الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: عقيدته ومذهبه في الفروع
.
أولا: عقيدته
.
لم أجد أثناء بحثى من نص على عقيدة ابن أبي الدنيا رحمه الله، إلا أنه من الواضح جدا أنه كان سلفي المعتقد، على طريقة الصحابة والتابعين، متبعا لهم، معظما لآثارهم، جامعا لأقوالهم، وناصرا لمذهبهم، وهذا يدرك بالنظر أولا إلى شيوخه الذين تتلمذ عليهم، فهم ليسوا فقط على مذهبهم، بل أئمة فيه، أصحاب القدم الراسخة والقدح المعلَّى، ولو لم يكن إلا إمامهم الإمام أحمد الذي يلقب بإمام أهل السنة والجماعة، والبخاري صاحب الصحيح، إضافة إلى العدد الكبير الذي ألفه من الكتب سواء المطبوع والمخطوط منها أو المفقود، أما المطبوع والمخطوط فيوجد فيها مخبآت وأقوال فريدة وفوائد عديدة في عقيدة السلف، وأما المفقود فيلحظ من عناوينها اهتمام هذا الإمام بعقيدة السلف وحرصه على تدوينها ونشرها.
فالإخلاص، وأعلام النبوة، وآخر الزمان، وأخبار معاوية، وحلم معاوية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنزال الحاجة باللَّه، والأنواء، والأهوال، والأولياء، والبعث والنشور، والتقوى، والتوبة، والتوكل، وحسن الظن باللَّه، والخائفين، والدعاء، ودلائل النبوة، وذكر الموت، وذم الرياء، والرضا عن اللَّه، والرقى، وسدرة المنتهى، والسنة، وشجرة طوبى، والشكر، والصبر، وصفة الجنة، وصفة الصراط، وصفة الميزان، وصفة النار، وفضائل علي، وفضائل لا إله إلا اللَّه، والقبور، وكرامات الأولياء،
والمجوس، والمحتضرين، ومقتل عثمان، ومقتل علي، ومقتل الزبير، ومقتل الحسين، ومن عاش بعد الموت، والموقف.
كل هذه الكتب الموجود منها والمفقود تسفر عن توجه عقدي سليم، ونصرة لمذهب السلف وبيان له في مثل هذه القضايا العقدية الخطيرة، فلا تكاد تجد مفردا من مفردات مقرر العقيدة إلا وله تأليف مستقل فيه، وعنوان بارز عليه، وإذا عرفت أن تآليفه رحمه الله كلها نقولات عن السلف وذكر لتقريراتهم وأقوالهم في الباب المفرد، ناهيك عن جمعه لما ورد في كل باب من الآيات والأحاديث المسندة، ظهر ما ذكرته.
أضف إلى ذلك ما نالته كتبه من الثناء العطر من علماء السلف، والاعتماد عليها في مسائل هامة من مسائل الاعتقاد.
قال عنه ابن كثير: "المصنف في كل فن، المشهور بالتصانيف الكثيرة النافعة الشائعة الذائعة في الرقاق وغيرها"
(1)
، وخصَّ رحمه الله كتاب مكائد الشيطان
(2)
بأن فيه فوائد جمة
(3)
، وقال الذهبي:"تصانيفه كثيرة جدا، فيها مخبآت وعجائب"
(4)
، وقال ابن تغري بردي:"الناس بعده عيال عليه في الفنون التي جمعها"
(5)
.
(1)
البداية والنهاية (11/ 71).
(2)
وهو من كتب المصنف التي لم يعثر عليها، وقد جمع مجدي السيد ما وقف عليه من مروياته.
(3)
البداية والنهاية (1/ 64).
(4)
السير (13/ 399).
(5)
النجوم الزاهرة (3/ 86).
بل إن من النصوص العزيزة التي وقفت عليها أثناء البحث أن قوام السنة جعل ابن أبي الدنيا هو العمدة في بعض المسائل العقدية الخطيرة المتعلقة بالصحابة والفتن التي جرت لهم كقتل الحسين ونحوه، وموقف يزيد بن معاوية -وأهل بيت معاوية رضي الله عنه المنكر لفعل ابن زياد وشهادة علي بن الحسين وبنته فاطمة بذلك فقال:"هذا ما نقله الثقات من أهل الحديث، فأما ما رواه أبو مخنف وغيره من الروافض فلا اعتماد بروايتهم، وإنما الاعتماد على نقل ابن أبي الدنيا وغيره ممن نقل هذه القصة على الصحة"
(1)
.
وفي نفس السياق وافقه شيخ الإسلام على هذا التحقيق، بل زاده شرحا وتعليلا فقال:"والمصنفون من أهل الحديث في ذلك كالبغوي وابن أبي الدنيا ونحوهما، كالمصنفين من أهل الحديث في سائر المنقولات، هم بذلك أعلم وأصدق بلا نزاع بين أهل العلم؛ لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات، أو يرسلونه عمن يكون مرسله يقارب الصحة، بخلاف الأخباريين"
(2)
، وهذه شهادة وتزكية وأي شهادة وتزكية، من هذين الإمامين الكبيرين في السنة.
وقد اشتهر عن ابن أبي الدنيا رحمه الله أن كتبه وعظية زهدية، يغلب عليها طابع التصوف
(3)
، وربما تراه باديا لدى كثير من طلبة العلم.
(1)
الحجة في بيان المحجة (1/ 526)، وهو توثيق عزيز لم يذكره أحد ممن سبقني إلى دراسة ابن أبي الدنيا.
(2)
مجموع الفتاوى (27/ 479)، وانظر منهاج السنة (4/ 556).
(3)
سمعت هذا من كثير من طلبة العلم أثناء تحضير خطة البحث، بل إني كنت عرضت هذا الموضوع أثناء مرحلة الماجستر على عدة طلاب فكنت أرى علامة الاستغراب =
لكن الذي وجدته أثناء البحث والدراسة لشيوخه، والآثار التي رواها عنهم، أنه على صورة مغايرة تماما -في غالبها- لهذا، فابن أبي الدنيا كان في بغداد في القرن الثالث، وهي الفترة التي برز فيها عدد من أئمة أهل السنة واحتوت على كثير من أعلامها، ومع كل هذا بل ومع حرص ابن أبي الدنيا على التأليف وجمع المادة العلمية التي يثري بها مؤلفاته، لا سيما في مثل هذه المواضيع التي لها صلة بالزهد والرقائق، وتربية النفس، فإننا نجده لا يتوجه إلى هذه الطائفة التي عرفت بتوسعها في هذا المجال، بل على العكس تماما فرغم وجود كثير من المشايخ في بلده بغداد، ومعاصرته لهم، فقد عزف عنهم ولم يرو لهم في كتبه شيئا، وهذا يفيد فائدة علمية مهمة، وهى أن ابن أبي الدنيا ليس مجرد جَمَّاعَة، وإنما هو مؤلف ينتقي مادته العلمية ويقصد إلى بيان منهج السلف في مثل هذه المسائل التي تناولها هؤلاء، فكأن لسان حاله يقول: هذا الزهد الصحيح، وهذا هو المنهج القويم فيه، وعلى هذا كان السلف، حاله في هذا حال من سبقه من مشايخه ومن سبقهم كالإمام أحمد والبرجلاني وابن المبارك وغيرهم، ولهذا تجد كثيرا من مادته العلمية تدور على هؤلاء كما سيتبين أثناء تخريج الآثار في هذه الرسالة، إضافة إلى أن أصحاب الآثار الذين روى أقوالهم هم أئمة السلف الكبار كالحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وأيوب السختياني ونحوهم، فضلا عمن سبقهم من الصحابة.
ويؤكد هذا الكلام أنك لو ألقيت نظرة عابرة على كتاب طبقات الصوفية للسلمي، لا تكاد تجد ذكرا لأصحاب الطبقتين الأولى والثانية،
= والتعجب من كثيرهم، وكانت تعليقاتهم تدور حول جدواه، بل شك كثير منهم في وجود مادة علمية تغطي بحثا أكاديميا متخصصا في العقيدة.
وهم من يمكن روايته عنهم أو عمن فوقهم في كتبه، إلا الفضيل بن عياض رحمه الله، وتلميذه إبراهيم بن أدهم، وصاحبه أبا عبد اللَّه النباجي، ثم الداراني شيئا يسيرا، من طريق أحمد بن أبي الحواري، ومنصور بن عمار، وعبد اللَّه بن خبيق الأنطاكى، ورويم بن أحمد البغدادي (ت: 303 هـ)، فهؤلاء إما أن تجد مروياتهم قليلة جدا بالنسبة لحجم الآثار الواردة في كتبه، أو أن أقوالهم فيها رد صريح على ما اشتهر من مذهب التصوف في تلك العصور، أو لغرض آخر كأن يكون أحدهم أخباريا ونحو ذلك.
ولا تجد ذكرا لبشر الحافي رغم أنه سكن بغداد ومات بها، ولا للسري السقطي وهو إمام البغداديين وشيخهم في وقته وهو متأخر توفي سنة (251 هـ)، ولا الحارث المحاسبي (ت: 243 هـ) وهو أستاذ أكثر البغداديين، وقرينه أحمد بن عاصم الأنطاكي، ولا معروف الكرخي (ت: 200 هـ) وهو بغدادي، ولا الجنيد وهو عراقي مولدا ومنشأً وتأخرت وفاته إلى سنة (297 هـ)، وسمنون بن عمر المحب وهو من كبار مشايخ بغداد مات بعد الجنيد، وكذا أبو الحسين النوري وهو بغدادي المنشأ والمولد، وكان من أجلِّ القوم وعلمائهم، لم يكن في وقته أحسن طريقة منه، ولا ألطف كلاما، وتأخرت وفاته إلى سنة (295 هـ)، وأبو العباس بن مسروق سكن بغداد ومات بها سنة (299 هـ)، وغير هؤلاء كثير يمكن تتبعهم في طبقات الصوفية للسلمي أو غيره من الكتب التي اهتمت بتراجم الصوفية، مع أن هؤلاء كان لهم شأن كبير وسمعة أكبر، وأكثر من ذلك كانوا بلديّيه -ولم أتعرض لذكر غير بلدييه وهم كذلك كُثُر-، ورغم كثرة مشايخه، بل وروايته عمن لا يُعرف كما ذكر عنه فتركه لأمثال من سبق دليل واضح أنه كان صاحب