الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشهاد على اللقطة وحكمه:
902 -
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدلٍ، وليحفظ عفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء» . رواه أحمد، والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان.
اللقطة سبق لنا أنها المال أو المختص الذي ضل عن ربه بشرط ألا يكون زهيدا فإن كان زهيدا لا تتبعه همة أوساط الناس فليس بلقطة؛ لأن الذي يجده يملكه مالم يعلم صاحبه، وقد مر علينا هذا ونعيده الآن لأهميته، ومن وجد شيئا وهو لا يعرف صاحبه فإن كان من الأمور الزهيدة التي لا يهتم بها أوساط الناس فهو له، ولا يحتاج إلى تعريف ودليله حديث التمرة:«لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها» ، من وجد لقطة وهي ذات أهمية فإنه يجب عليه أن يُعرفها، بعد أن يعرف عفاصها ووكاءها على ما سبق، من وجد ضالة فإن كانت تمتنع من صغار السباع كالإبل فهذه لا يجوز التقاطها، وتترك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مالك ولها
…
إلخ»، وقلنا لكم إن مثل ذلك ما يمتنع من صغار السباع بالطيران أو بالعدو، الضالة التي لا تمتنع من صغار السباع كالغنم ذكرنا أن العلماء اختلفوا فيها منهم من قال إنها لواجدها لقوله:«هي لك» ، فإن تركها فهى لأخيه، وإن لم يجدها أخوه فهى للذئب، ولكن المشهور عند أهل العلم أنها كاللقطة تُعرف سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فهى لواجدها لكنا ذكرنا في هذا القسم: أنه إذا كان يخشى أن تأكل شيئا كثيرًا في النفقة فإنه يبيعها ويحفظ قيمتها.
وهنا قال: «من وجد لقطة» ، حتى الزهيد، لا لأن الزهيد لواجده، «فليشهد ذوي عدل» ، الفاء رابطة للجواب جواب الشرط الذي هو «من» ، وجواب الشرط يجب ربطه بالفاء في مواضع سبعة جمعت في بيت واحد وهو:
(اسميةٌ طلبيةٌ وبجامد
…
وبما وقد وبلن وبالتنفيس)
التي معنا «فليشهد» لماذا اقترنت بالفاء؟ لأنها طلبية إذ إن اللام في قوله: «فليشهد» لام الأمر، وقوله:«ذوي عدل» أي: صاحب عدل، والعدل هو الاستقامة في الدين والمروءة، مأخوذ من العدالة عدل أي: مستقيم في دينه ومروءته، في دينه بألا يفعل كبيرة ولا يصرّ على صغيرة، في مروءته بألا يفعل ما يخل بالمروءة.
وقوله: ذوي عدله أي: صاحبي عدل، وهو واضح في أنه وصف المذكر؛ لأن وصف
المؤنث يقال ذواتى، كما قال تعالى:{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} [سبأ: 16]. لكن هنا قال: «ذوي» يعني: رجلين ذوي عدل، وإنما أمر بالإشهاد لئلا يحصل نزاع بين الواجد وبين صاحبها إذا وجدها، فقد يدعي صاحبها أنها أكثر عددًا أو أنها أطيب وصفا، فإذا أشهد أستراح على الأقل من اليمين، فلا توجه إليه اليمين ما دام عنده بينة واشترط أن يكون ذوي عدل؛ لأن الفاسق لا يُقبل
خبره ولا يرد؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. ما قال: فردوه ولا فاقبلوه، بل قال:{فَتَبَيَّنُوا} لماذا؟ لأن الفاسق قد يصدق، قد توجد قرائن تدل على صدقه، ولهذا لا يرد خبر الفاسق مطلقًا ولا يقبل مطلقا، لكن العدل: فليشهد ذوي عدل يُقبل خبره، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الشاهدان ذوي عدل.
«وليحفظ عفاصها ووكاءها» ، هل المراد بذلك حفظ ذاتها، أو المراد حفظ ذاته، أو أوصافه؟ الثاني، يعني: فليحفظ العفاص، وهو الوعاء الذي فيه اللقطة، والوكاء: الحبل الذي رُبطت به إما بنات أو بأوصافه.
يقول: «ثم لا يكتم ولا يغيب» ، «لا يكتم» يعني: يُعرف؛ لأن السكوت عن التعريف كتم، و «لا يُغيّب» أي: لا يُخفي منها شيئًا، بل ينشد ويصدق فيما يبدي منها.
«فإن جاء ربها فهو أحق بها» أي: رب اللقطة وهو المالك أو من ينوب منابه، «فهو أحق بها» يعني: فهي له، لأنه إذا كان أحق فإنه لا منازع له في هذا الحق، «وإلا» يعني: وإلا يأتي «فهو مال الله» هذه الجملة «وإلا» ترد علينا كثيرا في كلام العرب، وفي السُنة أيضا، فما كيفية تركيب هذه الجملة؟ نقول: أصلها إن الشرطية ولا النافية وما بعدها جواب الشرط وفعل الشرط محذوف، إن هنا ليست محذوفة لكنها مدغمة بلا وأصلها «وإن لا» ، فعل الشرط محذوف يفهم مما سبق، قال: وإلا، قدر الفعل «وإلا يجد» ، جملة «فهو مال الله» جواب الشرط، واقترن بالفاء لأن الجملة اسمية، وإلا، يعني: وإلا يجيء ربها فهو أي: الموجود ولم يقل: فهي فأعاد الضمير على المعنى، وإلا لقال: فهي، «فهو مال الله يؤتيه من يشاء» ، أي: يعطيه، ومن الذي أعطيه في هذه الصورة، الواجد يعني وإلا يجيء صاحبها فهي لمن وجدها مال الله يؤتيه من يشاء.
هذا الحديث فيه فوائد: أولا: الأمر بالإشهاد على اللقطة حين وجودها لقوله: «فليشهد» هذا الأمر هل هو للوجوب أو للاستحباب والإرشاد؟ في هذا قولان لأهل العلم فمنهم من قال: إن الإشهاد واجب واستند إلى أن الأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل على صرفه
عن الوجوب، وقال: من وجد لقطة وجب عليه أن يشهد، وقال بعض أهل العلم: بل الأمر هنا للاستحباب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به في حديث زيد بن خالد مع أن السائل يبدو - والله أعلم - أنه أعرابي لا يفهم الشروط والحدود الشرعية، ولو كان الإشهاد واجبا لبينه النبي لهذا الأعرابي الذي أراد أن يسأل ويمشي، الأول مذهب الشافعي، والثاني مذهب أحمد، يعني: الإشهاد إما واجب، وإما سنة، ولا شك أن الاحتياط الإشهاد؛ لأن الإنسان ربما تغلبه نفسه الأمارة بالسوء فيما بعد ويكتم اللقطة ولاسيما وإذا كانت لقطة ذات أهمية كبيرة، فالإشهاد أحوط بلا شك، وينبغي مع الإشهاد إتمامًا للاحتياط أن يكتب ذلك لأن الشهود ربما يغيبون أو ينسون أو يموتون.
ومن فوائد الحديث: أن الإشهاد المعتبر إشهاد ذوي العدل، وأن الإنسان لا ينبغي أن يشهد إلا ذوي العدل، لأنه هو المقبول الشهادة.
فإن قال قائل: لو أشهد فاسقا ثم تاب الفاسق وأذى وهو عدل هل تُقبل شهادته؟ قلنا: نعم، قبل اعتبار بحال الأداء، كما أنه لو أشهد وهو عدل ثم فسق فإنها لا تقبل.
ولو أشهد صغيرا ثم بلغ وضبط الشهادة فإنها تُقبل اعتبارا بحال الأداء.
ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أن المرأة لا تُقيل شهادتها بهذا، ولكن هذا الظاهر غير مراد لأن الله قال:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. وقد ذكر أهل العلم أن المال وما يقصد به المال يُستشهد فيه الرجلان والرجل والمرأتان.
ومن فوائد الحديث: أنه يجب أن يحفظ عفاصها ووكاءها؛ لقوله: «وليحفظ» وهذا الأمر لم يعارضه شيء يدل على عدم الوجوب فيه، بل جاء ما يشهد للوجوب في قوله في حديث زيد بن خالد:«اعرف عفاصها ووكاءها» .
ومن فوائده: تحريم كتم اللقطة لقوله: «ثم لا يكتم» ، وتحريم تغييب شيء منها لقوله:«ولا يغيب» .
ومن فوائده الإشارة إلى وجوب القيام بالأمانة في أموال الغير لأن كل هذه الأوامر الأربعة: «فليشهد» ، «وليحفظ» ، «ثم لا يكتم» ، «ولا يغيب» كل هذا من أجل المحافظة على مال الغير وهو كذلك؛ أي: أنه يجب على الإنسان إذا كان مؤتمنا على مال الغير أن يحافظ عليه.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا جاء ربها فهو أحق بها مطلقا سواء قبل الحول أم بعده لعموم قوله: «فإن جاء ربها» .
ومن فوائده: جواز وصف المالك بالرب لقوله: «ربها» لكن الربوبية المطلقة لا تكون إلا لله، فالربوبية التي تُضاف إلى غير الله ربوبية خاصة، وربوبية ضعيفة، خاصة فيما يملكه الرب، وهي ضعيفة لأن هذه الربوبية لا تمكنك أن تفعل ما تشاء في مالك، لأن تصرفك في مالك مُقيد بالشرع.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا لم يأت ربها فهي لواجدها لقوله: «وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء» .
ومن فوائده: جواز إضافة المال إلى الله فيقال هذا مال الله، فإن كان المال من الأموال الشرعية كالزكاة والغنيمة والفيء وما أشبه ذلك فواضح، لقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول} [الأنفال: 41]. وإن كان من الأموال الخاصة فإنه مال الله حقيقة لأنك أنت ومالك لله، ولهذا قال الله تعالى:{وَآتُوهُم} يعني: المكاتبين {مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 32]. وهنا قال: «وإلا فهو مال الله» .
ومن فوائد الحديث: إثبات المشيئة لقوله: «من يشاء» ، والمشيئة ليس فيها إشكال فيما يتعلق بفعل الله، والمسلمون كلهم مجمعون على مشيئة الله فيما يتعلق بفعله سُنيهم وبدعيهم لكن ما يتعلق بفعل العبد هذا محل الخلاف، فانقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، طرف بالغ في الإثبات، وطرف بالغ في النفي، وطرف توسط، فالذين بالغوا في الإثبات الجبرية، وقالوا: إن فعل العبل واقع بمشيئة الله وليس للعبد فيه أي مشيئة هؤلاء بالغوا في إثبات مشيئة الله وجعلوها تجبر حتى في المسائل الاختيارية، وقسم آخر غلوا في النفي فقالوا ليس لله تعالى مشيئة في فعل العبد، والعبد مستقل بفعله ما يشاؤه سواء شاء الله أو لم يشأ، وهم القدرية مجوس هذه الأمة المعتزلة، والثالث توسط وقالوا: مشيئة الله نافذة في كل شيء، ومشيئة العبد تابعة لمشيئة الله لقول الله تعالى:{لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [الكوثر: 28]. وهذا هو الحق الذي تجتمع به الأدلة.
ومن فوائد الحديث: أن الله تعالى قد ييسر للإنسان مالاً بلا كسب منه أو بلا تعب هذه اللقطة بلا تعب وجدت مالاً في السوق قدره مائة ألف وأنشدته ولم يأت صاحبه هل تعبت فيه؟ أبدا، الله تعالى قد ييسر للإنسان مالاً بلا تعب.
فإن قال قائل: إذا ثبت أنه ملك فهل يجب فيه الخمس كما يجب في الركاز - الذي يوجد مدفونا في الأرض وليس له مالك- إذا وجده الإنسان؟ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخمس»