الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة تورع السلف عن فعل أشياء، فالدستوائي والربيع ومالك بن دينار جميعيم تركوا أفعالا لا يوجد نهي صريح خاص عنها، كبناء القبر في البيت، أو تقييد الميت بقيود كهيئة العبد الآبق، أو السكن في الجبانة
(1)
، ولم يمنعهم من ذلك إلا أنهم لا يعرفونه عمن سبقهم، وهذا المسلك من أهم المسالك التي يجب العناية بتحقيقها؛ فإنه يمنع المسلم من الوقوع في البدع المنهي عنها، ومن مخالفة الشرع من حيث لا يشعر، وقد اشتهر عن الإمام أحمد رحمه الله قوله:"إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"
(2)
، وقال البربهاري رحمه الله: "انظر رحمك اللَّه كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر، هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحد من العلماء؛ فإن أصبت فيه أثرا عنهم فتمسك به، ولا تجاوزه لشيء،
(1)
وانظر الاعتصام (399)، حيث قال:"ثبت في الأصول أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد. . . فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه، صح دخوله في العاديات كالعباديات، وإلا فلا"، قلت: ولعل هذا ملحظ أصحاب هذه الآثار في تركهم ما تركوا، حيث كانوا سيفعلونه على وجه التعبد، ولم يجدوا من تعبد اللَّه بتلك الأساليب فتورعوا عنها واللَّه أعلم.
(2)
مجموع الفتاوى (21/ 291)(32/ 297)، إعلام الموقعين (1/ 32)(4/ 222، 266)، صفة الفتوى لابن حمدان (30، 105)، المدخل لابن بدران (119).
ولا تختر عليه شيئا فتسقط في النار"
(1)
، واعتنى الشاطبي رحمه الله ببيان أهمية عمل السلف الصالح وفهمهم للدين، فقال:"فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، ثم بيّن بعض التفريعات العقدية على هذا التأصيل فقال: "ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على عليٍّ أنه الخليفة بعده، لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره؛ لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما تجد أهل البدع يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم، ويغبّرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء. . . وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه، مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين، وحاش للَّه من ذلك .. فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل"
(2)
.
وقد طبق علماء السلف هذه القاعدة الهامة في بعض المسائل المتعلقة
(1)
شرح السنة (23).
(2)
ثم ذكر عدة أمثلة لاستدلالات أهل البدع بل والفساق بل حتى أهل الملل بظواهر من القرآن لتصحيح مذاهبهم، الموافقات (3/ 53 - 57) بتصرف، ولا يعني هذا أن الفتوى فيما لم يقع محرمة وإنما تحتاج إلى تأنٍّ وتثبت كبير، وفيها تفصيل فقهي وأصولي انظره في إعلام الموقعين (4/ 222)، وصفة الفتوى لابن حمدان (30، 105).
بالعقيدة، فعن إبراهيم الحربي:"وكان وعدنا أن يملي علينا مسألة في الاسم والمسمى، وكان يجتمع في مجلسه ثلاثون ألف محبرة، وكان إبراهيم مقلا، وكانت له غرفة يصعد فيشرف منها على الناس فيها كوة إلى الشارع، فلما اجتمع الناس أشرف عليها فقال لهم: قد كنت وعدتكم أن أملي عليكم في الاسم والمسمى، ثم نظرت فإذا لم يتقدمني في الكلام فيها إمام يقتدى به، فرأيت الكلام فيه بدعة، فقام الناس وانصرفوا، فلما كان يوم الجمعة أتاه رجل، وكان إبراهيم لا يقعد إلا وحده، فسأله عن هذه المسألة فقال ألم تحضر مجلسنا بالأمس؟ قال بلى، فقال: أتعرف العلم كله؟ قال: لا، قال: فاجعل هذا مما لم تعرف"
(1)
، وكان الإمام أحمد رحمه الله في المحنة كثيرا يجيب بقوله:"كيف أقول ما لم يقل"
(2)
، ولهذا أنكر الإمام أحمد على أحمد بن علي قوله: إن اللَّه جبر العباد، ردا على القدري الذي نفى الجبر، ووضع كتابا في ذلك ومراده إثبات القدر، وعلل ذلك بأنه كلما ابتدع رجل بدعة اتسعوا في جوابها، وأنكر على من رد بشيء من جنس الكلام؛ إذا لم يكن لم فيها إمام مقدم
(3)
، قال شيخ الإسلام:"لا يمكن العالم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلا، مع علمه بأن الناس قد قالوا خلافه"
(4)
.
وأخيرا فإن إبراهيم النخعي كما في الأثر الأخير بين أنهم كانوا
(1)
سير أعلام النبلاء (13/ 361)، وانظر تعليق شيخ الإسلام على ذلك في المجموع (6/ 186 - 187).
(2)
الفتاوى الكبرى (352 - 353).
(3)
انظر مجموع الفتاوى (3/ 326).
(4)
المجموع (20/ 247)، وانظر (5/ 265) و (5/ 577) عند كلامه على نسبة الحركة إلى اللَّه.
يكرهون الكلام في القرآن، وقد أوردت هذا الأثر هنا لزيادة توضيح وهي أن هذا الأصل لا يعني أن أهل السنة يسكتون عن بيان باطل أهل البدع، إذا ظهرت وفشت، وهذا ما وقع للإمام عثمان بن سعيد الدارمي لما استدل له المخالف بهذا الأثر فقال:"فأما قولك: إن السلف كانوا يكرهون الخوض في القرآن، فقد صدقت وأنت المخالف لهم؛ لما أنك قد أكثرت فيه الخوض وجمعت على نفسك كثيرا من النقض، فمثلك فيما ادعيت من كراهية الخوض فيه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، للخوارج حين قالوا: لا حكم إلا للَّه، فقال: كلمة حق يبتغى بها باطل، فقد خضت فيها أيها المعارض بأقبح خوض وضربت له أمثال السوء وصرحت بأنه مفعول، كما قال إمامك المريسي: مجعول، وكل مجعول عندك مخلوق لا شك فيه، ويحك إنما كره السلف الخوض فيه مخافة أن يتأول أهل البدع والضلال وأغمار الجهال ما تأولت فيه أنت وإمامك المريسي، فحين تأولتم فيه خلاف ما أراد اللَّه وعطلتم صفات اللَّه وجب على كل مسلم عنده بيان أن ينقض عليكم دعواكم فيه، ولم يكره السلف الخوض في القرآن جهالة بأن كلام الخالق غير مخلوق، ولا جهالة أنه صفة من صفاته"
(1)
.
(1)
نقض الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي (525)، وانظر بقية كلامه فإنه هام جدا في بيان أن الرد على أهل البدع من الأمور المتعينة إذا ظهرت بدعتهم وراجت حتى لا يلتبس الدين على العامة، وانظر مقدمة د/ محمد خليفة التميمي في تحقيقه كتاب العرش للذهبي (1/ 199 - 222) الفصل الثالث، فقد تناول بعض=
ومن ذلك كلام الإمام أحمد في مسألة اللفظ وبيان الحق فيها كما نقل الطبري في صريح السنة: "وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن، فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا تابعي قضى، إلا عمن في قوله الغِنَاءُ والشِّفَاءُ، رحمة اللَّه عليه ورضوانه، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم قوله لدينا مقام قول الأئمة الأولى، أبي عبد اللَّه أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه. . . ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله؛ إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمنع، وهو الإمام المتبع رحمة اللَّه عليه ورضوانه"
(1)
.
قال الإمام مالك رحمه الله: "والتسليم للسنن لا تعارض برأي ولا تدافع بقياس، وما تأوله السلف الصالح تأولناه، وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم في ما استنبطوه ورأوه في الحوادث، ولا نخرج عن جماعتهم فيما اختلفوا فيه أو في تأويله"
(2)
.
= الألفاظ يختلف موقف السلف منها نفيا وإثباتا وبيان وجه ذلك، كلفظ الجهة والحيز والمماسة ونحوها.
(1)
(26 - 27).
(2)
منهج الإمام مالك في العقيدة (92).