الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
269 -
حدثني محمد عن محمد بن أشكاب الصغار قال: قال داود الطائي: "اليأس سبيل أعمالنا هذه، ولكن القلوب تَحِنُّ إلى الرجاء"
(1)
.
270 -
ذكر محمد بن الحسين، نا حكيم بن جعفر، نا عبان بن كليب الليثي، عن رجل من أهل الكوفة: "جلسنا إلى عون بن عبد اللَّه
(2)
في مسجد الكوفة فسمعته يقول: إن من أغر الغِرَّة
(3)
انتظار تمام الأماني وأنت مقيم على المعاصي، قال: وسمعته يقول: لقد خاب سعي المعرضين عن اللَّه، وسمعته يقول:"ما يؤمل إلا عفوه وغلبه البكاء فقام"
(4)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة الموزعة على العناصر الخمس أمورا مهمة تتعلق بمسألة الرجاء، حيث اشتملت العناصر الأربع الأولى بيان أنواع الرجاء وهي: رجاء ثواب الطاعة، ورجاء مغفرة الذنب، ورجاء لقاء اللَّه،
= عساكر في تاريخ دمشق (13/ 460) في قصة طويلة بين عبدوس راوية أبي ونواس وأبي نواس في مرض موته، حيث قال له كيف تجدك فذكر أبياتا منها هذه، وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 82)، وبعضها في البداية والنهاية (9/ 258).
(1)
إسناده حسن، ابن أشكاب صدوق، التقريب (5858)، محاسبة النفس (87) رقم (45)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 359)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 142).
(2)
هو عون بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد اللَّه الكوفي، ثقة عابد، مات قبل سنة عشرين ومائة، التقريب (5223).
(3)
هي الغفلة، تاج العروس (1/ 3293).
(4)
إسناده فيه إبهام الرجل الكوفي، حسن الظن باللَّه (82 - 83) رقم (134).
ورجاء اللَّه في جلب النفع ودفع الضر، وعلاقته بالعمل والأسباب.
فأما ثواب الطاعة فقد تضمنت الآثار تمني بعض من حضره الموت كعبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز أن يتقبل اللَّه منهم بعض أعمالهم، وأثر سعيد بن العاص فيه أن المكارم تحتاج إلى جهاد وصبر، وذلك لا يكون إلا لمن رجا ثوابها.
وأما رجاء مغفرة الذنب فهي كثيرة متنوعة الدلالة على المطلوب فبعضها دعاء ومناجاة كأثر معاوية رضي الله عنه عند الموت حيث سأل اللَّه أن يجعله ممن يشاء أن يغفر له، أو سؤال اللَّه بصفاته المتعلقة بالرجاء كصفة الرحمة في أثر معاوية كذلك وأبياته، أو إظهار العبودية للَّه والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه كأثرَي عمرو بن العاص وابن سماك، أو عدم اليأس من رحمة اللَّه كأثر الفضيل في عدم اليأس ولو كان في النار، أو فهمهم الصحيح لمعاني الأسماء والصفات ومعرفتهم بها كمن فهم من صفة الكرم تجاوز الكريم في المحاسبة عن حقه وتفضله كما في أثر الأعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم وكلام العابد.
وأما رجاء لقاء اللَّه فقد تضمنت الآثار بيان حب السلف لقاء اللَّه واستبشارهم به وفرحهم بذلك، وأنهم لا يكرهون ذلك، وأن السرور الذي يحصل لهم بلقاء اللَّه يسليهم عن كرب الموت وآلامه، وبعضهم ذكر تعليلا لذلك فمن ذلك: المقارنة بين الخوف والرجاء؛ فالخوف هي النفس والمَرْجُوُّ هو اللَّه فيحب المَرْجُوَّ لقاءَه ومفارقة الخوف كأثر الزبيدي
والثوري، أو المقارنة بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق تخاف فتنته، والخالق لا يشك في رحمته، أو المقارنة بين صفات المخلوق وصفات الخالق، فالمخلوق الذي أودعت فيه الرحمة رحيم كالأم لو حاسبت ابنها أدخلته الجنة، فما بالك بمن هو أرحم منها بل أرحم الراحمين، أو المقارنة بين أفعال اللَّه وأفعال غيره، حيث استبشر الأعرابي بلقاء من لا يرى الخير إلا منه وهو اللَّه، وذلك أن أفعال اللَّه ليس فيها شر والشر ليس إليه، أو التسليم للَّه في اختياره والرضا بتصرفه في عباده، وأن ذلك كله خير للعبد، كما في أثر النضر بن عبد اللَّه.
وهذه الأنواع إلى سبقت ذَكَرَهَا ابن القيم رحمه الله في منزلة الرجاء فقال: "الرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوع غرور مذموم، فالأولان: رجاء رجل عمل بطاعة اللَّه على نور من اللَّه فهو راج لثوابه، ورجل أذنب ذنوبا ثم تاب منها فهو راج لمغفرة اللَّه تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه، والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا يرجو رحمة اللَّه بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب"
(1)
، ثم في شرح تقسيم شيخ الإسلام الهروي لدرجات الرجاء قال:"الدرجة الثالثة: رجاء أرباب القلوب، وهو رجاء لقاء الخالق. . . ." قال رحمه الله: "هذا الرجاء أفضل أنواع الرجاء وأعلاها، قال اللَّه تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ
(1)
مدارج السالكين (2/ 37).
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
(1)
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}
(2)
، وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته، وإليه شخصت أبصار المشتاقين، ولذلك سلاهم اللَّه تعالى بإتيان أجل لقائه، وضرب لهم أجلا يسكن نفوسهم ويطمئنها"
(3)
.
أما الرجاء في جلب النفع ودفع الضر، فقد تضمنت الآثار التنبيه إلى أن الرجاء ليس مقصورا عل أمر دون آخر، بل على السلم أن ينزل رجاءه في حصول مرغوب أو دفع مكروه على اللَّه في كل حالاته، ومن هنا كانت نصيحة جعفر أبي محرر لمن خاف على بناته بعد موته، بأن قال: الذي رجوته لمغفرة ذنبك فارجه لخير بناتك، فمغفرة الذنب أعظم من الرزق، ونصيحة طاووس للمحتضر بأن يدعو اللَّه بنفسه لأن اللَّه يجيب المضطر، وكذا أثر زياد النميري بأن منتهى الرجاء تأمل اللَّه على كل الحالات، وذلك "أن الدعاء مبني عليه -الطمع والرجاء-؛ فإن الداعى ما لم يطمع في سؤله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبة إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع"
(4)
، ويتضح هذا أكثر ببيان أن الرجاء من أهم أسباب حصول المقصود كما سبق ذكره في التوكل قال ابن القيم: "قد يجعل اللَّه سبحانه تطيُّر العبد وتشاؤمه سببا لحلول
(1)
سورة الكهف، من الآية (110).
(2)
سورة العنكبوت، الآية (5).
(3)
مدارج السالكين (2/ 56).
(4)
بدائع الفوائد (3/ 523).
المكروه به، كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به. . . ومن رجا مع اللَّه غيره خذل من جهته، وهذه أمور تجربتها تكفي عن أدلتها"
(1)
وقال: "الرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه، بل هو من أقوى الأسباب"
(2)
، ولذلك جعل الرجاء نظير التوكل
(3)
.
أما الرجاء والعمل فيقال فيه ما قيل في سابقيه: حسن الظن والتوكل وعلاقتهما بالأسباب والأعمال؛ لاسيما وأن حسن الظن هو الرجاء
(4)
، وهو نظير التوكل كما سبق، إلا أن الآثار التي وردت في هذا العنصر تضمنت معاني جليلة في بيان هذا الأمر، فالرجاء كما في أثر الحسن هو داعي العمل وحاديه، ولذلك لا يمل صاحبه كلال السهر ومجاهده القيام، وذلك أن قوة الرجاء تبعث على العمل:"إذا تجلى -أي اللَّه عز وجل بصفات الرحمة والبر، واللطف والإحسان، انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله وقوي طمعه، وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جد في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغل غلق أرضه بالبذر"
(5)
، ومن هنا كان بعض السلف يرجو اللَّه وقد صام له ثمانين رمضان، أو يستمر في العمل حتى عند
(1)
مفتاح دار السعادة (3/ 340).
(2)
مدارج السالكين (2/ 45).
(3)
انظر الروح (2/ 748).
(4)
الجواب الكافي (24).
(5)
الفوائد (69).
سكرات الموت بقراءة القرآن أو الصلاة بالإيماء، ويتفكر في الجنة والنار كأنه فيهما، ثم يطالب نفسه بالعمل لنيل الجنة أو البعد عن النار، كأنها طلبت الرجعة فأرجعت للعمل، قال ابن رجب:"وقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة حذرا من لوم النفس عند انقطاع الأعمال على التقصير"
(1)
، حيث أقبلوا على إحسان العمل؛ فإن كان لهم ما يرجون برحمة اللَّه كان عملهم فضلا ودرجات عند اللَّه، وإن كان غير ذلك لم يلوموا أنفسهم على التقصير، بل لم يجترؤوا على المعصية اتكالا على الرجاء، كما قال وهيب بن الورد أكره أن أنال مغفرته بمعصتيه، وقول العمري: كما تحب أن يكون اللَّه لك غدا، فكن له اليوم، وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذا المعنى عند كلامه على الأسباب التي تعين على الصبر عن المعصية فقال:"الثاني: مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وأفضل الترك ترك المحبين. . . الثالث: مشهد النعمة والإحسان؛ فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه"
(2)
، ثم إن الآثار تضمنت أن الذي يرجو للَّه وهو غير آخذ بأسباب ذلك من العمل الصالح، بله مقيم على المعصية مصر عليها مغرورٌ، كما في أثر عمر بن عبد العزيز لمن سأل اللَّه الحور وهو يلعب بالحصى:"بئس الخاطب أنت"، ولا يستوي من هذا حاله مع من أفنى حياته في طاعة ربه، وأن التوبة ليست بالكلام، وَوَصَفَهُ الفضيل بأنه قليل النظر لنفسه، وأبو رافع بأن ذلك من الأمن لمكر اللَّه، وأوصى بعض العباد ابنه بأن لا يرجو الآخرة
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 232).
(2)
عدة الصابرين (44 - 45).
بغير عمل، وفي أبيات الوراق مقارنة بين الرجاء مع تواصل الذنوب، بما فعله ذنب واحد بأبينا آدم، فمن يمني نفسه طرق الرجاء يجب أن يقصدها ويأتيها، وأخيرا فإن الأعمال مهما حسنت وصلحت فإن المعَوَّل على عفو اللَّه ورحمته، خوفا من التقصير الذي يعتريها، وكثرة نعم اللَّه التي لا توافي بعضها جميع أعمالنا؛ كما في أثري داود الطائي وعون بن عبد اللَّه، وهذا يؤكد أن الأعمال ليست عوضا، وإنما هي أسباب لدخول الجنة، وأن الجزاء يوم القيامة هو بأن يتغمّد اللَّه العباد برحمته.