الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - باب الخيار
الخيار اسم مصدر اختار وليس مصدراً؛ لأن المصدر اختيار، وأما خيار فهو اسم مصدر، واسم المصدر عندهم: هو ما دل على معنى المصدر واشتمل على حروفه الأصلية دون الزائد، الخيار اسم مصدر اختار واختار بمعنى: أخذ بخير الأمرين، فنقول مثلاً: اخترت كذا دون كذا؛ أي أخذت بما أراه خيراً، والخيار أقسام منها:
خيار المجلس
، وإليه الإشارة في قوله:
خيار المجلس:
792 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا تبايع الرجلان، فكل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع» . متفق عليه، واللفظ لمسلمٍ.
قال: «إذا تبايع الرجلان» أي: عقدا صفقة بينهما، والرجلان هنا وصف أغلبي فلا يكون له مفهوم، بل يشمل الحكم حتى المرأتين، وقوله صلى الله عليه وسلم:«فكل واحد منهما» أي: من البائع والمشتري، "بالخيار" بين الإمضاء وارد، "ما لم يتفرقا" أي: من مكان العقد، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم، وليس عن عقد البيع؛ فإن بعض العلماء يقول:"ما لم يتفرقا" عن عقد البيع؛ يعني: ما لم يحصل الإيجاب والقبول، فإن حصل الإيجاب والقبول فلا خيار، وهذا التفسير بعيد لفظاً وبعيد معنى؛ لأنه لا يقال فيمن عقد عقداً فأوجب أحدهما وقبل الآخر لا يقال: تفرقا، وأيضاً لا يصدق عليهما أنهما تبايعا حتى يتم الإيجاب والقبول فلا تبايع إلا بإيجاب وقبول، وعلى هذا يكون المراد: ما لم يتفرقا بأبدانهما، ويؤيد ذلك قوله:"وكانا جميعاً"، فإن هذه الجملة كالتفسير للجملة التي قبلها، والتفرق قلنا: إنه عن مكان العقد، فإذا قاما عن مكان العقد جميعاً فهل نقول: تفرقا، يعني: هما فارقا مجلس العقد، ولكنهما لم يتفرقا، إذا كانا في الطائرة مثلاً وتعاقدا في الطائرة وزمن الطيران عشر ساعات يكونان بالخيار لمدة عشر ساعات؟ نعم، كما لو كانا جالسين في هذا المكان لمدة عشر ساعات.
وهل يحصل التفرق بالنوم، كما تبايعا وهما يفرشان فراشهما وقبلا وتم البيع وناما ولما استيقظا قال أحدهما: رجعت، هل يملك ذلك؟ هل تفرقا؟ لا لم يتفرقا، لكن مثل هذا ينبغي أن يقال: إذا خيف الإشكال فلتكن على الحال الأخرى.
قال: "يخير احدهما الآخر"، ومعنى يخير أحدهما الآخر: يقول الخيار لك وحدك بأن يتنازل عن حقه، فإذا تنازل احدهما عن الآخر صار الذي تنازلا لا حق له في الخيار، والثاني له الخيار، وإذا تنازل كل منهما عن الخيار فلا خيار لواحد منهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط الخيار عمن تنازل عنه فالخيار عمن تنازل عنه من الطرف الثاني أيضاً جائز، وعلى هذا إذا تبايعا على أن لا خيار لأحدهما، أو تبايعا ثم أسقط أحدهما خياره، فهذا جائز كما يدل عليه الحديث، قال:"أو يخير أحدهما الآخر" يعني: يقول: الخيار لك وحدك.
قال: "فإن خير أحدهما الآخر فتبايع على ذلك فقد وجب البيع" أي: لزم على حسب ما اشترطاه، فإن خير كل واحد منهما الآخر فلا خيار، وإن البائع المشتري فالخيار للمشتري وحده، وإن خير المشتري البائع فالخيار للبائع وحده.
"وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع""وجب" أي: لزم وثبت فصار وجوب البيع في صورتين:
الأولى: إذا خير أحدهما الآخر لزم في حق المخير، وإن خير كل واحد منهما الآخر لزم في حقهما جميعاً.
الصورة الثانية التي يجب فيها البيع: إذا تفرقا، والتفرق ليس له حد شرعي فيرجع في ذلك إلى العرف.
من فوائد الحديث: أولاً: ثبوت الخيار للمتبايعين ما داما لم يتفرقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا".
والثاني من فوائده أيضاً: مراعاة الشرع لأحوال الناس؛ لأن هذا الخيار الذي جعل للمتبايعين إنما جعل رفقاً بهما، فإن الإنسان إذا لم تكن السلعة عنده فهي غالية في نفسه، تجده حريصاً على أن يملكها فإذا ملكها فربما ترخص في نفسه ويختار ألا يتملكها وهذا شيء معلوم، ولهذا يقال: أجب شيء إلى الإنسان ما منع، فهي لما كانت في ملك غيره يجد نفسه متعلقة بها، فإذا ملكها هانت عنده، فجعل الشارع له الخيار ولكنه لم يجعله خياراً مطلقاً؛ لأنه لو جعله خياراً مطلقاً لزم يكون العقد اللازم عقداً جائزاً، وإن جعله- أي: الخيار- إلى مدة غير معلومة بل هي منوطة بما يتشهى كل واحد صار الخيار مجهولاً، فلهذا جعله الشارع لمدة معينة تجعل للإنسان حرية بعض الشيء، ولا تذهب لزوم العقد، ولا توقع العقد في جهالة، فالمسألة إما أن يقال: لا خيار مطلقاً، أو بثبوت الخيار مطلقاً، أو بثبوته ما داما راضيين به، أو بثبوته ما داما في المجلس، فإذا قلنا: لا خيار لزم من ذلك التضييق على الناس وألا يعطوا فسحة يتروى فيها الإنسان، وإذا جعلنا الخيار مطلقاً لزم أن يكون العقد اللازم جائزاً، وإن قلنا: لهما الخيار
إلى أن يرضيا صار الأجل مجهولاً، وإن جعلنا الخيار إلى مدة التفرق أعطيناهما بعض الحرية بدون جهالة وبدون ضرر.
ومن فوائد الحديث: جواز قطع هذا الخيار منهما أو من أحدهما لقوله: "أو يخير أحدهما الآخر"، أما من أحدهما فواضح لقوله "أو يخبر أحدهما الآخر"، وأما منهما، فلأنه إذا جاز في حق أحدهما جاز في حق الآخر؛ لأن الحق لهما، فإذا أسقطاه وتبايعا على أن لا خيار بينهما بأن قال: بعتك هذا البيت بمائة ألف درهم على أن لا خيار لواحد منا، هذا بيع على أن لا خيار، أو يقول: بعتك بيتي بمائة ألف درهم ثم في أثناء المجلس قالا: لنتفق على قطع الخيار، فإذا اتفقا انقطع الخيار، وإن أيي أحدهما وقطعة الآخر فالحق له القول:"أو يخير أحدهما الآخر".
ومن فوائد الحديث: جواز مد الخيار إلى ما بعد التفرق، يؤخذ من الاحتمال الثاني في قوله:"أو يخير أحدهما الآخر"؛ لأنه صالح للأمرين:
فإن قلت: كيف صالحاً لأمرين متضادين: الأول في قطع الخيار، والثاني في مدة؟
قلنا: لأن النصوص العامة تدل على جواز الشروط بين المتعاقدين ما لم تخالف الشرع، وهنا لا مخالفة للشرع.
ومن فوائد الحديث: أن الحق الخاص لآدمي يجوز له إسقاطه لقوله: "أو يخير أحدهما الآخر"، فإن كان الحق حقاً محضاً للآدمي فله أن يسقطه؛ لأنه لا أحد يطالبه في إثباته.
ومن فوائد الحديث: أن البيع من العقود اللازمة لقوله: "فقد وجب البيع"، وكونه من العقود اللازمة هو الموافق لمصالح العباد؛ لأنه لو كان البيع من العقود الجائزة ما تمكن أحد أن يتصرف فيما انتقل إليه من العوض على وجه تطمئن إليه نفسه؛ لأنه يخشى في كل لحظة أن يقول الآخر: قد فسخت البيع، فلهذا كان من المصلحة لعباد الله أن يكون عقد البيع من العقود اللازمة لكل من الطرفين.
ومن فوائد الحديث: جواز إسقاط الإنسان ما هو حق له وإن لم يرض الآخر لقوله: "ولم يترك واحد منهما البيع"، فإذا قال البائع مثلاً للمشتري لما قال اخترت فسخ العقد قال: لا يمكن؛ لأن هذا يضر بالسلعة ويهدم مستقبلها، فجوابه أن يقول له: هذا حق جعله الشارع لي ولا يمكن أن تمنعني إياه، ولكن يجب أن نعلم أنه متى قصد المختار إضرار صاحبه كان ذلك حراماً عليه، وإن كنا نحكم له بظاهر الحال، لكنه حرام عليه لو أنه سامها ثم سامها حتى انتهى السوم إليه ثم باعه عليه، وكان من نيته أن يفسخ البيع من أجل أن ينزل قيمة السلعة في نفوس الناس فإن ذلك حرام عليه، لأنه إضرار بأخيه، لكن إذا كان فسخ البيع عن رغبة لا عن قصد الإضرار فإن هذا حق له، واعلم أن الناس اختلفوا في هذا الحديث اختلافاً عظيماً، والحقيقة أنه
اختلاف لا طائل تحته، وأن من تأمل الحديث وما يتضمنه من المعاني الجليلة وجد أنه لا يخالف القاعدة، ولا يخالف القياس، وأنه مقتضى القياس والنظر الصحيح وأن المراد بالتفرق هو التفرق بالبدن، وليس هو التفرق بالقول، وأن دعوي أنه تفرق بالقول وأن البيع يلزم بمجرد الإيجاب والقبول قول ضعيف جداً، وابن عمر رضي الله عنهما راوي الحديث كان إذا باع عليه أحد شيئاً قام من المجلس وفارق المجلس لئلا يستقبل أو لئلا يفسخ البائع، وهذا يدل على أن المراد بالافتراق هو افتراق الأبدان، ولا حاجة إلى التكلف الذي ذهب إليه من زعم أنه ليس في البيع خيار المجلس.
793 -
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله» .
رواه الخمسة إلا ابن ماجة، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن الجارود.
- وفي رواية: "حتى يتفرقا من مكانهما".
هذا كالحديث الأول فيه أن البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، وهو مثل قول:"إذا تبايع الرجلان" إلا أن هذا قال: البائع والمبتاع، ففصل أحدهما عن الآخر، فالبائع هو جالب السلعة والمبتاع مشتريها، يقول:"بالخيار" يعني: كل واحد منهما له الخيار يختار ما يراه أنفع وأصلح لنفسه من أي شيء؟
"يتفرقا من مكانهما" وهذا نص صريح بأن المراد بذلك تفرق أبدان قال: "إلا أن تكون صفقة خيار"، الصفقة: هي عقد البيع، وسميت صفقة؛ لأن كل واحد منهما يصفق بيده على الآخر عند العقد، وهذا في زمن مضى، أما الآن فلا تحصل الصفقة.
وعلى كل حال: المعنى إلا أن تكون البيعة بيعة خيار، وبيعة الخيار نقول فيها ما قلنا في قوله في الحديث السابق:"أو يخير أحدهما الآخر"، فتشمل ما إذا كانت صفقة خيار؛ أي: صفقة إسقاط خيار، فإذا كانت صفقة إسقاط خيار وسقط خيار المجلس بمجرد العقد، ويحتمل أن يكون المراد: صفقة خيار؛ أي: صفقة شرط فيها الخيار إلى مدة معينة بعد التفرق، وعلى هذا فيكون في ذلك إثبات خيار الشرط.
قال: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"، يشمل البائع والمشتري، وقوله:"أن يستقيله" أي: أن يفسخ العقد، فالاستقالة هنا بمعنى: فسخ العقد، وذلك لأنه لو كان المراد بها: الاستقالة
التي هي فسخ العقد برضا الطرفين لم تقيد بالمفارقة؛ لأن الإقالة تجوز بعد مفارقة المجلس وقبل مفارقته، لكن المراد بالاستقالة هنا: فسخ العقد، وقوله:"ولا يحل له" أي: للمبتاع والمشتري أن يفارقه؛ أي: يفارق صاحبه خشية أن يستقبله وهو صريح في أن المراد: مفارقة البدن.
ففي هذا الحديث من الفوائد: ما سبق من ثبوت خيار المجلس، وأن هذا الخيار يجوز إسقاطه ويجوز مد الخيار إلى ما بعد التفرق.
وفيه أيضاً: أنه يحرم على الإنسان أن يفارق المجلس خوفاً من اختيار صاحبه فسخ العقد؛ لأن هذا تحيل إلى إسقاط حق أخيه بعد ثبوته، ولا يجوز التحيل على إسقاط حق الغير.
ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار النية في العمل، فإن المفارق لمجلس عقد البيع قد يكون فارق المجلس؛ لأنه انتهت حاجته، وقد يكون فارق المجلس من أجل ألا يفسخ صاحبه لئلا يمكن صاحبه من الفسخ، فعلى الأول تكون مفارقته جائزة، إنسان جاء لشخص واشترى منه وذهب، وعلى الثاني تكون المفارقة حراماً؛ لأن المقصود بها إسقاط حق أخيه الثابت في العقد.
فإن قال قائل: أليس هذا الحق له؟
فالجواب: بلى الحق له، لكن ليس له الحق في إسقاط حق أخيه بدون مصلحة له، وهذا موجود كثير في الشريعة أنه لا يحل للإنسان أن يمنع أخاه من شيء ينتفع به أخوه وهو لا يضره، كما جرى لعمر بن الخطاب مع محمد بن مسلمة حين منع جاره أن يجري الماء من أرض محمد فقال عمر:"لأجرينه ولو على بطنك"، وكما قال أبو هريرة في وضع الخشب على الجدار:"ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم"، فهذا الرجل لا يحل له أن يسقط حق أخيه الثابت له بدون مصلحته وهو ليس قصده إلا الإضرار.
فإذا قال قائل: أليس ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا عقد الصفقة قام وفارق المجلس خشية أن يستقيله صاحبه، فما الجواب؟
الجواب: أن هذا فعل ابن عمر، وفعل ابن عمر لا يحتج به على الحديث، ولكن يلتمس له العذر فلعله رضي الله عنه لم يبلغه هذا الحديث، وإلا فإننا نعلم أن ابن عمر رضي الله عنهما من أشد الناس تمسكاً بالسنة، ولو علم أنه لا يحل له أن يفارقه ما فارقه قطعاً، هذا هو ما نعلمه من حال ابن عمر رضي الله عنهما، فيحمل ما ورد من فعله على أنه لم يبلغه الخبر.