلى اللَّه بالأعمال الصالحة، ولذلك أدرج شيخ الإسلام أثر أنس رضي الله عنه مع أثر الثلاثة الذين انغلق عليهم الغار فدعوا بصالح أعمالهم
(3)
.
ومسألة إحياء الموتى بدعاء الصالحين مسألة شائكة ودقيقة جدا؛ وذلك أن: "المراتب ثلاثة: آيات الأنبياء، ثم كرامات الصالحين، ثم خوارق
(1)
سورة النساء، الآية (115).
(2)
تيسير العزيز الحميد (219).
(3)
لاشتراك الجميع في الدعاء بصالح الأعمال.
الكفار والفجار، كالسحرة والكهان، وما يحصل لبعض المشركين، وأهل الكتاب، والضلال من المسلمين.
أما الصالحون الذين يدعون إلى طريق الأنبياء لا يخرجون عنها، فتلك خوارقهم من معجزات الأنبياء، فإنهم يقولون: نحن إنما حصل لنا هذا باتباع الأنبياء، ولو لم نتبعهم لم يحصل لنا هذا، فهؤلاء إذا قدر أنه جرى على يد أحدهم ما هم من جنس ما جرى للأنبياء، كما صارت النار بردا وسلاما على أبي مسلم، كما صارت على إبراهيم، وكما يكثر اللَّه الطعام والشراب لكثير من الصالحين، كما جرى في بعض المواطن للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إحياء اللَّه ميتا لبعض الصالحين كما أحياه للأنبياء، وهي أيضًا من معجزاتهم بمنزلة ما تقدمهم من الإرهاص، ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحد قط مثل معجزات المرسلين كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم، ولكنهم قد يشاركونهم في بعضها كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم، وكرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول"
(1)
.
ولما تكلم عما ينقله أهل الكتاب من كرامات صالحيهم ومعجزات أنبيائهم قال: "أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وتابعوهم صالحون، ولهم من الآيات أعظم مما للحواريين وغيرهم من الأمم، وفيهم من كان يحمل العسكر على الماء، ومن كان يشرب السموم القاتلة، ومن يحيي اللَّه الموتى
(1)
النبوات (5 - 6).
بدعوته، ومن يكثر الطعام والشراب، وكتب كرامات الأولياء فيها من ذلك أعظم مما عند أهل الكتاب"
(1)
.
وقال: "الآيات التي يبعث اللَّه بها أنبياء قد يكون مثلها لأنبياء أخر مثل: إحياء الموتى، فقد كان لغير واحد من الأنبياء، وقد يكون إحياء الموتى على يد أتباع الأنبياء كما قد وقع لطائفة من هذه الأمة ومن أتباع عيسى؛ فإن هؤلاء يقولون: نحن إنما أحيى اللَّه الموتى على أيدينا لاتباع محمد أو المسيح، فبإيماننا بهم وتصديقنا لهم أحيى اللَّه الموتى على أيدينا، فكان إحياء الموتى مستلزما لتصديقه عيسى ومحمدا، لم يكن قط مع تكذيبهما، فصار آية لنبوتهم، وهو أيضًا آية لنبوة موسى وغيره من أنبياء بني اسرائيل الذين أحيى اللَّه الموتى على أيديهم"
(2)
.
فتلخص من هذا أن الأنبياء لهم من الآيات ما يختصون به عن غيرهم من سائر البشر كالنبوة، سواء من أتباعهم أو من غيرهم، وقد يختص النبي المعين بآية عن سائر إخوانه من الأنبياء فضلا عن غيرهم كناقة صالح وعصا موسى، وقد يشاركه فيها غيره من الأنبياء، كما قد يشاركه فيها بعض أتباعه، كإحياء الموتى فقد كان لغير واحد من الأنبياء، وكان لبعض الصالحين من أتباعهم واللَّه أعلم
(3)
.
(1)
الجواب الصحيح (6/ 355).
(2)
النبوات (213).
(3)
انظر كتاب النبوات (218 - 219).
واشتمل العنصر الرابع على بيان أهمية ذكر اللَّه في السراء وأنه عدة يدخرها المؤمن ليذكره اللَّه بها في الضراء، وفي ذلك إشارة إلى تحذير المؤمن من ذكر اللَّه ودعائه في الضراء والشدائد، ونسيانه في السراء والسمعة، لأن ذلك من أخلاق المشركين كما قال اللَّه عنهم:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}
(1)
، قال الإمام القصاب رحمه الله:"تقريع لمن يهمل الدعاء في الرخاء، ويفزع إليه في الشدة، وليس ذلك من أخلاق المؤمنين، إذ من أخلاقهم إكثار الدعاء في الرخاء عدة للشدة. . . فلا ينبغي للمؤمن أن يستن بالكافر، ولا يفزع إلى الدعاء إلا عند الشدائد"
(2)
.
وإذا كان هذا كذلك فما بالك بمن يخص الشدائد والكرب بالفزع إلى غير اللَّه، وسؤاله ودعائه، لا شك أنه أسوأ من المشركين الذين نهينا عن اتباع سننهم، فإنهم يخلصون الدعاء للَّه في الشدائد دون الرخاء، وهؤلاء يخلصون الشرك في الشدائد فضلا عن الرخاء واللَّه المستعان
(3)
.
(1)
سورة الزمر، من الآية (8).
(2)
نكت البيان (150 ب - 151 أ).
(3)
انظر تيسير العزيز الحميد (320)، رسالة الشرك ومظاهره لمبارك الميلي (196) فقد ذكر قصة مفادها أن الشيخ الصوفي أمر أتباعه بأن يسألوه كي لا تغرق السفينة وهو يتوسط لهم عند اللَّه، وعلى مثل هذه القصص تسكب عبرات التوحيد وإلى اللَّه المشتكى.
واشتمل العنصر الخامس بعض آداب الدعاء حيث فضّل الجوني الاستجارة والتعوذ من النار على العتق منها؛ لأن العتق يتضمن دخولها، وذكر مطرف أن من تعظيم اللَّه عدم سؤاله خزي الكلب والحمار والشاة
(1)
، أما عدم سؤال اللَّه العتق من النار وتفضيل سؤال الإجارة والتعوذ منها، بسبب أن السؤال يتضمن دخولها، فالذي يظهر واللَّه أعلم أن هذه المسألة نظير ما ورد من تحفّظ بعض السلف من سؤال شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بحجة أن ذلك يتضمن دخول النار، وقد ناقشت ذلك في موضعه وبيّنت وجه جوازه بل استحبابه واللَّه يعصمنا من الخطأ والزلل
(2)
.
(1)
انظر في مثل هذه الآداب آداب الدعاء للطبراني (1/ 558).
(2)
انظر هذه الرسالة (889 - 891).