الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتعليق
تضمن أثر ابن أبي كبشة رحمه الله جواز لعن المبتدع المعين، وقد أتى ما يؤيد فعل هذا الهاتف عن بعض السلف فقد أورد الشاطبي رحمه الله أثرا عن أبي داود فيه أنه ما:"لعن أحدًا قط إلا رجلين: أحدهما: رجلٌ ذكر له أنه لعن مالكًا، والآخر: بشر المريسي"
(1)
، وكذا جاء عن وكيع لعنة المريسي
(2)
، والإمام مالك لعن بشرا كذلك
(3)
.
ولا شك أن الأصل أن ينزه المسلم لسانه عن اللعن والسب بأنواعه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا ينبغي للصديق أن يكون لعانا"
(4)
، قال ابن ناصر الدين الدمشقي فيما نقله عن النووي: "اتفق العلماء على تحريم اللعن، فإنه في اللغة: الإبعاد والطرد، وفي الشرع: الإبعاد من رحمة اللَّه، فلا يجوز أن يبعد من رحمة اللَّه من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية؛ فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان، أو كافرا، أو دابة، إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر، أو يموت عليه، كأبي جهل،
= واشتهارها، وذكره الذهبي في السير (10/ 206) من طريق شيخ المصنف، ومحمد ابن أبي كبشة وثقه ابن حبان! انظر الثقات (5/ 371)، وتعجيل المنفعة (375)، والإكمال للحسيني (384).
(1)
الاعتصام (268).
(2)
الصواعق المرسلة (4/ 1402).
(3)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 467).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه (4/ 2005) رقم (2597).
وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة"
(1)
، ومن منهج السلف أنهم لا يعيِّنون في نصوص الوعيد، وإنما يطلقون الكلام على النوع دون الأعيان، قال شيخ الإسلام:"إن نصوص الوعيد من الكتاب والسنة كثيرة جدا، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا ملعون ومغضوب عليه، أو مستحق للنار، لا سيما إن كان لذلك الشخص فضائل وحسنات. . . لما تقدم أن موجب الذنب يتخلف عنه بتوبة، أو استغفار، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة، أو لمحض مشيئته ورحمته. . . فإذا قلنا بموجب -وذكر بعض نصوص الوعيد- إلى غير ذلك من أحاديث الوعيد لم يجز أن نعين شخصا ممن فعل بعض هذه الأفعال، ونقول: هذا المعين قد أصابه هذا الوعيد"
(2)
.
هذه القاعدة العامة التي بنى أهل السنة عليها منهجهم، ولهذا فإن ما صدر عن بعضهم من لعن بعض أعيان أهل البدع؛ عده بعض العلماء نزاعا في المسألة ثم ذكروا له توجيها، قال شيخ الإسلام:"في لعنة المعين إذا كان فاسقا أو داعيا إلى بدعة نزاع"
(3)
، وقال في توجيه ذلك: "من
(1)
الرد الوافر (11)، وانظر تفسير القرطبي (2/ 188 - 189)، وتفسير ابن كثير (1/ 202)، عمدة القاري (1/ 203)، فيض القدير (1/ 54)، الزواجر (2/ 60)، الكبائر للذهبي (166).
(2)
المجموع (20/ 288 - 289).
(3)
المجموع (6/ 511).
جوَّز من أهل السنة والجماعة لعنة الفاسق المعين؛ فإنه يقول: يجوز أن أصلي عليه وأن ألعنه؛ فإنه مستحق للثواب مستحق للعقاب؛ فالصلاة عليه لاستحقاقه الثواب، واللعنة له لاستحقاقه العقاب، واللعنة البعد عن الرحمة، والصلاة عليه سبب للرحمة، فيرحم من وجه ويبعد عنها من وجه"
(1)
، كما ذكر ابن حجر رحمه الله بعض التوجيهات الأخرى فقال:"قيل إن المنع -أي من لعن المعين- خاص بما يقع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتوّهم الشارب عند عدم الإنكار -أي إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من لعنه- أنه مستحق لذلك -أي اللعن- فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث أبي هريرة: "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم"، وقيل المنع مطلقا في حق من أقيم عليه الحد؛ لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور، وقيل المنع مطلقا في حق ذي الزلة، والجواز مطلقا في حق المجاهرين، وصوَّب ابن المنير أن المنع مطلقا في حق المعين، والجواز في حق غير المعين. . . واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح
(2)
، وقد توقف فيه بعض من يقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم، وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والذي قاله شيخنا أقوى؛ فإن
(1)
منهاج السنة (569 - 570).
(2)
أخرجه البخاري برقم (6781) من حديث أبي هريرة.
الملك معصوم، والتأسي بالمعصوم مشروع، والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود"
(1)
.
وقال رحمه الله: "الحق أن من منع اللعن -لعن الفاسق المعين- أراد به معناه اللغوي، وهو الإبعاد من الرحمة، وهذا لا يليق أن يدعى به على المسلم، بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية، والذي أجازه أراد به معناه العرفي وهو مطلق السب، ولا يخفي أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر، وأما حديث الباب فليس فيه إلا أن الملائكة تفعل ذلك ولا يلزم منه جوازه على الإطلاق"
(2)
، وزاد ابن عابدين معنى آخر وهو أن المراد باللعن في حق المسلم الفاسق الطرد عن منازل الأبرار وليس الطرد من رحمة اللَّه فجاز بهذا الاعتبار
(3)
.
والذي يظهر لي من خلال هذه النقولات أن من ثبت عنه لعن المبتدع المعين فإما أن يكون ذلك من باب مطلق السب والحط عليه والإذلال والصغار، أو أنه ترجح له كفره، فإن السلف مطبقون على كفر الجهمية عموما
(4)
، ونقل عن بعضهم تكفير بعض أعيانهم واللَّه أعلم
(5)
.
(1)
فتح الباري (12/ 76).
(2)
فتح الباري (9/ 295).
(3)
حاشية ابن عابدين (3/ 416).
(4)
وهذا لا يستلزم تكفير جميع أعيانهم، انظر مجموع الفتاوى (20/ 185).
(5)
انظر در التعارض (5/ 257، 309)، المجموع (12/ 485).