الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن فوائد ذكر العلة المقرونة بالحكم: إمكان القياس بحيث يلحق بهذا المنصوص عليه ما يساويه في تلك العلة.
فإن قال قائل: إمكان القياس حاصل وإن لم تذكر العلة.
فالجواب: أن الأمر كذلك، ولكن لا شك أن العلة المنصوصة أقوى من العلة المستنبطة؛ العلة المستنبطة قد تكون هي المرادة للشارع وقد لا تكون؛ لكن العلة المنصوصة لا شك أنها هي المقصودة للشارع، فهي أقوى، ثم إن العلة المنصوصة يقوي الإنسان على إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق إذا شاركه في العلة، بخلاف العلة المستنبطة، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه» ، هذه العلة استفدنا منها فوائد عظيمة، وهي: أن كل ما يحزن المسلم فإنه منهي عنه، وكل ما يسره فإنك مأمور به وإن لم تؤمر به لعينه، لكنك مأمور به لجنسه، فكل ما يسر المؤمن فإنك مأمور به كما أنك منهي عن كل ما يحزنه.
ومن فوائد الحديث: أن هذا الحكم -أعني: بيع الرطب باليابس- من الربويات إذا كان من جنسه عام في التمر بالرطب وغيره، وعلى هذا فيكون بيع الحب بالحب اليابس غير جائز؛ لأنه سوف ينقص إذا جف.
بيع الدين بالدين:
811 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، يعني: الدين بالدين» . رواه إسحاق والبزار بإسنادٍ ضعيفٍ.
والنهي: طلب الكف على وجه الاستعلاء، يعني: أنه يوجه إلى شخص طلب الكف عن شيء معين على وجه الاستعلاء، فقولهم:"طلب الكف" خرج به الأمر وما ليس بأمر ولا نهي: الإباحة؛ لأن الأمر طلب الفعل، والإباحة لا بطلب فعل ولا كف، وقولهم:"على وجه الاستعلاء" خرج به ما كان على وجه المساواة أو كان على وجه الأدنى، بمعنى: أن الأدنى يوجه النهي إلى الأعلى، فالأول يسمونه التماس كقول الزميل لزميله لا تشوش علي، وإذا كان من أدنى إلى أعلى يسمى دعاء وسؤالاً، ومعلوم أن توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم النهي لأمته من باب طلب الكف على وجه الاستعلاء؛ لأن أمره مطاع صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه أشد الناس تواضعاً للخلق.
وللحق قال: «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» يعني: المؤخر بالكالئ بالمؤخر، وهذا الحديث أولاً: إسناده ضعيف، وثانياً: ليس على إطلاقه ولا عمومه، وإنما يشمل صوراً معينة وهي التي يكون فيها شيء من المحظور الشرعي، وله صور منها: بيع الدين بالدين على الغير مثل: أن يحضر إلي شخص ويقول: أنت تطلب فلاناً مائة صاع بر يعني: إياه بمائتي ريال أسلمها لك بعد سنة، هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه بيع دين في ذمة الغير قد يقدر على استلامه وقد لا يقدر، وثانياً: أن فيه ربحاً فيما لم يضمن، وقد مر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، يعني: أم الدين الذي في ذمة الغير لي لم يدخل في ضماني، متى يدخل في ضماني؟ إذا تسلمته، ومن المعلوم أنني إذا بعته مؤجلاً فإنه سيزيد ثمنه؛ لأنه ليس البيع المؤجل كالبيع الحاضر وحينئذ بعت ما لم يدخل في ضماني وبعت ما يكون مشكوكاً في القدرة عليه، هذه صورة، كذلك أيضاً من بيع الدين أن يكون عند شخص لي مائة درهم فتحل المائة ويأتي إلي ويقول: ليس عندي شيء، فأقول: نجعل المائة بمائة صاع بر إلى سنة فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأنه -كما قلنا- سوف يربح فيما لم يضمن؛ لأنه ليس ثمن الحاضر كثمن المؤجل، فمائة صاع بر بمائة درهم، التي في ذمتي مائة درهم وأنا بعته بمائة صاع بر يمكن لو بعته بحاضر لا أحصل بمائة درهم إلا تسعين صاعاً، والآن أنا بعت بمائة فربحت فيما لم أضمن؛ ولأنه يؤدي إلى قلب الدين بهذه الحيلة على المدين كيف ذلك؟ لما حل الأجل لمائة الدرهم جعلناها بمائة صاع إلى سنة فحلت السنة وليس عنده بر، فأقول: تكون بمائة صاع شعير، أو أقول: بعت مائة صاع بر تكون بمائة وعشرين درهم، وحينئذ تؤدي إلى قلب الدين ويكون ذلك شبيهاً بما نهى الله عنه في قوله:{يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربوا أضعافاً مضاعفةً} [آل عمران: 130].
وقد يكون أيضاً من صوره: أن يبيع الإنسان ما في ذمة الغير المعسر على شخص آخر بدراهم أقل، ففي ذمة هذا الفقير لشخص ألف درهم فيأتيه إنسان ويقول: بعه علي بخمسمائة درهم وأنا وحظي مع هذا الفقير، فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأنه أولاً: بيع دراهم بدراهم بدون قبض، والثاني: لأنه بيع شيء لم يدخل في ضمانه، والثالث: أنها شبيهة بالميسر؛ لأن هذا اشتراها- الألف بخمسمائة- إن قدر عليها فهو غانم وإن عجز فهو غارم، وهذه هي قاعدة الميسر كل عقد يتضمن إما الغرم وإما الغنم.
وعلى هذا نقول: هذا الحديث إن صح يجب أن يحمل على ما دلت النصوص على منعه لا على كل دين بدين، وبناء على هذا لو اشتريت منك مائة صاع بر بمائة درهم ولا أحضرنا الدراهم ولا البر فإن ذلك على القول الراجح جائز ولا بأس به؛ لأن كلا منها غير مؤجل بل هو حاضر وليس فيه محظور إطلاقاً، وعمل الناس الآن على هذا فيأتي الإنسان يشتري من شخص
طعام: سكر، بر، أي شيء بدراهم لا يسلمه له في الحال فهو بيع دين بدين لكنه جائز؛ لأنه ليس فيه محظور إطلاقا لا جهالة ولا غرر ولا ربا، والأصل في العقود الحل إلا ما قام الدليل على منعه، وهذا لم يقم دليلا على منعه؛ لأن هذا الحديث ضعيف، ولأنه يصدق ولو بصورة واحدة، يعني: إذا صدق النهي ولو بصورة واحدة كفى؛ لأن لدينا أدلة تدل على أن الأصل هو الجواز، فإذا ضح الحديث حمل على الصورة التي يعلم منعها بالأدلة الأخرى.
هل يجوز بيع الدين على غير من عليه بسعر يومه إذا بيع بما لا يشترط فيه التقابض أو لا يجوز؟ مثاله: رجل عنده لي مائة صاع بر فجاءني شخص وقال: بعها علي بمائة درهم بقيمتها الحاضرة بدون أي ربح أو لا يجوز؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: لا يجوز، لأن هذا ليس عنده وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده، ومنهم من قال بالجواز، لكن إن قدر على قبضه تم البيع وإلا فله الرجوع، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا قد يحتاج إليه الإنسان فيما لو كان المطلوب في بلد آخر، لو كان المطلوب في بلد آخر وجاء شخص من أهل البلد الذي فيه المطلوب واشترى منه ما في ذمته بعوض لا يجري بينه وبينه ربا النسيئة فهنا قد يحتاج إليه، لكن بشرط أن يكون بسعر اليوم لئلا يربح فيما لم يضمن.
فإن قال قائل: هذا القول يرد عليه حديث ابن عمر: "كنا نبيع الإبل بالدراهم ونأخذ عنها الدنانير، وبالدنانير فنأخذ عنها الدراهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء".
فالجواب: أن هذا لا يرد، لأن بيع الدراهم بالدنانير أو بالعكس يشترط فيه التقابض قبل التفرق، وبيع الدراهم بالدنانير ولو كان حاضرا بحاضر لابد فيه من التقابض قبل التفرق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» ، أما صورتنا هذه فهي بيع شيء بآخر لا يجري بينهما ربا النسيئة، ولكن لا شك أن الاحتياط الأخذ بالقول الثاني، وهو ألا يبيعه حتى يقبضه، لأنه إذا فتح هذا الباب فربما يتبايع الناس ديونا لا يرجى حصولها ويكون هذا من باب الميسر، وربما يبيعون ديونا يرجى حصولها لكن بربح، وكل هذه من المحظورات الشرعية، فالأولى والاحتياط الأخذ بالمنع، وألا يبيع الإنسان دينا في ذمته غيره حتى يقبضه.
* * * *