الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الصدقة عمن لم يوص:
9 (20) - وَعَنْ عَائشة رضي الله عنها: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ أُمِّي اقْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَنَا أَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ لَتَصَدَّقَتْ، أفَلَهَا لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
قالت: «أن رجلاً» يعمدُ كثير من المحدثين إلى معرفة المبهمات من هذه الأسماء، وهذا لا شك أنه علم، ولكنه ليس كبير علم إذا كان لا يتعلق بمعرفة الشخص فائدة شرعية، أو يختلف به الحكم، مثل أن يكون ابن عم في القضية أو خال فإن التعيين ليس بذات أهمية كبيرة؛ لأن المقصود معرفة الحكم من القصة يقطع النظر عن الرجل إلا إذا كان تعيينه يختلف به الحكم، فحينئذٍ لابد من البحث عنه حتى يُعرف اسمه بعينه.
«فقال: يا رسول الله إن أمي افتُلتت» يعني: أُخذت فلتة، ومعنى فلتة أي: بغتة، أي أنها لم تكن مريضة ولكنها ماتت فجأة.
«ولم تُوص» يعني: لم تعهد إلى أحد في التصدق بعدها، وكأن هذا معروف بينهم أن الميت يوصي؛ لأنه سبق أن الراجح من أقوال أهل العلم وجوب الوصية للأقارب.
قال: «وأظنها لو تكلمت تصدقت» وذلك بناء على ما عرفه من حال أمه أنها تُحب الصدقة، وأنها لو تكلمت تصدقت لكن أخذها الموت فجأة قبل أن تتكلم وأفلها أجر إن تصدقت» قال:«نعم» هذه الصيغة يأتي مثلها كثيرًا في القرآن، وهي أن يأتي حرف الاستفهام وبعده حرف عطف الفاء أو الواو أو ثم، وقد ذكرنا أن لعلماء النحو فيها قولين:
القول الأول: أن تكون الفاء مقدمة على الهمزة ولكن الهمزة قُدَّمَت لأن لها الصدارة.
والثاني: أن تكون الهمزة في مكانها والفاء في مكانها والمعطوف عليه محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق، وقد ذكرنا أن الوجه الأول غالبًا أسهل؛ لأنه يجعل هذه الجملة معطوفة عليل ما قبلها.
وقوله: «أفلها أجره» أي: ثواب عند الله «وإن تصدقت عنها» هذه «إن» شرطية، والشرط يحتاج إلى جواب، فأين الجواب؟ قال ابن القيم: إن مثل هذا التركيب لا يحتاج فيه الشرط إلى جواب استغناء بما سبق عنه، وقال بعضهم: إن هذا التركيب له جواب ويقدر بجنس ما قبله فمثلاً أفلها أجر إن تصدقت عنها فلها أجر ولا شك أن ما ذكره ابن القيم أقرب للصواب؛ لأن كل أحد يعرف أن مثل قول القائل: «أفلها أجر إن تصدقت عنها» لا يحتاج إلى جواب لأن الجواب
مفهوم، والشيء المفهوم المعلوم الذي يقتضيه السياق قطعًا لا حاجة إلى تقديره، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«نعم» وهي حرف جواب تفيد الإثبات أي إثبات ما سبق، أي: إثبات ما بعد الاستفهام إن كان نفيا فنفي وإن كان إثباتا فإثبات، فإذا قلت: أقام زيد؟ فقال المخاطب: نعم، فهذا إثبات القيام، وإذا قلت: ألم يقام زيد؟ فقال المخاطب: نعم، فهذا نفي القيام، يعني: أنه لم يقم والعامة يظنون أنك إذا قلت: ألم يقم زيد؟ فقال المخاطب: نعم، يعني: أنه قام وليس كذلك، بل إذا قال: نعم فهو تقرير لما بعد النفي؛ إن كان ما بعد النفي نفيًا فهذا نفي، وإن كان ما بعده إثباتًا فهذا إثبات، ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].
قال: لو قالوا: «نعم» لكفروا؛ لأنهم إذا قالوا «نعم» أثبتوا النفي: أي: لست بريتا وهذا كفر فلما قالوا: بلى صار هذا نفيًا للنفي، أي: إثباتًا لا نفيًا، ولهذا لو قلنا لعامي: ألم تطلق امرأتك؟ قال: نعم، نعم ماذا يقصد؟ أنه طلقها؛ ولهذا جاء بها بغلظة وكررها مما يدل على أنه قصد الطلاق، لكن لو قالها طالب علم قيل له: ألم تطلق امرأتك؟ قال: نعم، فلا تطلق لأن طالب العلم لما قال: نعم، يعني: لم يطلق لكن العامي قال: نعم، يعني: أنه طلق.
على كل حال: هذه القاعدة، لكن مع ذلك قال النحويون: إنها قد تأتي في محل بلى إذا دلت على ذلك القرينة، وأنشدوا عليه قول الشاعر:[الوافر]
(أليس الليل يجمع أم عمرو
…
وإيَّانا فذاك لنا تلداني)
(نعم وترى الهلال كما نراه
…
ويعلوها النهار كلما علاني (
الشاهد في قوله: «نعم في جواب أليس الليل يجمع أم عمرو إلى قوله نعم، قال «نعم» يعني: أن لها أجرًا. هذا الحديث ليس بغريب على الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أحكام الشريعة لكنهم كان من عادتهم أن يسألوه في الغالب قبل أن يقعوا في الأمر وهذا هو الأدب، وهو حقيقة الطلب أما بعد أن يفعل الإنسان الشيء ويقدم عليه يأتي فيسأل وربما لا يسأل إلا بعد سنين طويلة أحيانا يسأل الناس عن أشياء فعلوها منذ عشر سنوات أو أكثر ولكن قد يعذر الناس في الوقت الحاضر في تأخير السؤال لأن الناس من قبل ليس عندهم تفتح للعلم أما الآن -والحمد لله- فقد حصل تفتح كبير للعلم وصاروا يسمعون من هنا وهناك، وصاروا يسألون عن أشياء قديمة جدا.
?
في هذا الحديث من الفوائد: أولاً: حرص الصحابة على معرفة الأحكام الشرعية حيث يأتون يستفتون رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثانيًا: أنه ينبغي للعاقل الحازم أن يبادر بالأمر الذي يُوصي به خوفًا من أن يأتيه الموت بغتة قبل أن يوصي، ويدل لهذا أيضًا ما سبق من حديث ابن عمر «وما حق أمرى مسلم
…
» إلخ.
ومن فوائد الحديث: أن الوصية كانت معروفة عندهم، حيث قال:«إنها افتلتت نفسها ولم توص» ، فهذا يدل على أن الوصية كانت معروفة عندهم وأن من لم يوص فإن أمره يكون غريبًا.
ومن فوائد الحديث: العمل بالظن ولكن لابد أن يكون هناك قرائن فإن لم يكن قرائن فإن الظن أكذب الحديث، لكن إذا وُجِدَت قرائن فلا حرج أن يعمل الإنسان بظنه، إلا أن يترتب على ذلك محظور شرعي فإنه لا يُعمل بالظن ولو قويت القرينة، فلو أن شخصا رأى امرأة تدخل بيتًا فيه غير محارم لها والبيت محل تهمة فهل يجوز أن يشهد بأن هذه المرأة زنت مع أنه كان يغلب على ظنه؟ لا يجوز أن يشهد بذلك لأنه يترتب على هذا مفسدة عظيمة.
وفي القصة التي وقعت في عهد عمر رضي الله عنه أن أربعة شهدوا على رجل بالزنا فقال عمر: تشهدون بالزنا؟ قالوا: نعم، قال: تشهدون أن ذكره في فرجها؟ قالوا: نعم، فأمسكهم واحدًا واحدًا؛ لأنه استبعد أن يقع الزنا من المشهود عليه فأمسك بهم واحدًا واحدًا، أمسك بالأول وقال: تشهد بهذا؟ قال: «نعم» والثاني والثالث مثله وثبتوا عل شهادتهم: الرابع لما لم يبقَ إلا هو قال المشهود عليه: يا فلان! اتق الله لا تشهد بما شهد به أصحابك والله لو كنت بين أفخاذنا ما استطعت أن تشهد بما شهدوا به! فقال الرابع: مهلاً يا أمير المؤمنين! أنا رأيت استا تنبو وذكرًا ينزو، لكنني لا أشهد أن ذكره في فرجها فكبر عمر فرحًا قال: الله أكبر، وجلد الثلاثة الأول كل واحد ثمانين جلده وأبرأ الرابع لماذا؟ لأن هؤلاء الثلاثة قذفوه والرابع لم يقذف، فانظر الآن مع أن القرينة قوية لكن يترتب عليها هدم عرض المسلم وعرض المسلم ليس بهين، فبذلك رُفِعَ حدُّ القذف عن الرابع لأنه لم يصرح أما الثلاثة فإنهم صرحوا بالزنا، ولهذا قلت لكم: إن الأربعة شهدوا بالزنا، ولكن لما جاء بهم واحدًا واحدًا ثبت ثلاثة منهم على أنهم رأوا الذكر في فرجها، أما الرابع فلم يقل ذلك لكن رأى أمرًا عظيمًا، إذن العمل بالظن جائز إلا في المواضع التي يُشترط فيها اليقين، ويكون فيها ضرر؛ فإنه لا يُعمل بالظن.
من فوائد الحديث: انتفاع الأم بصدقة ابنها لقوله: «وأفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الأجر لأمه إذا تصدّق عنها، وفي هذا دليل على أن الجواب يُغني عن?
إعادة السؤال؛ لقوله: «نعم» ، ويتفرع على هذا مسائل كثيرة في الإقرارات والعقود، فمثلاً: لو قلت لشخص: أبعت بيتك على فلان؟ قال: نعم. فقال للثاني: أقبلت؟ قال: نعم. كل واحد لم ينطق بالبيع ولا بالشراء، فهل ينعقد البيع؟ نعم؛ لأن حرف الجواب يُغني عن إعادة السؤال.
ولو سئل الرجل أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، تُطلق. ولو قال الولي: زوجتك ابنتي. فقيل للزوج: أقبلت؟ قال: نعم، انعقد النكاح.
ولو سئل شخص: أقتلت فلانًا؟ قال: نعم، ثبت الإقرار وهكذا.
المهم أن هذه القاعدة مفيدة أن الجواب يُغني عن إعادة السؤال إن كان الجواب للإثبات
فهو للإثبات، وإن كان للنفي فهو للنفي، ولهذا لو قال: لا، كان التقدير لم أفعل.
فلو سئل شخص: أبعت بيتك على فلان؟ قال: لا، لم يثبت البيع، ولو قال: بعت بيتي على فلان، فقيل للثاني: أشتريت البيت؟ . قال: لا، لم يثبت شيء.
هذا الحديث فيه إشكال مع قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. فهذا القول يدل على أن سعي غيره لا ينفعه، فليس له إلا ما سعى فقط، فما هو الجواب؟
الجواب من وجهين:
الأول: أنه لا تعارض بين الكتاب والسُنة التي تصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكل حقٌ من عند الله فلا تعارض، وعليه فيقول: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] إن قُدر أنها معارضة للحديث، فالحديث مخصص، والتخصيص سائغ في الأدلة وكثير، وعلى هذا فتخص الآية بما إذا عمل الولد لأمه، والولد بُضعة من أبيه كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«إن فاطمة بضعة مني يريبها ما رابني» ، وإذا كان بضعة منه صار عمله كأنه عمل أبيه، ولهذا جاء في الحديث:«إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» وعلى هذا فتخصُّ الآية في هذا الحديث بما إذا عمل الإنسان لأمه، وكذلك إذا عمل لأبيه من باب أولى، فإن جزئية الابن للأب أقوى من جزئيته لأمه، ولهذا قال الله تعالى:{خُلِقَ مِن ماء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6، 7].
ومن المعلوم أن الماء الدافق هو ماء الأب، على هذا نقول: يُستثنى من عموم الآية ما إذا عمل الولد عملاً صالحًا لأبيه أو أمه، ولكن هل نطلق ونقول: إذا عمل عملاً صالحًا، أو نقول: ما إذا عمل عملاً صالحًا هو المال فقط؟ قال بعض العلماء كذلك، ضيق الخناق وقال: لا يخصص العموم إلا بالصورة الواقعة فقط، وهي ما إذا تصدق الإنسان عن أبيه وأمه، وأما لو قرأ القرآن أو صلى ركعتين أو صام يومًا أو يومين تطوعًا، فإن
ذلك لا ينفعه؛ لأن الله قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما الأعمال بالنيات» والميت لم ينو هذا العمل، فكيف يكون له بلا نية بل ربما يكون الميت يكره الأعمال التطوعية ربما يكون الميت ليس على دينه قويمًا، فكيف نلزمه بشيء يكرهه في حياته؟
على كل حال أقول: إن بعض العلماء ضيق هذا وقال: إن هذا خاص في الصدقة فقط، ولكن القول الثاني في هذه المسألة أن الأمر واسع، وأن الإنسان يجوز أن ينوي العمل الصالح لأبيه وأمه وأخيه وأخته وعمه وعمته وخاله وخالته وأي واحد من المسلمين، ويجيب عن الآية {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] أي: أنه لا يُحمل عليه سعي غيره بمعنى أنه لا يُعطى من سعي غيره، ولكن إذا أعطاه غيره من سعيه، فلا بأس لأن غيره إذا أعطاه من سعيه، فقد أعطاه باختياره، بخلاف ما إذا قلنا: أنت يا فلان ترتفع درجتك بعمل أخيك، أنت يا فلان ترتفع درجتك بعمل زوجتك، وهكذا، فإن هذا لا يمكن فالإنسان ليس له إلا سعيه، ولا يمكن أن يأخذ من سعي غيره ليوضع على سعيه، لكن إذا أراد غيره أن يعمل له فلا بأس، واستدلوا لذلك بأدلة منها هذا الحديث، قالوا: إذا جازت الصدقة عن الميت فالصدقة عمل صالح، فما الذي يجعل هذا العمل نافذًا للغير ويمنع غيره؟ لا فرق، كله قُربى، الصدقة قربى، والصلاة قربى، والقرآن قربى، فإذا صح أن القرب تجعل للأموات؛ فإنه لا فرق، فإن التعيين بالصدقة قضية عين ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نقول: هذا كلامه يثبت الحكم بما نصَّ عليه، وينتفي عما سواه، هذا رجل حصل له هذه القضية وجاء يسأل هل نستطيع أن نقول: إن غيرها ليس مثلها؟ لا نستطيع أن نقول هذا، لأنه لو وقع شيء آخر فإن الجواب أقل ما نقول فيه: إنه غير معلوم، ويُقاس على ما كان معلومًا، كذلك أيضا هناك أعمالٌ بدنية جاءت بها الشريعة «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، وهذا وإن كان بعض العلماء قال: إنه في النذر خاصة فهذا التخصيص غير صحيح، ولا يمكن أن نحمل قوله:«من مات وعليه صيام صام عنه وليه» لا يمكن أن نحمله على النذر ونخرج صوم رمضان، لأننا لو حملناه على النذر دون صوم رمضان لكنا حملناه على المعنى الأقل، ونفينا الحكم على المعنى الأكثر، أيهما أكثر: أن يموت المسلم وعليه صيام من رمضان، أو يموت وعليه صيام نذر؟ الأول بلا شك، لأن صيام النذر ممكن أن تمضي حياته كلها لا ينذر لله عز وجل، ولو نذر يمكن أن ينذر غير الصيام، ينذر صدقة أو صلاة أو ما أشبه ذلك، المهم أنا نقول العبادات البدنية المحضة كالصوم جاءت الشريعة بانتفاع الغير بها «ومن مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، في الحج قالت امرأة: يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة
الله على عباده في الحج شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال:«نعم» . وهذا في حجة الوداع من آخر الأحكام الشرعية، والحج عبادة بدنية محضة في الأصل، والمال ليس شرطًا فيها ولا ركنًا فيها، قد يحج الإنسان على رجليه من الصين وأنا عهدت أناسًا يأتوننا من أفغانستان ومن غيرها، يأتون على أقدامهم إلى مكة ستة أشهر ذهابًا، وستة أشهر رجوعًا، هذا معلوم، إنها أعمال بدنية المهم أن الحج إن شئتم قولوا: مُركبةً، وإن شئتم قولوا: بدنية محضة، وأهل مكة أيضًا يحجون حجا بدنيًا محضًا يحمل متاعه على ظهره ويمشي.
على كل حال: الحج عبادة بدنية، وجاءت السَّنة بالنيابة فيها وانتفاع الغير بها، فإذا قلت: هذه بنت تحج عن أبيها، وهي بضعة منه، قلنا: ماذا تقول في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: «لبيك عن شُبرمَة، قال: مَنْ شُبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: «أحججت عن نفسك؟ » قال: لا. قال: «حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة» .
فهنا يقول: أخ أو قريب والأخ أو القريب ليس بضعة منه فأجاز الحج عنه، وقد ذكر صاحب الفتوحات الإلهية على تفسير الجلالين - وهو ما يُعرف بحاشية الجمل- ذكر على الآية التي أشرت إليها أولاً:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ذُكِرَ عن شيخ الإسلام ابن تيمية أكثر من عشرين وجها كلها تدل على أن الإنسان ينتفع بعمل غيره وهذا من الغرائب؛ لأني طلبت هذا الكلام الذي نسبه لشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى وغيره مما يُنسب للشيخ ما وجدته، لكن لعل هذه فتوى وقعت عند الجمل فكتبها على هذه الآية؛ لذلك نقول: إن القول الراجح عندنا هو أن الإنسان إذا عمل عملاً صالحا بنية أنه لفلان فإنه يقع لفلان سواء كان ماليا أو بدنيًا أو مركبًا منهما، ولكن إذا كان قد عمل العمل أولاً ثم قال: اللهُمَّ ما كتبت من ثواب لي على هذا العمل فاجعله لفلان، فهل ينفع؟ هو بالنية الأولى ناويه لنفسه، ثم بعد ذلك قال: اجعله لفلان، فالظاهر أنه لا ينفع، لأنه بعد أن كتب لك لا تملك هبته الذي كتب لك الآن هو الثواب فلا تملك هبته، وقال بعض الفقهاء: إنه يملك أن يهبه، وأنه لو قال بعد فراغه من العمل: اللهُمْ ما كتبت من ثواب فاجعله لفلان فإن ذلك جائز، ولكن الذي يترجح عندي الأول، أنه لابد أن ينوي من الأصل أنه لفلان، فإذا نوى أنه لفلان نفع، ولهذا ذكر الفقهاء عن الإمام أحمد رحمه الله)
أنه قال: أي قرَّبة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك، لكن مسألة الحي في النفس منها شيء لأننا لو أجزنا ذلك بالنسبة للأحياء لاتكل الأحياء بعضهم على بعض، فالذي يظهر أن الأحياء يُقال اعملوا أنتم.
مسألة مهمة: هل في هذا الحديث دليل على مشروعية عمل الإنسان عملاً يجعله لغيره أو على جواز أن يعمل الإنسان عملاً يجعله لغيره؟ الثاني، يعنى: أننا لا تندب الإنسان إلى أن يعمل عملاً يجعله لغير، لكن لو فعل فإننا لا نُنكر عليه، ولا نقول هذا بدعة؛ لأنه لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك لكان العمل بدعة؛ فلما أجازه عُلِمَ أنه جائز وأنه لا ينكر على مَنْ فعله، ولكن هل يندب لكل إنسان أن يفعله؟ بمعنى هل نقول للناس: يُسنّ لكم أن تعملوا أعمالاً من الصدقات أو الحج أو غيرها للأموات؟ الجواب: السُّنة لا تدل على هذا، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يفعلوا ذلك، لكن أجاز لأمته أن يفعلوا هذا وفرق بين الإقرار على الجواز وبين الإقرار على الندب والطلب من الناس أن يفعلوا ذلك.
فإذا قال قائل: هذا شيء غريب أن تجعلوا عبادة أقرَّها الشارع أمرًا مباحًا؟ فالجواب: أنه لا غرابة لأننا لم نجعل العبادة أمرًا مباحًا لكننا جعلنا إهداء العبادة أمرًا مباحًا، وفرق بين هذا وهذا، ويدل لذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر عائشة رضي الله عنها حين أُحرمت بالعمرة ثم أتاها الحيض ولم تتمكن من إتمامها وأمرها أن تُدخل الحج على العمرة وتكون قارنه، وقال لها:«طوافك بالبيت والصفا وبالمروة يسعك لحجك وعُمرتك» أقرها على أي شيء؟ على أن تأتي بعمرة بعد انتهاء الحج؛ لأنها طلبت منه أن تأتي بعُمرة وألحت عليه، وقالت: يا رسول الله! يذهب الناس بعمرة وحج وأذهب بحجِّ؟ فأمر أخاها أن يخرج بها إلى التنعيم وتُحرم، ولكن هل أرشد أخاها وقد ذهب معها إلى أن يحرم؟ أبدًا، ولو كان هذا مشروعا ما فوَّت النبي صلى الله عليه وسلم أخاها أن يفعله، ثم نقول: هل هو مشروع لمن حصل له مثل حال عائشة؛ لأن من لم يحصل له مثل حال عائشة لا شك أنه ليس بمشروع في حقه أن يأتي بعمرة بعد الحج، ولكن هل هو مشروع لامرأة حصل لها مثل ما يحصل لعائشة أو لرجل أحرم بعمرة بناء على سعة الوقت ثم ضاق الوقت ولم يتمكن من أداء العمرة فأدخل الحج عليها وذهب إلى مشاعر الحج، هل نندب له إذا انتهى من الحج أن يأتي بعمرة لكن من لم تطب نفسه إلا أن يأتي بعمرة؟ نقول له: لا بأس أن تأتي بعمرة، لا نبدِّعك ولا نمنعك.
ثانيًا: خرج رجل في سرية وكان إمامًا لأصحابه فجعل يُصلي بهم ويقرأ ويختم بقل هو الله أحد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه فقال:«سلوه لأي شيء كان يفعل ذلك؟ » فسألوه
فقال: لأنها صفة الرحمن فأحبُّ أن أقرأها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله يحبه» ، ولم يُنكر عليه بل أقره فهل نقول: يُشرع لكل مصلِّ أن يختم صلاته بقل هو الله أحد؟ لا، لأن ذلك ليس من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به، لكن لو فعله فاعل لم ننكر عليه، فهذه ثلاثة أمثلة.
هذا الحديث الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ الرجل أن يتصدق عن أمه، ولكن لم يأمر أمته بذلك، وحديث عائشة، وحديث صاحب السرية، حديث سعد بن عُبادة أيضًا كان له نخل بستان فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أيتصدق به عن أمه، وكانت قد ماتت، فأذن له، وبهذا نعرف أنه لا يُشرع لإنسان أن يتصدق بالصدقة عن الميت أو يوقف له وقفًا، لكن لو فعل فإن ذلك ليس بممنوع، فالمراتب ثلاث: مشروع، وجائز، وممنوع، لو لم ترد السُنة بإقراره لكان ممنوعًا وبدعة، ولو وردت السُّنة بالأمر به ونُدب الناس إليه، لكان مشروعًا وسُنة، ولما أقرت السُّنة فعل من فعله، ولكن لم تأمر الناس به كان جائزاً هو قربة لمن فعله.
في هذا الحديث إشكال من الناحية الإعرابية وذلك في قوله: «أظنها لو تكلمت تصدقت» ؛ لأن من المعروف أن «أظن» تنصب مفعولين فأين مفعولاها الآن؟ ويوجد إشكال آخر «لو تكلمت تصدقت» ، فمعروف أن جواب «لو» إذا كان مثبتا يقرن باللام، لو تكلمت لتصدقت، فماذا نقول؟ هو ليس بواجب، والدليل من القرآن {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70].
هل الدعاء للميت أفضل أم إهداء العبادة له أفضل؟ الدعاء أفضل، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما سأله رجل عن بر والديه بعد موتهما لم يذكر الصدقة عنه، وإنما ذكر الدعاء.
دليل آخر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» ، فهنا قال:«أو ولد صالح يدعو له» مع أن السياق في باب العمل «انقطع عمله» ، فلو كانت أعمال الشخص عن غيره أفضل من الدعاء له لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.
فإذا سألنا سائل: أيهما أفضل أن أتصدق لأبي أو أدعو الله أن يغفر له؟
قلنا: الثاني أفضل، والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) دعوا لآبائهم، قال نوح:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28]. لكن إبراهيم بعد ذلك تبرأ من أبيه لما تبين له أنه عدو لله، وبهذا نعرف أن أبوي نوح كانا مؤمنين، وأن أبا إبراهيم لم يكن مؤمنًا، وأم إبراهيم مؤمنة؛ لأنه دعا بالمغفرة ولم يُنكر عليه ولم يتبرأ منها.