الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة نهي السلف عن الخصومة في الدين، ولهم في ذلك ملاحظ لاحظوها، فعللوا ذلك بأنها تورث الشنآن والبغضاء، وتنافي الورع، وتورث الشك والتنقل والتلون في الدين، وهي طريقة أهل البدع الذين يخوضون في آيات اللَّه، ولذلك لم تكن من طريقة أهل السنة كما قال الإمام أحمد في رسالته لأبي عبد الرحيم الجوزجاني من خراسان يذكر احتجاجات المرجئة فقال له أحمد:"اعلم رحمك اللَّه: أن الخصومة في الدين ليست من طريق أهل السنة"
(1)
، وقال البربهاري:"الكلام والخصومة والجدال والمراء محدَث، يقدح الشك في القلب، وإن أصاب صاحبه الحق والسنة"
(2)
، وعن أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم اللَّه تعالى قال:"مذهب أهل الجماعة عندنا، وما أدركنا عليه جماعة أهل الفقه، ممن لم يأخذ من البدع والأهواء: ولا يخاصم في الدين؛ فإنها من أعظم البدع. . . والخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة، لو كانت فضلا لسبق إليها أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأتباعهم فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر"، وعلق شيخ الإسلام على كلامه بقوله: "ما ذكر أبو يوسف في أمر الجدال هو يشبه كلام كثير من
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 390).
(2)
شرح السنة (24).
أئمة السنة يشبه كلام الإمام أحمد وغيره"
(1)
، ومن هنا "جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين، وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه: كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال
(2)
وغيرهما، وكمتشابهات القرآن"
(3)
، بل يؤمن بكل ما في القرآن والسنة فهم معناه أم لم يفهم، وقد بين الشاطبي رحمه الله علاقة الخصومة بأهل البدع فقال:"لما كان اتباع الهوى أصل الابتداع، لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة"
(4)
.
فحال أهل الجدل والخصومات شك في المعتقد، يتبعه تنقل وكثرة التلون، ثم ينتج عن ذلك تشاحن وتباغض وتنافر، قال شيخ الإسلام:"أهل الكلام أكثر الناس انتقالا من قول إلى قول، وجزما بالقول في موضع وجزما بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين. . . أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة"
(5)
، ثم بين رحمه الله علاقة هذه
(1)
مجموع الفتاوى (16/ 375 - 376) بتصرف.
(2)
الصواب أن معاني الصفات ليست من المتشابه، ولعله يريد الكلام في الكيفيات التي خاض فيها أهل البدع.
(3)
الاعتصام (245).
(4)
المصدر السابق.
(5)
المجموع (4/ 50).
الصفات طردا وعكسا بقرب الفرق من الكتاب والسنة واتباع السلف، فقال:"المتفلسف أعظم اضطرابا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف، ولهذا تجد مثل أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل ابن سينا وأمثاله، وأيضا تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقا واختلافا مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به، قام عليه البرهان، وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلافا وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب، فالمعتزلة أكثر اتفاقا وائتلافا من المتفلسفة. . . وأهل الإثبات من المتكلمين مثل الكلابية والكرامية والأشعرية، أكثر اتفاقا وائتلافا من المعتزلة؛ فإن في المعتزلة من الاختلافات وتكفير بعضهم بعضا، حتى ليكفر التلميذ أستاذه، من جنس ما بين الخوارج. . . ولست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث، وما يتبع ذلك ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك، وقدم غيره عليه. . . ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء كانوا أعظم اختلافا، والخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا أيضا أبعد عن السنة والحديث، كانوا أعظم افتراقا في هذه، لا سيما الرافضة فإنه يقال إنهم أعظم الطوائف اختلافا، وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم"
(1)
.
(1)
المصدر السابق (51 - 52) بتصرف، وانظر طريق الهجرتين (595 فما بعدها).