الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: الآثار الواردة في عدم ذكر محاسن الفاسق المبتدع
.
59 -
حدثني أبو صالح قال: سمعت رافع بن أشرس
(1)
قال: كان يقال: إن من عقوبة الكذاب، ألا يقبل صدقه، قال: وأنا أقول: "ومن عقوبة الفاسق المبتدع، أن لا تذكر محاسنه"
(2)
.
التحليل والتعليق
تضمن أثر رافع بن أشرس رحمه الله، بيان بعض ما يستحقه الفاسق المبتدع من العقوبة، وهو أن تذكر محاسنه، وهي مسألة تحتاج إلى تفصيل:
(1)
انظر الكلام عليه في التخريج الآتي.
(2)
إسناده حسن؛ رجاله ثقات سوى رافع بن أشرس، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 482) رقم (2176) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وذكر أنه يروي عنه أحمد بن منصور بن راشد المروزي، قلت: وهو شيخ المصنف هذا أي أبو صالح المروزي، ووردت نسبته في المستدرك (3/ 195) بقوله:"المروزي"، ثم قال عن الحديث:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله:"الصفار لا يدرى من هو" أي شيخ رافع في هذا السند، قلت: وهذا يفيد تقويتهما لرافع بن أشرس واللَّه أعلم، والذي يظهر أنه كان له اهتمام بالجرح والتعديل فانظر ميزان الاعتدال (2/ 372)، الكامل في الضعفاء (6/ 436)، وتهذيب الكمال (7/ 212). الصمت (260) رقم (549)، وأخرجه من طريقه الخطيب البغدادي في الكفاية (117)، وابن رجب في شرح علل الترمذي (1/ 353)، وذكره السخاوي في فتح المغيث (1/ 328).
الحالة الأولى: أن لا يذكر أصلا، لا بسوء ولا بخير، بل يُعزف عنه كُلِّيَةً ما دام حيًّا وإذا مات ماتت معه بدعته، وسلم منه الناس، ولا يلفت نظرهم إليه؛ لأنهم غافلون عنه، وغير منتبهين له، وقد علل ابن دقيق العيد رحمه الله ذلك بقوله:"إخمادا لبدعته وإطفاء لناره"
(1)
، وهذا مُعْتَمَدُ من منع الرواية عن المبتدع مطلقا -داعية أو غيره-، لأن فيه ترويجا لأمره وتنويها بذكره، قال السخاوي:"وعلى هذا ينبغي أن لا يروى عن مبتدع شيء شاركه فيه غيره"
(2)
، وهذا معنى أثر أبي بكر بن عياش:"صاحب السنة إذا مات أحيا اللَّه ذكره، والمبتدع لا يذكر"
(3)
، وقد كان ذلك منهجا عاما للسلف كما قال اللالكائى رحمه الله: "لم يكن لهم -أهل البدع- قهرٌ ولا ذلٌّ أعظمَ مما تركهم السلف على تلك الجملة، يموتون من الغيظ كمدا ودَرَدًا
(4)
، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا"
(5)
.
الحالة الثانية: أن يكون المقام مقام تحذير، وفي هذه الحالة يجب ويتعين أن تُبيَّن بدعة المبتدع، والرَدّ عليه، وكشف عواره، ونشر مثالبه، وكفِّ
(1)
انظر فتح المغيث (1/ 328)، وتوضيح الأفكار (1/ 234).
(2)
فتح المغيث (1/ 328).
(3)
أخرجه الترمذي في العلل، انظر شرح علل الترمذي لابن رجب (1/ 353).
(4)
يقال: رجل أَدْرَد بين الدَّرَد أي ليس في فمه سِنّ، وكأن المراد أنهم يموتون عِيًّا لا يمكنهم إيصال بدعتهم إلى غيرهم للدَّرَد الذي أصاب أسنانهم، وفاقد الأسنان لا يمكنه الكلام إلا بتكلف وبِعِيِّ ومشقة، ولا يكاد يفهم عنه شيء واللَّه أعلم.
(5)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 19).
العامة عن الرجوع إليه، دفاعا عن الدين، وصونا لعقائد عموم المسلمين، من التبديل والتحريف والتأويل.
وذلك أن المقصود بالرد عليه بيان بدعته وخطورتها على الدين، وقمعها ودفنها في مهدها؛ فإن البدع إذا تمكنت من القلوب استشرت وعمت، وحينئذ يتسع الخرق على الراقع كما يقال، ومن هنا لم يناسب حكاية ما له من حسنات في هذا المقام؛ لأنه يعود على المقصود بالإبطال، أو الإضعاف على أقل تقدير، وبهذا تعلم أن من أوجب ذكر حسنات المبتدع عند الرد فقد جانب الصواب واللَّه أعلم، وقد أفتى بذلك سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز رحمه الله لما سئل:"فيه أناس يوجبون الموازنة: أنك إذا انتقدت مبتدعا ببدعته لتحذر الناس منه يجب أن تذكر حسناته حتى لا تظلمه؟ فأجاب الشيخ رعاه اللَّه: "لا، ما هو بلازم، ما هو بلازم، ولهذا إذا قرأت كتب أهل السنة، وجدت أن المراد التحذير، اقرأ في كتب البخاري "خلق أفعال العباد"، في كتاب الأدب في "الصحيح"، كتاب "السنة" لعبد اللَّه بن أحمد، كتاب "التوحيد" لابن خزيمة، "رد عثمان بن سعيد الدارمي على أهل البدع". . . إلى غير ذلك.
يوردونه للتحذير من باطلهم، ما هو المقصود تعديد محاسنهم. . . المقصود التحذير من باطلهم، ومحاسنهم لا قيمة لها بالنسبة لمن كفر، إذا كانت بدعته تكفره، بطلت حسناته، وإذا كانت لا تكفره، فهو على خطر، فالمقصود هو بيان الأخطاء والأغلاط التي يجب الحذر
منها"
(1)
.
وأما الحالة الثالثة: أن يكون المقام يتعلق يحانب أعم من التحذير والرد على المبتدع، وإنما يتعلق بتقويم رجل أو جماعة، أو الترجمة التاريخية، والبحث العلمي، فقد جرت عادة العلماء في مثل هذه المواطن ذكر كل ما يروى عن المترجم له، من حسنات وسيئات، فكتب التاريخ تجد فيها كل ما يتعلق بالمترجم له، ولو كان صاحب بدعة، وتجد في تقويم شيخ الإسلام ابن تيمية لكثير من الطوائف، ذكر بعض حسناتهم، وأحيانا كثيرة يقارن بين جماعة وأخرى، وبيان أيها أفضل مع اجتماعهم في البدعة عموما، كمقارنته بين الخوارج والروافض، والمعتزلة والأشاعرة، وهكذا
(2)
، بل إنك لتجد له كلاما عاما في هذا الموضوع، كقوله رحمه الله:"معلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيم"
(3)
، وقال رحمه الله في معرض كلامه عن الأشعري وموقف بعض الحنابلة منه ومن توبته: "الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد والطائفة الواحدة ما يحمد به من الحسنات، وما يذم به من السيئات، وما لا يحمد به ولا يذم من المباحث، والعفو عنه من الخطأ والنسيان، بحيث يستحق الثواب على حسناته، ويستحق العقاب
(1)
منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال (7)، وانظر بقية نقولات الشيخ عن الألباني والفوزان وغيرهما.
(2)
انظر مجموع الفتاوى (3/ 357).
(3)
المجموع (3/ 228)، وانظر منهاج السنة (7/ 36).
على سيئاته، بحيث لا يكون محمودا ولا مذموما على المباحات والمعفوات، وهذا مذهب أهل السنة في فساق أهل القبلة ونحوهم. . . ولهذا يكثر في الأمة من أئمة الأمراء وغيرهم من يجتمع فيه الأمران فبعض الناس يقتصر على ذكر محاسنه ومدحه غلوا وهوى، وبعضهم يقتصر على ذكر مساويه غلوا وهوى، ودين اللَّه بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيار الأمور أوسطها، ولا ريب أن للأشعري في الرد على أهل البدع كلاما حسنا، هو من الكلام المقبول الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية، وله أيضا كلام خالف به بعض السنة هو من الكلام المردود الذي يذم به قائله إذا أصرَّ عليه بعد قيام الحجة، وإن كان الكلام الحسن لم يخلص فيه النية والكلام السيء كان صاحبه مجتهدا مخطئا مغفورا له خطأه لم يكن في واحد منهما مدح ولا ذم، بل يحمد نفس الكلام المقبول الموافق للسنة، ويذم الكلام المخالف للسنة، وإنما المقصود أن الأئمة المرجوع إليهم في الدين مخالفون للأشعري في مسألة الكلام، وإن كانوا مع ذلك معظمين له في أمور أخرى، وناهين عن لعنه وتكفيره، ومادحين له بما له من المحاسن"
(1)
.
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله السؤال التالي: "ما رأيكم فيمن إذا أراد أن يقوِّم شخصًا، لا يذكر ما لديه من خير بل يذكر مساوئه فقط؟ ، فقال رحمه الله جوابًا على ذلك: "هذا من الإجحاف والجور؛ لأن اللَّه عز وجل يقول في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
(1)
الفتاوى الكبرى (5/ 343).
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
(1)
، فنهانا اللَّه سبحانه وتعالى أن يحملنا بغض قوم على عدم العدل، بل أمرنا أن نقول العدل، وقد أقر اللَّه تعالى الحق الذي صدر من المشركين، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم الحق الذي صدر من اليهود، قال تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}
(2)
، فكان الجواب:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} فأبطل قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} لأنها باطل، وسكت عن قولهم:{وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} لأنها حق. . . والواجب على من أراد أن يقوِّم شخصًا تقويمًا كاملًا
(3)
، إذا دعت الحاجة أن يذكر مساوئه ومحاسنه، وإذا كان ممن عرف بالنصح للمسلمين أن يعتذر عما صدر من المساوئ، مثلًا نحن نرى العلماء كابن حجر والنووي وغيرهما ممن لهم أخطاء في العقيدة لكنها أخطاء نعلم علم اليقين فيما تعرف من أحوالهم أنها حدثت عن اجتهاد"
(4)
.
(1)
سورة المائدة، من الآية (8).
(2)
سورة الأعراف، من الآية (28).
(3)
وهذا ألصق بمقام التراجم، والسيرة الذاتية، والمرويات التاريخية.
(4)
جريدة المسلمون عدد (4730).