الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد أصاب السمت، أتدرون ما الاقتصاد؟ هو الشيء الذي ليس فيه غلو ولا تقصير"
(1)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة حرص علماء الأمة على بيان طريق السلف وهديهم، وأن سلوكه هو الذي ينجي صاحبه، والعمل مهما كانت نية صاحبه حسنة، يجب أن يكون على وفق هدي السلف ومنهجهم، فمتى كان مخالفا لذلك فهو مبتدَع مرفوض، فالوليد وعباد الخواص وابن غالب جميعهم أنكروا الهيئة المنكرة التي رأوا بعض العُبَّاد عليها، لما فيها من مخالفة منهج المسلمين واتباع غير سبيلهم، ولذلك كان أثر سفيان رحمه الله معيارا في معرفة الزهد، وأنه ليس بأكل الغليظ، ولبس العباءة، وما حكاه عن السلف أنهم كانوا يكرهون الشهرتين، كل ذلك يؤكد أهمية اتباع سبيل السلف كي لا يقع المرء في البدعة، ويكون فعله وقوله ونياته جميعا على السنة؛ فإنه كما قال الإمام مالك رحمه الله:"ما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا"
(2)
.
وفي قول سفيان بن حسين فائدة مهمة، وهي: أن ما كان مشروعا، فليس الاهتمام به وحده وإهمال باقي أحكام الدين من طريقة السلف، بل
(1)
إسناده لين، عمر بن علي هو المقدمي ثقة وكان يدلس شديدا التقريب (4986)، إصلاح المال (302) رقم (324)، وابن عبد البر في التمهيد (21/ 68) من طريق المفضل به.
(2)
الاحكام لابن حزم (6/ 225)، ومنهج الإمام مالك في إثبات العقيدة (99) ونسبه للشاطبي فقط، وهو فيه غير مسند وعند ابن حزم مسندا.
طريقة السلف هي الوسط بين الغلو والتقصير، وذلك في كل أمور الدين، وهذا مقتضى العبودية للَّه وهو طاعته اللَّه في كل ما شرع أمرا ونهيا، ولهذا كان من سمات أهل السنة أنهم جردوا المتابعة فلا يخصون عملا دون آخر بشيء لم يأت في الكتاب والسنة؛ فإن ذلك من آفة العبودية وهو عبودية مقيدة، قال ابن القيم رحمه الله:"أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها، فمن الناس من يتقيد بلباس لا يلبس غيره، أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره، أو مشية لا يمشي غيرها، أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما، أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها، وإن كانت أعلى منها، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره وإن كان أقرب إلى اللَّه ورسوله منه، فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الأعلى، مصدودون عنه قد قيّدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة، فأضحوا عنها بمعزل، ومنزلتهم منها أبعد منزل، فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة، وتفريغ القلب، ويعد العلم قاطعا له عن الطريق، فإذا ذكر له الموالاة في اللَّه والمعاداة فيه، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، عَدَّ ذلك فضولا وشرا، وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم، وعدوه غيرًا عليهم، فهؤلاء أبعد الناس عن اللَّه وإن كانوا أكتر إشارة واللَّه أعلم"
(1)
.
ومن هنا كان سبيل المؤمنين، وهديهم العام في أصول الدين وفروعه، من أهم ما يجب تحصيله، للتلازم بينه وبين اتباع الكتاب والسنة،
(1)
مدارج السالكين (3/ 176)، وانظر قبلها (3/ 174).
قال شيخ الإسلام: "طاعة اللَّه والرسول فإنهما متلازمان؛ فمن يطع الرسول فقد أطاع اللَّه، ومن أطاع اللَّه فقد أطاع الرسول، وكذلك قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}
(1)
؛ فإنهما متلازمان: فكل من شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وكل من اتبع غير سبيل المؤمنين، فقد شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطئ فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطئ"
(2)
.
وقد بين ابن القيم رحمه الله أن أصل البدع في الدين ينشأ من أحد أمرين، إما جهل بتفاصيل سبيل المؤمنين، أو جهل بتفاصيل سبيل المجرمين، ومن هنا كان الصحابة أكمل الناس دينا وعلما، لأنهم عرفوا السبيلين معرفة تفصيلية، وبضدها تتبين الأشياء، ومن لم يعرف تفاصيل السبيلين يوشك أن يخلط بينهما
(3)
.
وهذه الآثار اشتملت على أمرين مهمين الأول: هو إنكار هذه الأفعال المبتدعة، والثاني: بيان أنها ليست من سبيل المؤمنين.
ولأهمية بيان سبيل المؤمنين، وسبيل أهل البدع، ذكره جماعة من علماء السلف في جملة معتقداتهم، كما علق الشيخ صالح الفوزان في شرحه للعقيدة
(1)
سورة النساء، الآية (115).
(2)
المجموع (7/ 38).
(3)
الفوائد (108)، ثم ذكر أقسام الناس في ذلك.
الواسطية بقوله: "لما ذكر الشيخ طريقة أهل السنة في مسائل العقيدة، ذكر في هذا الفصل والذي بعده
(1)
، طريقتهم في عموم الدين أصوله وفروعه، وأوصافهم التي تميزوا بها عن أهل البدع"
(2)
، ثم علق على ما ذكره شيخ الإسلام من أوصافهم وأخلاقهم فقال:"هذا الفصل كالمتمم للفصل الذي قبله فيه بيان لصفات أهل السنة التي هي من مكملات العقيدة"
(3)
.
بل الأمر تعدى إلى أبعد من هذا حيث أوردوا كثيرا من الفروع في معتقداتهم لأنها صارت شعارا لبعض أهل البدع، فعلا أو تركا، وذلك حرصا منهم أن لا يلتبس طريق الحق بغيره، قال شيخ الإسلام:"يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري، أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين، وترك الجهر بالبسملة، كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك لأن هذا من شعار الرافضة"
(4)
.
بل وجد في بعض كتب المعتقد مسائل اشتهر القول الراجح فيها وصار قول المخالف ظاهر الضعف كتحريم المسكر من غير العنب ونحو ذلك واللَّه أعلم
(5)
.
(1)
وهما آخر فصلين في العقيدة الواسطية.
(2)
شرح العقيدة الواسطية (210).
(3)
المصدر السابق (215)، وانظر شرح خليل هراس (179 - 182).
(4)
المجموع (22/ 423)، وانظر فروعا أخرى ذكرها في المنهاج (4/ 151) كما أنه رحمه الله بين أن ذلك ليس حجة في ترك السنة مطلقا وذكر من وافق بعض أهل البدع في قولهم في مسائل الفروع لأن السنة وردت بذلك، ولم يمنعه قولهم به أن يخالف السنة.
(5)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث (297)، انظر المجموع (34/ 187).
ولا تكلم الإمام أبو سعيد الدارمي رحمه الله عن هدي السلف وآثارهم، وبيّن أنها المرجع في فهم الدين، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة، ومراد اللَّه ورسوله، واضطراب الآراء والمعقول في ذلك، قال:"فالمعقول عندنا ما وافق هديهم، والمجهول عندنا ما خالفهم، ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقتهم إلا هذه الآثار، وقد انسلختم منها، وانتفيتم منها بزعمكم، فأنى تهتدون؟ "
(1)
.
ومن هنا كان أفضل هذه الأمة هم الصحابة، وأفضلها بعدهم من سار على هديهم واتبع منهجهم، من أئمة الهدى وعلماء السنة، كما قال شيخ الإسلام:"كل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين، معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة، وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم. . . ولا تجد إماما في العلم والدين كمالك والأوزاعي. . . وأمثالهم إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب، والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية، وهم أهل الحديث والسنة العالمون بطريقهم المتبعون لها، وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر، فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين"
(2)
.
(1)
الرد على الجهمية (127).
(2)
شرح العقيدة الأصفهانية (164).