الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
.
لقد احتل ابن أبي الدنيا رحمه الله مكانة علمية مرموقة بين علماء عصره، ومن بعدهم إلى عصرنا هذا، فقد أثنى عليه كل من ترجم له، وذكره بما ينبئ عن مكانة علمية متميزة بين علماء عصره، ومن أتى بعدهم.
فقد أثنى عليه العلماء بأوصاف عديدة تفيد اعتماده في الرواية؛ فمنهم من وصفه بالثقة، ومنهم من وصفه بالصدوق، ومنهم وصفه بالحافظ، وغير ذلك من الأوصاف.
فمن التنصيص على أنه ثقة، ما قال ابن الجوزي:"كان ذا مروءة ثقة صدوقا"
(1)
، وقال ابن شاكر الكتبي:"هو أحد الثقات المصنفين للأخبار والسير"
(2)
، وقال ابن تغري بردي:"روى عنه خلق كثير، واتفقوا على ثقته وصدقه أمانته"
(3)
، وقال ابن باطيش:"كان ثقة صدوقا"
(4)
.
ومن التنصيص على أنه صدوق ما قال ابن أبي حاتم: "كتبت عنه
(1)
المنتظم (5/ 148).
(2)
فوات الوفيات (1/ 494).
(3)
النجوم الزاهرة (3/ 86).
(4)
التمييز والفصل (1/ 322).
مع أبي، قال: وسئل أبي عنه فقال: بغدادي صدوق"
(1)
، وقال صالح جزرة:"صدوق"
(2)
، وقال الذهبي:"كان صدوقا أخباريا كثير العلم"
(3)
.
وممن نص على وصفه بالحافظ المزي
(4)
، وابن حجر
(5)
، والسخاوي
(6)
، بل قال:"الحافظ الشهير"
(7)
، وأعلا منه قول مرتضى الزبيدي:"حافظ الدنيا ابن أبي الدنيا"
(8)
.
ووصفه القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي بالعلم الكثير فقال: "رحم اللَّه ابن أبي الدنيا، مات معه علم كثير"
(9)
.
ولقد عرف قدر هذه المنزلة من أتى بعده فذكروه بها وأبرزوها له، فعند ذكر المصنفين في التاريخ والسير نصوا على اعتنائه وتأليفه في ذلك، كالكتبي وقوام السنة وابن تغري بردي.
كما عُدَّ ابن أبي الدنيا في العلوم التي أفردها بالتأليف مرجعا فيها،
(1)
الجرح والتعديل (5/ 163).
(2)
تاريخ بغداد (10/ 89).
(3)
العبر (1/ 404).
(4)
تهذيب الكمال (4/ 272).
(5)
تقريب التهذيب ترجمة رقم (3616).
(6)
الإعلان بالتوبيخ (426).
(7)
فتح المغيث (1/ 190).
(8)
إتحاف السادة المتقين (7/ 88).
(9)
المصدر السابق.
وكل من أتى بعده فهم عيال عليه، كما قال ابن تغري بردي:"الناس بعده عيال عليه في الفنون التي جمعها"
(1)
.
ونص عدد منهم على أنها مصنفات مفيدة، وفيها نوادر، كما سبق النقل عن ابن كثير وغيره قريبا، بل إن الحافظ السخاوي رحمه الله لا سئل سؤالا عقديا رجع إلى مظانّه فبدأ أولا بكتاب القبور لابن أبي الدنيا، فقد ورد في الأجوبة المرضية
(2)
ما يلي: "سئل الحافظ السخاوي عن سؤال الملكين للميت، هل هو عام لجميع الأمم الماضية، أم خاص بالأمة المحمدية؟ فأجاب:
قد راجعت أهوال القبور لابن أبي الدنيا، ثم لابن رجب، وكتاب البعث للبيهقي وغيره، وغير ذلك من مظان هذا السؤال كالتذكرة ونحوها، فلم أقف على شيء صريح في ذلك"، وهذا يدل على المكانة المميزة التي يتمتع بها ابن أبي الدنيا، ويؤكد ما قاله ابن تغري بردي بأن الناس بعده عيال عليه في الفنون التي جمعها.
بل كثيرا ما تجد في كتب التراجم الاهتمام بأجزاء ابن أبي الدنيا والحرص على سماعها، وذكر ذلك في أعمال المترجم له، فهذا الخطيب البغدادي بلغ به الحرص على مصنفاته أن جمع منها (39) جزءا، قال
(1)
النجوم الزاهرة (3/ 86).
(2)
(2/ 779 - 780)، وانظر الروح لابن القيم (1/ 325) وإحالته على كتاب المنامات لابن أبي الدنيا.
الدكتور يوسف العش -بعد إيراده لهذ الإحصاء-: "لعل القارئ الكريم انتبه إلى مكانة ابن أبي الدنيا عند الخطيب"
(1)
، وابن الطيوري حاز منها (84) مصنفا
(2)
، وهكذا كثيرا ما تجد في كتب التراجم والمشيخات والبرامج أن فلانا سمع كذا من كتب ابن أبي الدنيا أو أجازه بها فلان ونحو ذلك.
أما قول السيوطي رحمه الله عند كلامه على النوع الحادي عشر -وهو المعضل-: "من مظان المعضل والمنقطع والمرسل: كتاب السنن لسعيد بن منصور، ومؤلفات ابن أبي الدنيا"
(3)
، فلا يعني كثرة هذه الأنواع في مؤلفاته، فضلا عن أن تكون هي الأغلب على مروياته، وقد قام فضيلة الدكتور مصلح الحارثي بإحصاء مرويات ابن أبي الدنيا في كتابه التهجد الذي قام بتحقيقه فبلغ المجموع (518) نصا، الصحيح منها (22)، والحسن أو الضعيف المنجبر (67)، أما الضعيف غير المنجبر (26)، هذا في المرفوع ويبقى الموقوف فما دونه من المقطوعات والأقوال الأخرى، وكما أن الآثار التي قمت بتخريجها في هذه الرسالة العلمية ووجدت أنها منقطعة أو معضلة أو مرسلة، لم تصل مائة أثر كان الأغلب منها المنقطع بلغ (52)، يليه المرسل (28)، ثم أخيرا المعضل (7)، هذا في حصيلة تبلغ
(1)
الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدثها (147)، وانظر مشيخة ابن الحطاب (269، 275).
(2)
تاريخ الإسلام للذهبي (1/ 3506)، وانظر كذلك (1/ 2110، 4277).
(3)
تدريب الراوي (1/ 214).
أكثر من (1100)، ومجمل الأعداد لا تصل نسبته 8 %.
وقرين ما جاء في كلام السيوطي كتاب سنن سعيد بن منصور، وقد تعقبه فضيلة الدكتور سعد الحميّد فبيّن أن الجزء الذي قام بتحقيقه يبلغ (869) حديثا، لا يتجاوز نسبة المرسل فيه 8 % وهو أكثر الأنواع الثلاثة وجودا، أما المعضل فلا يتجاوز سبعة أحاديث، فقال:"وجه تخطئة السيوطي في كلامه هذا تخصيصه سنن سعيد بن منصور دون سواها بوجود هذه الأنواع (المعضل والمنقطع والمرسل) بما يفيد كثرتها فيها، وهذا ليس بصحيح"
(1)
.
قلت: والذي يظهر لي واللَّه أعلم أن ذكر مصنفات ابن أبي الدنيا في النوع الثامن من أنواع علوم الحديث وهو المقطوع أولى من هذا المكان؛ حيث ذكر في نهاية هذا النوع فائدة فقال: "ومن مظان الموقوف والمقطوع مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وتفاسير: ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم"
(2)
، فهذا الموضع أولى بكتب ابن أبي الدنيا لأنها مليئة بالآثار من موقوفات ومقطوعات وما دونها من أقوال الأئمة والسلف عموما فضلا عما احتوته من الأحاديث المرفوعة.
ومما يتصل بمكانته العلمية ما عرف عنه من تأديبه أولاد الخلفاء، وهذا أمر اشتهر عنه وعدَّه المترجمون من أهم مناقبه فلم يغفل هذه المعلومة
(1)
سنن سعيد بن منصور (1/ 203/ ق).
(2)
تدريب الراوي (1/ 195).
أحد منهم، إلا أن تفاصيل ذلك لا يعرف عنها إلا الشيء اليسير، ومن ذلك الشيء اليسير أنه لم يذكر ممن أدبهم إلا الخليفة العباسى المعتضد باللَّه أحمد بن طلحة، وابنه المكتفي باللَّه علي بن المعتضد.
والذي أريد إبرازه مما ذكرت هنا هو الجانب المتعلق بتخصصي وهو أثر ابن أبي الدنيا على عقيدة هذين الخليفتين
(1)
.
فأما الخليفة المعتضد باللَّه فقد ظهر أثر التربية العقدية عليه واضحا فيما قام به من أفعال أثناء فترة حكمه، فمن أهم ذلك موقفه من الفلسفة والإلحاد، حيث قتل أحمد بن الطيب واستعظم دعوته له للإلحاد والكفر بقوله:"أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا منتصب في منصبه"
(2)
، وأحمد ابن الطيب هذا قال عنه ابن حجر:"معلم المعتضد. . .، قال ابن النجار: كان يرى رأي الفلاسفة، قتل سكران، قلت: وهو تلميذ يعقوب بن إسحاق الكندي، فيلسوف العرب. . . وكان موضعه من الفلسفة لا يجهل، وله مصنفات في الفلسفة وغيرها"
(3)
، وقال الذهبي:"إن المعتضد قتل السرخسي -يعني أحمد هذا- لفلسفته وسوء اعتقاده"
(4)
.
كما استعظم الرخص والتحايل على الشريعة بتتبع زلات العلماء،
(1)
ولهما رحمهما اللَّه جوانب عديدة مشرقة في حياتهما أغفلت الكلام عليها لأنني التزمت بأن تكون المقدمة مختصرة.
(2)
البداية والنهاية (11/ 86).
(3)
لسان الميزان (1/ 189 - 190).
(4)
تاريخ الإسلام (1/ 2230)، وانظر الوافي بالوفيات فقد ذكر قصة مطولة في ذلك (1/ 871).
وذلك لما جمع له بعض الناس كتابا فيه إباحة نكاح المتعة وآلات اللهو والغناء، فعرضه على القاضي إسماعيل فنصحه بأنه لا يفعل هذا إلا زنديق، وأن العلماء لا يجتمع في أحدهم كل هذه الأقوال الشاذة، بل من قال ببعضها لم يقل ببعضها الآخر، فمن أخذ بجميعها ذهب دينه، فعند ذلك أمر بتحريق الكتاب
(1)
، وكان شديد الحرص على القضاء على الفتن في البلاد وقضى بالفعل على كثير منها، وقال السيوطي:"في أول سنة -استخلف فيها- منع الوراقين من بيع كتب الفلاسفة وما شاكلها، ومنع القصاص، والمنجمين من القعود في الطريق. . . وفي سنة اثنتين وثمانين أبطل ما يفعل في النيروز: من وقيد النيران، وصب الماء على الناس، وأزال سنة المجوس"
(2)
.
وقد شهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بهذا الأثر العقدي الذي حصل في الناس فقال: "كان في أيام المتوكل قد عزَّ الإسلام، حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم، وكذلك في أيام المعتضد والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء، الذين كانوا أحمد سيرة، وأحسن طريقة من غيرهم، وكان الإسلام في زمنهم أعز، وكانت السنة بحسب ذلك"
(3)
.
(1)
المصدر السابق (11/ 87).
(2)
تاريخ الخلفاء (320)، وانظر تاريخ الطبري (5/ 610).
(3)
مجموع الفتاوى (4/ 21 - 22).
وأما ابنه المكتفي باللَّه فقد سار بنفسه للقضاء على القرامطة
(1)
، وأسلم على يديه قدامة بن جعفر بن قدامة وكان نصرانيا
(2)
.
وإذا كان أثر التأديب ظاهرا هذا الظهور، كان قول ابن الجوزي
(3)
: "جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقلَّ الصبر فدخلوا مداخل شانتهم، وإن تأولوا فيها إلا أن غيرها كان أحسن لهم، فالزهري مع عبد الملك، وأبو عبيدة مع طاهر بن الحسين، وابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد، وابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير، وما زال خلف من العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم، وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقا من التأويل، فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا"، ليس على إطلاقه؛ فإنه ليس كل من دخل على السلطان دخل لأجل الدنيا، ولا كل من دخل عليهم ضعف إيمانه وغيّرته الدنيا، ولا تفضل حالة على أخرى مطلقا، بل يختلف ذلك باختلاف الداخل والمدخول عليه واللَّه أعلم
(4)
.
(1)
تاريخ الإسلام (1/ 2166).
(2)
تاريخ الإسلام (1/ 2358).
(3)
صيد الخاطر (70).
(4)
انظر مجموع الفتاوى (10/ 577).