الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبني على الغالب، فإن الإنسان قد يشفع لغير المسلم؛ لأن ذا الذمة له حق وحماية، فإذا رأيت أحداً يريد أن يظلمه وشفعت له لدفع الظلم عنه كنت مأجوراً بذلك؛ لأنك تفعل هذا وفاء بالعهد والذمة الذي بين المسلمين وهذا الذمي، فيكون تقييدها بالأخوة من باب التغليب وليس من باب القيد.
من فوائد هذا الحديث: جواز الشفاعة، ووجهه: إثبات النبي صلى الله عليه وسلم لها وإقراره إياها، ولكن ليس ذلك على إطلاقه، بل على حسب ما تقتضيه النصوص الشرعية والأصول المرعية، فإذا شفع في أمر باطل كانت شفاعته باطلة، وحراماً إذا كان حراماً ولكن المراد الشفاعة في الخير.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز لمن شفع في أمر يجب عليه الشفاعة فيه أن يأخذ هدية؛ لان وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بالربا يراد به التنفير منها، وكذلك من شفع لأخيه في غير الواجب، فإنه لا يأخذ على ذلك هدية؛ لما أسلفناه من أن الإنسان يكسب ويحصل ما لا يستحقه.
فإن قال قائل: ما تقولون فيما لو طلب منه الشفاعة وقال له المطلوب: أنا لا أشفع لك إلا بكذا وكذا من الأصل فهل يجوز؟
أقول: إنه إذا كان من الأصل لم تكن هذه شفاعة لم يحصل بها منة من الشافع بل هي إجارة ما لم تكن الشفاعة واجبة، إن كانت واجبة فلا يجوز له أن يقول لا أشفع إلا بكذا وكذا؛ لانه واجب ملزم به من قبل الشرع مثل أن يشفع له في دفع الظلم عنه أو حصول واجب له.
الرشوة:
807 -
وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي". رواه أبو داود، والترمذي وصححه.
"لعنه" أي قال: لعنة الله عليه وهو خبر بمعنى: الدعاء؛ أي: دعا عليه باللعنة، والعنة هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله، قال تعالى لإبليس:{وإن عليك اللعنة} [الحجر: 35]. وفي آية أخرى: {وإن عليك لعنتي} [ص: 78]. أي: حقت عليه اللعنة، وهي الطرد والإبعاد عن رحمة الله أبد الآبدين؛ لان قوله:{إلى يوم الدين} لا يقتضي أنه بعد يوم الدين ترتفع اللعنة عنه، لكن من لعن إلى يوم الدين فهو ملعون أبد الآبدين، نسأل الله العافية.
"لعن" أي: دعا عليه باللعنة؛ أي: بالطرد والإبعاد عن رحمة الله، "الراشي": هو باذل الرشوة، "والمرتشي": آخذ الرشوة، والرشوة بفتح الراء وكسرها وضمها مثلثة الراء، يعني تقول: رشوة فيكون صحيحاً، رشوة صحيح، رشوة صحيح، يقال: مثلث الراء، ويقال: بالمثلثة وبينهما فرق، إذا قيل: مثلث الراء باعتبار الحركات، وإذا قيل بالمثلثة باعتبار النقط، فالثاء نقول فيها: مثلثة ورشوة نقول بتثليث الراء. ما هي الرشوة؟ الرشوة في الأصل: العطاء الذي يراد به التوصل إلى مقصود، مأخوذة من ارشاء الذي هو حبل الدلو الذي ينزل في البئر للسقيا؛ لأن الرشاء يتوصل به الإنسان إلى مقصوده إلى الماء، ولكن المراد بالرشوة هنا التي لعن فاعلها هي البذل للتوصل إلى باطل، أو إسقاط حق، وأكثر ما تكون في المحاكمات يبذل الخصم للقاضي- للحاكم- شيئا ليحكم له بما يريد من باطل، فهذه الرشوة وكذلك في غير القضاء، يبذل الإنسان شيئا إلى رئيس دائرة ما أو مديرها لينصبه في وظيفة وهو ليس لها بأهل.
فالقاعدة إذن: أن الرشوة المحرمة هي بذل مال للتوصل إلى باطل أو إسقاط حق، هذه المحرمة، وأما ما يبدل للتوصل إلى حق فهي حرام بالنسبة للآخذ حلال بالنسبة للباذل، كرجل تسلط عليه ظالم فأعطاه رشوة لأجل منع الظلم عنه فهذا لا بأس به، إنسان آخر له حق ولا يستطيع التوصل إلى يبذل المال ليصل إلى حقه فهذا ليس حراماً عليه والإثم على الآخذ، ولكن لا ينبغي أن نلجأ إلى ذلك إلا عند الضرورة القصوى؛ لأننا لو بذلنا هذا بسهولة لفسد من يتولى أمور الناس وصار لا يمكن أن يعمل إلا برشوة، كما يوجد في بعض البلاد لا يمكن أن تقضى حاجته التي يجب قضاؤها على الموظف إلا برشوة، يأخذون بالقاعدة الأصلية الثابتة الراسخة عند العامة وهي:"ادهن السير يسير يعني: ما يمكن إنه يسير أمره ويسهل إلا إذا دهن السير وإذا دهنته كثيرا يمشي ويسرع وإن دهنته قليلاً يقطع".
على كل حال أقول: إن الإنسان الذي يبذل الشيء ليتوصل إلى حقه أو دفع الظلم عنه ليس عليه إثم، بل الإثم على الآخذ، وقد نص على ذلك أهل العلم الشراح الذين يشرحون الحديث باعتباره شرحاً فقيها، والشراح الذين يشرحون باعتباره شرحاً لغوياً كصاحب النهاية مثلاً، إذن الرشوة التي لعن فاعلها ومن فعلت له هي التي يتوصل بها إلى باطل أو إسقاط حق، هذه يلعن فيها الراشي والمرتشي، وإنما لعنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يتضمن فعلهما من المفاسد العظيمة وتعطيل حقوق الناس والتلاعب بهم، والناس- كما تعلمون- إذا لم نقض حوائجهم على الوجه المطلوب حصل بذلك فتن عظيمة وكراهة لولاة الأمور الذين يتولون هذه الأشياء، ويأخذون عليها رشوة والواجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل فيمن ولاه الله عليه وأن يسير بهم بالعدل والقسط، ويعطي كل ذي حق حقه، وألا يستعمل سلطته ليتوصل بها إلى أكل أموال الناس بالباطل.
من فوائد الحديث: جواز لعن الراشي والمرتشي، لكن على سبيل العموم لا التخصيص، فتقول: لعنة الله على الراشي والمرتشي، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهما، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن على سبيل التعيين لا يجوز وإن رشا؛ لأنه من الممكن أن يهديه الله عز وجل ويسلم من الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وإذا كان الكافر- وهو أشد من المرتشي- لا يجوز لعنه بعينه فما بالك بالمرتشي، لا يجوز من باب أولى، ولهذا لما صار النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم من العرب «اللهم العن فلاناً وفلاناً» نهاه الله، وقال له سبحانه وتعالى:{ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظلمون} [آل عمران: 128].
فكذلك هؤلاء الفسقة الذين لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن نلعن الإنسان منهم بعينه لكن على سبيل العموم، وبهذا نعرف الفقه في هذه المسألة وهي الفرق بين التعيين بالجنس والتعيين بالشخص، التعيين بالجنس أوسع وهو أن أقول: اللهم العن الرشاة والمرتشين عموماً، لكن التعيين بالشخص، اللهم العن فلانا لأنه يرتشي لا يجوز، اللهم العن فلاناً لأنه كافر لا يجوز، لكن لو قلت: لعنة الله على الكافرين جائز للعموم، وهذا كما أنه في العقوبات فهو كذلك في الثواب، فلا تشهد لشخص معين بأنه في الجنة وإن كان مؤمناً، ولا تشهد لمن قتل في الجهاد بأنه شهيد وإن قتل فيه، ولكن نقول كما أرشد إليه عمر رضي الله عنه:"من قتل في سبيل الله أو مات فهو شهيد" على سبيل العموم؛ لأننا لو قلنا بجواز الشهادة بالتعيين لكنا نشهد لكل واحد بأنه في الجنة من المؤمنين وهذا لا يكون.
ومن فوائد الحديث: وجوب القيام بالعدل بين الناس؛ لأن الرشوة في الغالب يكون فيها جور؛ حيث إنه يقدم الراشي على غيره، وربما يحكم له بالباطل مع أن الحق مع غيره.
فإن قال قائل: ما وجه إدخال هذا الحديث في باب الربا؟
نقول: وجه ذلك: هو أن الجامع بينه وبين الربا أن هذا الآخذ بغير حق من أكل المال بالباطل فهو كالربا.