الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لما أرجو من رحمة اللَّه تعالى أحب إليّ من ذلك، فقال هرم بن حيان: لكني واللَّه وددت أني شجرة من هذه الشجر، أكلتني هذه الناقة فقذفتني بعرا فاتخذت جلّةً، ولم أكابد الحساب يوم القيامة: إما إلى جنة وإما إلى نار، ويحك يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى، قال الحسن: كان واللَّه أفقههما وأعلمهما باللَّه عز وجل"
(1)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة بيان عدة مسائل متعلقة بالخوف من اللَّه عز وجل، من تعريفه، وعلاقته بالعلمل، واستحضاره عند الموت، وتمني الخائف للموت.
فأما تعريفه فقد ورد في أثر أبي سعيد البصري أن بعض العلماء عرفه بأن: من خاف اتقى، وأنه التعظيم للرب والحياء منه، وفي أثر شقيق إفراد اللَّه بالخوف، والحياء منه أن يصرف لغيره، ولا شك أن الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلِّها، فيجب إخلاصه للَّه، ولا يجوز تعلقه بغير اللَّه أصلا، فلا أحد يُخاف في إيصال مكروه، من موت أو قتل أو فقر أو
(1)
إسناده لين، هشام بن حسان متكلم في روايته عن الحسن كما سبق (290)، لكن الأثر حسن رواه أحمد عن جرير بن حازم عن حميد بن هلال، المتمنين (36 - 37) رقم (37)، وابن المبارك في الزهد رقم (237)، وأحمد في الزهد (80)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 119 - 120)، وابن الجوزي في المنتظم (5/ 219)، وذكره الذهبي في السير مختصرا (4/ 49)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 214).
مرض ونحو ذلك إلا اللَّه، وهذا الخوف لا يكون العبد مسلما حتى يخلصه للَّه ويفرده بذلك دون من سواه
(1)
، ولذلك "الخوف والرجاء وما أشبه ذلك؛ فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئا سواه. . . وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف، كما ذكرنا في المحبة، وكذا الرجاء وغيره، فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عصمة اللَّه تعالى"
(2)
.
وإذا صرف الخوف للَّه وحده أورث ترك المخالفات، كما سبق أن من خاف اتقى قال ابن القيم:"الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم اللَّه عز وجل؛ فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط"
(3)
.
أما كونه تعظيما وحياءًا من اللَّه فالذي يظهر لي أن ذلك ليس مطلق الخوف، وإنما نوع خاص منه وهو الهَيْبَة، وهي: خوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة، والإجلال تعظيم مقرون بالحب"
(4)
.
وأما الخوف والعمل، فبينهما علاقة وطيدة كما سبق في الرجاء
(1)
تيسير العزيز الحميد (485 - 487) بتصرف.
(2)
مجموع الفتاوى (1/ 94).
(3)
مدارج السالكين (1/ 551).
(4)
انظر مدارج السالكين (1/ 550).
والتوكل، ولذلك اشتملت الآثار السابقة على بيان أن الخوف داع للعمل وحاثٌّ عليه، فمن خاف ترك سوف وعسى، ومن يخف يدلج، وترك بعضهم الذنوب أربعين سنة خوفا من اللَّه، حتى أدركه الورع، بل إن كلام الحسن يعتبر قاعدة عامة في هذا الموضوع حيث قال:"المؤمن أحسن الناس عملا، وأشد خوفا"، وقد لخص ابن القيم رحمه الله حال السلف مع الخوف والعمل الصالح فقال:"اللَّه سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن، ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بل التقصير بل التفريط والأمن؛ فهذا الصديق يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن. . . . " ثم قال: "وهذا باب يطول تتبعه"
(1)
.
وأما الخوف عند الموت: فقد اشتملت الآثار أن بعض السلف غلب جانب الخوف على جانب الرجاء حال الموت، وعلّلوا ذلك بعدة تعليلات: إما بعدم الجزم بما سيبشرون به، أو استحضار خوف جهنم وعدم الصبر على نارها، أو الخوف أن يبدو له ما لم يكن يحتسب، أو ضغطة القبر، أو استحضار بعض التقصير والتفريط حال الحياة والصحة، أو الخوف من عدم قبول الأعمال الصالحة، أو الخوف من أهوال القيامة، وليس في هذه الآثار أن الخوف هو الأفضل حال الاحتضار وقرب الموت،
(1)
الجواب الكافي (25).
ولكن يؤخذ منها واللَّه أعلم أن ذلك بسبب التضرع والانكسار بين يدي اللَّه، والاعتراف بالتقصير المستلزم لطلب رجاء المغفرة والقبول والأمن، لأن الخوف مستلزم للرجاء والعكس، ولذلك كان خوف المقربين أعظم من خوف عامة المؤمنين واللَّه أعلم
(1)
.
وأما الخوف وتمني الموت: فقد وردت عدة آثار تمني فيها بعض السلف الموت أو أنه لم يخلق لشدة الخوف، فهي تدل على تمكن منزلة الخوف وقيامها بقلوبهم، وذلك أنهم كانوا أعرف الناس بربهم، وأعلمهم بصفاته وأسمائه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وأعرفهم بضعف نفوسهم، وعدم توفيتها لحق مليكها وخالقها، فتمنّوا ما تمنوا خوفا من ذلك؛ لأنه كلما كان العبد باللَّه أعرف كان له أخوف، وكلما ازداد معرفة ازداد حياء وخوفا وحُبا، وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهو بهم أليق، ولهم ألزم، ومن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزاءها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم توثقه بإتيانه بالتوبة النصوح هاج في قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو
(2)
.
(1)
انظر طريق الهجرتين (287 - 289).
(2)
انظر طريق الهجرتين (284 - 285) بتصرف.