الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كبيرة من كبائر الذنوب، وهي التجسس لحساب المشركين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب حينما استأذنه أن يقتله، قال له:«وما يدريك أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فكانت هذه الحسنة العظيمة ماحية لهذه السيئة الكبيرة، والسيئة الكبيرة منغمرة في هذه الحسنة الكبيرة، أيضًا قد يكون منهم من تاب ومن تاب تاب الله عليه، قد يكون منهم من طهر بإقامة الحد عليه أو العقوبة، ومعلوم أن الحدود كفارة للذنوب، قد يكون بعضهم استغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم لما يسأل بعضهم الرسول يقول: يا رسول الله! استغفر لي، فالمهم أن الأصل فيهم العدالة، وما يروى عن بعضهم من الوقوع في المعصية فإن هذه المعصية لها أسباب كثيرة تنغمر فيها هذه المعصية، ولهذا لا شك أنهم عدول في الأصل، والأصل قبول خبرهم، ولو كانوا مجهولين.
فإن قال قائل: أليس أبو موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثًا، ولما لم يأذن له انصرف، ثم لما عابته عمر على ذلك أخبره بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمن يستأذن ثلاثًا أن ينصرف، فقال له: هات من يشهد معك، فكيف تقولون: إن الأصل قبول خبر الصحابي وأن جهالته لا تضر؟
فالجواب: أن نقول: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يتثبت لأنه قد يفهم الشيء على خلاف ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا ردًا لخبر أبي موسى، ثانيًا: أن عمر بن الخطاب أدرك زمن التابعين، فخاف أن يقوم أحد من التابعين بفعل شيء يلام عليه ثم يدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له في ذلك، فأراد رضي الله عنه سد الباب، ولا أظن أن عمر يشك في صدق أبي موسى، وأن أبا موسى أراد أن يحابي نفسه، فيروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، هذا شيء مستحيل.
على كل حال نعود إلى الأصل، وهو أن الأصل في الصحابة العدالة، ولهذا قال أهل الحديث: إن جهالة الصحابي لا تضر.
****
17 - باب الوقف
"الوقف": مصدر وقف يقف وقفًا ووقوفًا، وأصل الوقف قطع المشي والسير، ولكنه هنا تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، يعني: أن يحبس الإنسان أصل المال، ويسبل منفعته يطلقه، مثاله: أن يوقف هذا البيت على الفقراء فأصل البيت محفوظ لا يمكن أن يتصرف فيه ببيع ولا هبة ولا ميراث ولا غيره، ومنفعته للفقراء مطلقًا كل من كان فقيرًا استحق من هذا الوقف، ولهذا
نقول: الوقف: هو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ولم يكن هذا التصرف في المال معروفًا في الجاهلية، وأول وقف كان في الإسلام وقف عمر بن الخطاب الآتي في الحديث الذي بعد الحديث الأول، والوقف في الأصل يقصد به البر والتقرب إلى الله عز وجل، لأن الإنسان يوقفه ليبقى العمل له بعد موته، فيكتسب بذلك أجرًا وصوابًا بع الموت وبناء على هذا؛ فإنه لا يجوز للإنسان أن يوقف وقفًا محرمًا، مثل: أن يوقف على بعض أولاده على الآخرين، والتفضيل حرام، والوقف إنما يقص به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تقرب الإنسان إلى الله بمعصية الله. فبدأ المؤلف بحديث أبي هريرة:
885 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» . رواه مسلم.
"إذا مات ابن آدم انقطع" هذه جملة شرطية يتوقف فيها الجواب على الشرط، فإذا مات الإنسان، انقطع عمله، وانتقل إلى دار الجزاء؛ لأنه دار العمل هي الدنيا فقط، وبعد الموت لا عمل وليس فيه إلا الجزاء.
"إلا من ثلاث" فإنه لا ينقطع عمله قال: "صدقة جارية": الصدقة الجارية كل نفقة تكون بعد الموت في سبيل الله، أي: فيما يقربه إلى الله، ولا يختص ذلك بالفقراء والمساكين، بل لو وقف شيئًا على المار في هذا الطريق وقف شيئًا للشرب يشرب منه الأغنياء والفقراء، بنى مسجدًا يصلي فيه الأغنياء والفقراء، فكل هذا داخل في الصدقة الجارية، ومعنى جارية: أي مستمرة بخلاف الصدقة المقطوعة فهي أن يتصدق الإنسان بدراهم على شخص وينتهي، الصدقة الجارية أن يستمر هذا الإنفاق مثل أن يوقف بيتًا على طلبة العلم، هذا البيت سوف يبقى الانتفاع به ما دام البيت باقيًا، فإذن الصدقة فيه جارية مستمرة كذلك لو أوقف سيارة للحجاج والعمار فالانتفاع بهذه السيارة باقٍ مستمر، فيكون من الصدقة الجارية، أوقف عين ماءٍ لمن يشرب من المسلمين هذه أيضًا صدقة جارية.
الخلاصة الآن: أن الصدقة الجارية كل ما ينفق تقربًا إلى الله سواء كان على الفقراء أو على جهات أخرى والصدقة الجارية قد تكون خاصة، وقد تكون عامة، فالخاصة مثل: أن يقول: هذا البيت وقف على الفقراء من ذريتي هذا خاص للفقراء من الذرية، والعام مثل: أن يقول: هذا البيت وقف على الفقراء من المسلمين، فيشمل كل من افتقر من المسلمين، ومن العام أن
يبني مسجدًا يصلي فيه المسلمون، فإن هذا المسجد سوف يعم من المسلمين الأمم الكثيرة التي قد لا تكون على فكر الذي أوقفه.
"أو علم ينتفع به" يعني: إذا مات الإنسان وانتفع الناس بعلمه بعد موته؛ فإنه يجري له أجره سواء كان ذلك مما ينتفع به في الدنيا، أو مما ينتفع به في الآخرة؛ لأن الذي ينتفع به في الدنيا في أجر، لكن الذي ينتفع به في الآخرة أكثر أجرًا، فإذا خلف الإنسان علومًا شرعية، وانتفع الناس بها عبد موته فهذا علم لا ينقطع، إذا خلف علومًا دنيوية ينتفع الناس به كعلم الخياطة، وعلم البناء، وما أشبه ذلك، فإنه أيضًا له أجره، كما لو زرع الإنسان زرعًا أو غرس غرسًا وانتفع الناس به أكلوا من ثمره فإنه يؤجر عليه، كذلك إذا انتفعوا بعلمه الدنيوي الذي ينفع الناس؛ فإنه يؤجر عليه، لكنه ليس كالأجر على العلم الشرعي الذي ينتفع الناس به في دينهم، أما إذا كان علمًا آخر يضر الناس؛ فإنه لا أجر له فيه، كما لو علم الناس علومًا من الألعاب المحرمة، أو المعازف المحرمة؛ فإن ذلك يكون وزرًا عليه ما دام الناس يأخذون به.
قال: "أو ولد صالح يدعو له": قوله: "ولد صالح" هل هو شرط أو هو لبيان الواقع؟ قال بعض العلماء: إنه شرط؛ لأن غير الصالح لا تستجاب له دعوى، فلا ينتفع به والده، وقيل: إنه لبيان الواقع؛ لأن الغالب أنه لا يدعو للأب إلا الصالح سواء استجيب أو ما استجيب، وغير الصالح ربما يستجاب له، وهذا هو الأقرب أن هذا القيد لبيان الواقع؛ لأن غير الصالح ينسى والده، لكن الصالح هو الذي يذكر والده فيدعو له.
وقوله: "أو ولد" يشمل الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة العربية يشمل الجنسين جميعًا كما قال الله تعالى: {يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. قال: أولادكم، ثم فصل فقال:{للذكر مثل حظ الأنثيين} ، إذن فالولد اسم يشمل الذكور والإناث.
وقوله: "يدعو له" أي: يسأل الله له المغفرة، والرحمة، والجنة، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا من العمل؛ لأنه إذا دعا له بالمغفرة واستجاب الله دعاءه انتفع الولد بغفران الذنوب، وهذا من العمل، والشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"صدقة جارية"؛ لأن الوقف صدقة جارية، فيكون الواقف منتفعًا بوقفه بعد موته.
وفي هذا الحديث فوائد:
أولاً: الحث على العمل الصالح والمبادرة به؛ لقوله: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله"، والإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت؛ فإذا كان لا يدري متى يفجؤه الموت، وقد علم أنه إذا مات انقطع عمله أوجب له ذلك كثرة العمل الصالح، والمبادرة به، وعدم الكسل والتهاون.
ومن فوائد الحديث: فضيلة الصدقة الجارية لقوله: "إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية".
ومن فوائده أيضًا: فضيلة العلم، وأن الإنسان إذا خلف علمًا، وانتفع الناس به بعد موته فهو عمل له يكسب به أجرًا، الغالب أن انتفاع الناس بالعلم أكثر من انتفاعهم بالمال، والدليل على ذلك أنك ترى أهل العلم الذين انتفع الناس بعلمهم سواء انتفعوا بروايتهم أو بتفقههم تجد انتفاع الناس بهم منذ سنوات عديدة، والصدقات الجارية تندثر وتزول، انظر مثلاً: صدقة عمر رضي الله عنه التي تصدق بها في خيبر أين هي؟ تلفت، انظر إلى علم أبي هريرة تجده باقيًا، وكذلك علم عمر فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما رواه تفقهًا، إنما العلم أعظم نفعًا، وأكثر وأعم من الصدقة الجارية.
ومن فوائد الحديث: إثبات مشروعية الوقف، وأن الوقف ليس من الأمور البدعية، بل هو من الأمور المشروعة؛ لأنه داخل في قوله:"صدقة جارية".
ومن فوائد الحديث: الحث على نشر العلم، وأنه ينبغي لطالب العلم أن ينتهز الفرص، وألا يدع فرصة تذهب إلا وهو ناشر لعلمه؛ لأنه كلما انتشر العلم كثر الانتفاع بالعلم، وكلما كثر الانتفاع، كثر الأجر والثواب، فينبغي لك أن تنشر العلم.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشترط أن يكون العلم كثيرًا وافرًا؛ لأن كلمة علم نكرة، والنكرة تدل على الإطلاق، فهو علم بلا قيد، أي علم ينتفع به؛ فإنه ينفعك بعد موتك حتى لو علمت الناس بسنة من السنن الرواتب، أو بسنة مما يفعل أو يقال في الصلاة، وانتفع الناس بها بعد موتك، كان لك أجرها جاريًا كما قلت، وجه الدلالة من الحديث: أنه مطلق "علم ينتفع به" لم يقل: "علم كثير"، فكل علم ينتفع به ولو قل؛ فإنه يكتب للإنسان بعد موته، هل نقول: لو أن الإنسان أوقف شيئًا على طباعة كتب العلم هل يدخل في الصدقة الجارية أو في العلم الذي ينتفع به؟ في الاثنين؛ لأنه صدقة جارية وعلم ينتفع به؛ لأن الإعانة على العلم لها أجر العلم.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يعتني بتربية أولاده على الصلاح؛ لقوله: "أو ولد صالح" ومعلوم أن التربية لها أثر كبير في إصلاح الأولاد، وأنت إذا اتقيت الله تعالى فيهم في التوجيه والأدب اتقوا الله فيك، وإذا أهملت حق الله فيهم فيوشك أن يهملوا حق الله فيك جزاءً وفاقًا، إذن نأخذ من كلمة "ولد صالح" أنه ينبغي - إن لم نقل يجب - أن يعتني بتربية أولاده على الصلاح.
ومن فوائد الحديث: أن الدعاء للميت أفضل من إهداء القرب إليه، يعني: أن تدعو له أفضل من أن تصلي له ركعتين، أو أن تتصدق عنه بدرهمين، أو أن تضحي عنه، أو أن تحج عنه، أو أن تعتمر عنه، فالدعاء أفضل، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو يتحدث عن العمل -: "أو ولد صالح يدعو له" ولم يقل: أو ولد صالح يصلي له أو يتصدق عنه أو يصوم عنه أو ما
أشبه ذلك، ولهذا لم يكن من عهد السلف أن يكثروا التصدق أو العمل للأموات، وإنما حدث هذا في الأزمنة المتأخرة.
فلو سألنا سائل: ما تقولون: أيهما أفضل أن أصوم يومًا لأبي الميت، أو أدعو له؟ قلنا الأفضل أن تدعو له، وصمم لنفسك، وادعوا الله له، ولاسيما عند الفطر، لو سألنا: هل الأفضل أن أعتمر لأبي أو أدعو له؟
قلنا: اعتمر لنفسك وادع الله له في الطواف في السعي، وهذا هو الأحسن، وأنت أيضًا سوف تحتاج للعمل سيمر بك الذي مر على أبيك، فلا توزع عملك على فلان وفلان، واجعل العمل لك وهؤلاء ادع الله لهم.
ومن فوائد الحديث: أن الأولاد غير الصالحين لا يؤمل فيه الخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد ذلك بالولد الصالح؛ فالولد غير الصالح لا يؤمل في الخير، وهذا هو الغالب أن الولد غير الصالح يكون نكدًا على أبيه وعلى أهله، ولكن مع ذلك ينبغي للإنسان إذا وهب الله له ولدًا غير صالح أن يحرص على إصلاحه، وأن يلح على الله بالدعاء في أن يصلحه، وألا ييأس من روح الله، فكثيرًا ما يصلح الولد بعد أن كان فاسدًا، لا يقول: والله عجزت، وهذا لا ينصلح حاله، هذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري كم أناس صلحوا بعد أن كانوا فساقًا!
886 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «أصاب عمر رضي الله عنه أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخير لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه. فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر رضي الله عنه: أنه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقًا غير متمولٍ مالاً» . متفق عليه، واللفظ لمسلمٍ. وفي روايةٍ للبخاري:«تصدق بأصلها، لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره» .
"خيبر": هي حصون ومزارع لليهود تبعد عن المدينة نحو مائة ميل في الشمال الغربي افتتحها النبي صلى الله عليه وسلم قسم منها ما قسم على الصحابة، وأصاب عمر أرضًا من خيبر فلما أصابها أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، يعني: يأخذ أمره ومشورته فيهان فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب .. الخ، أصبت: يعني: حصلت على أرض، وقوله:"لم أصب مالاً" المال: اسم لكل ما يتمول من أعيان ومنافع وحقوق، أعيان مثل الدور والأراضي، والمنافع كمنافع
الأشياء التي استأجرها فإن الإنسان إذا استأجر بيتًا أو استأجر سيارة يملك منافعها أو حقوقًا كحق الشفعة مثلاً، فالمال شامل لهذا كله، وقوله:"قط" هذه ظرف لما مضى وهو مبني على الضم في محل نصب، وتأتي غالبًا بعد النفي، فيقال: ما ملكته قط، وهنا قال:"لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه" أنفس بمعنى: أغلى وأحب، والمال النفيس هو: المال الذي كون محبوبًا عند الناس وغالبًا في نفوسهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مشيرًا عليه:«إن شئت حبست أصلها» ، ولم يقل: أحبس أصلها، لئلا يظن عمر رضي الله عنه أن هذا على سبيل الوجوب، بل قال له:«إن شئت حبست أصلها» يعني: وقفته «لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدقت بها» أي: بثمرها، كما جاء رواية أخرى؛ لأنه لا يمكن أن يكون المراد تصدقت بالأصل؛ لأن قوله:"حبست أصلها" لا يتطابق مع قوله: "تصدقت"؛ لأن التصدق ينافي الحبس أو التحبيس، ولهذا نقول! تصدقت بها أي: بثمرها كما جاء مفسرًا في رواية أخرى، قال: فتصدق بها عمر، أي بالثمر، قال: أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب؛ لأن هذا هو معنى الحبس، لا يباع الأصل، ولا يوهب، ولا يورث، والفرق بين البيع والهبة: ظاهر البيع عقد معاوضة، يعني: أنك تعطي الشيء وتأخذ بدله، مثل أن أقول: بعت عليك هذه السيارة بعشرة آلاف، هذا عقد معاوضة، أما الهبة فهي عقد تبرع، بمعنى: أن تبذل المال ولا تأخذ عوضًا عنه، قال:"ولا يورث"، يعني: الأصل لا يورث والإرث: انتقال التركة من الميت إلى من يرثه، وعلى هذا فلا تدخل هذه الأرض في ملك عمر الذي يرثه من بعده ورثته.
"فتصدق بها في الفقراء": هذا بيان لمصارف الوقف الذي وقفه عمر، ويدخل في هذا المساكين، وهم الذين لا يجدون الكفاية، وكذلك يدخل فيه المغارمون، وهم الذين لا يجدون ما يوفون به ديونهم.
والثاني: "ذي القربى": أختلف شراح الحديث في المراد بها، فقيل المراد: قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد: قربى عمر، وهذا هو الصحيح.
"وفي الرقاب"، يعني: العبيد يشترون من مغلة هذا الوقف ويعتقون أو عبيد مكاتبون، والعبد المكاتب هو: الذي اشترى نفسه من سيده بثمن مؤجلٍ، فهنا نعطيهم من حق الرقاب ما يوفون به كتابتهم. إذن الرقاب يشمل العبيد والمكاتبين، العبيد بمعنى: أن نشتري عبيدًا فنعتهم، والمكاتبين هم: الذين اشتروا أنفسهم من سادتهم، فنعطيهم معونة تفي بدين الكتاب، ويدخل في ذلك فك الأسرى المسلمين من الكفار، يعني: لو أن الكفار أسروا أحدًا من المسلمين، وأعطيناه من هذا المال الذي تصدق به عمر لكان هذا صحيحًا كما نعطيهم من الزكاة.
الرابع قال: "وفي سبيل الله": المراد الجهاد في سبيل الله، سواء أعطى المجاهدين أو صرف في السلاح والمركوب.
الخامس قال: "وابن السبيل": هو المسافر الذي انقطع به السفر، ولو كان غنيًا في بلده، مثال ذلك رجل من أهل المنطقة الشرقية سافر إلى الحج ونفدت نفقته، وهو غني في بلده، واحتاج إلى نفقة توصله إلى المنطقة الشرقية، فهذا من أبناء السبيل، نعطيه حتى من الزكاة؛ لأنه الآن محتاج فيعطى.
السادس: "الضيف"، يعني: الذي ينزل ضيفًا على عمر أو على آل عمر، فإنه يستحق من هذا الوقف، فصارت المصارف الآن التي وجه عمر وقفه إليها ستة اختارها رضي الله عنه، ولم يجعل الوقف على أولاده أو ذريته فيحصره فيهم، ويكون كأنه لم يخرجه عن الورثة، بل جعله عامًا في كل ما يقرب إلى الله.
ثم قال: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف» : لا جناح يعني: لا إثم ولا حرج، "على من وليها": أي ولي الأرض التي تصدق بها وحبس أصلها، وقوله:"على من وليها": هنا لم يبين في هذه الرواية من الذي جعله عمر واليًا عليها، لكنه بين في رواية أخرى بأنه جعل الولي عليها ابنته حفصة وذوي الرأي من أهله، يقول: أن يأكل منها بالمعروف، يأكل من الثمرة، أما الأرض فهي واقفة لا يمكن أن تباع، وقوله:"بالمعروف": أي بما جرى به العرف، ولكن هل المراد بما جرى به العرف من نفقة أو بما جرى به العرف من أجرة؟ اختلف في ذلك شراح الحديث، فقيل: المراد بما جرى به العرف من أجرة، وقيل: المراد بما جرى به العرف من نفقة، والقولان يختلفان، فإذا قلنا: بما جرى به العرف من النفقة فإنه يأكل مقدار نفقته، ولو زادت على أجرته، لو فرضنا أنه لو استأجر ناظرًا على هذا الوقف بمائة درهم في الشهر، ولكن النفقة لا يكفيه إلا مئتان صارت النفقة أكثر، فإذا قلنا: المراد بالمعروف أي بالأجرة المعروفة، قلنا: لا تأخذ أكثر من مائة درهم، وإذا قلنا: إن المراد بالمعروف يعني: النفقة بالمعروف قلنا لك: أن تأخذ مائتي درهم، بالعكس لو كانت الأجرة مائتي والنفقة مائة انعكست الأحكام، فنقول: إذا قلنا بأن المراد بالمعروف الأجرة فله أن يأخذ مائتين، وإذا قلنا: الإنفاق، فلا يأخذ إلا مائة، والأقرب أننا نقول: إن كان فقيرًا فيأخذ المعروف من النفقة، وإن غنيًا فإنه يأخذ المعروف من الأجرة؛ لأنه ليس له حاجة في الزائدة، وهذا عمل معروف كل شهر بمائة، فلا يأخذ أكثر من مائة.
يقول: "وبطعم صديقًا" يعني: ولا حرج عليه أن يطعم صديقًا أي الولي يعني: إن كان له صديق يخرج معه في آخر كل نهار وفي البستان عنب وتين، وجلس معه هل نقول إنك تأكل أنت أيها الولي وصديقك الذي معك لا يأكل؟ ! عمر يقول: لا بأس أن يطعم صديقًا لكن غير
متمول مالاً يعني: لا يأكل يقصد التمول من الأصل، بمعنى لا يبيع شيئًا منها من أجل أن يتموله، وكذلك لا يطعم الصديق من أجل التمول، يعني: يقيد عليه بحساب إذا أطعمه كيلو عنب قيده عليه في هذه الحال يكون متمولاً، وهو اشترط ألا يكون متمولاً مالاً.
ثم قال: وفي رواية للبخاري: «تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب ولكن ينفق ثمره» ، المراد بأصلها: أصل الأرض، ويشمل ما فيها من الأشجار والنخيل، يقول:"لا يباع ولا يوهب"، هذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، والبيع هو: المعارضة يعني: يبدل بغيره على سبيل البيع، ولا يوهب، يعني: إعطائه تبرعًا بدون مقابل، ولكن ينفق ثمره، وإذا أنفق الثمر فإن المنفق عليه يتصرف فيه كما شاء لأنه ملكه، فالثمر إذن يملك ويباع ويوهب، ولكن الأصل لا يباع ولا يوهب يبقى ثابتًا محبسًا.
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة:
أولاً: فيه دليل على أن خيبر ملكها المسلمون، وجه ذلك أن إثبات الوقفية دليل على ثبوت أصل لملك؛ لأنه لا يمكن أن يوقف أحد شيئًا لا يملكه.
ومن فوائده: استشارة أهل العلم والفضل فيما يقوم به الإنسان من تصرف؛ لأن عمر استشار النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مقيد فيما إذا خفي على الإنسان كيف يتصرف، وأما إذا كان وجه الصواب معلومًا ووجه المصلحة معلومًا فلا حاجة إلى الاستشارة؛ لأن الاستشارة للخلق كالاستخارة للخالق عز وجل والاستخارة لا تكون إلا في الأمر الذي ينبهم على المرء ولا يدري ما عاقبته ولا مصلحته؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستخير الله في كل شيء، لكن هل تقدم الاستشارة على الاستخارة أو العكس؟ من العلماء من قال: استخر ثم استشر من أجل أن تكون الاستشارة إذا أشير عليك برأي صار هذا دليلاً على أن الله اختار لك هذا الرأي، ومنهم من قال: ابدأ بالاستشارة، والصحيح البدء بالاستخارة أولاً؛ لأنه إذا التبس الأمر عليك وأنت صاحب الشأن فإن غيرك سوف يكون مثلك ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستخارة إذا هم الإنسان بالأمر وأشكل عليه ولم يأمر بالاستشارة.
إذن في الحديث مشروعية استشارة أهل العلم والفضل.
ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث إنه لجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه من أثقب الناس رأيًا وأصحهم فهمًا حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن بك فيكم محدثون - يعني ملهمون - فعمر» وكان مشهورًا رضي الله عنه في إصابة الصواب ومع ذلك رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: اتهام الرأي الإنسان لا يعجب برأيه، بل يتهم رأيه فهذا هو الذي أمر به عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس اتهموا الرأي ثم استشهد بذلك بما جرى منه في صلح الحديبية حيث عارض النبي صلى الله عليه وسلم في الشروط التي اشترطها على نفسه مع الكفار؛ لأن عمر في صلح الحديبية تأثر من الشروط وناظر الرسول صلى الله عليه وسلم وناقشه قال له: ألست كنت تحدثنا أننا نطوف بالبيت؟ قال: بلى ولكن هل قلت: أنك تطوف به هذه السنة؟ قال: لا قال: إنك آتيه ومطوف به وقال له: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: لم نعطي الدنية في ديننا؟ لماذا نقول: من جاء منكم مسلمًا رددناه إليكم ومن جاءكم منًا فلا تردوه علينا؟ وهذا فيه غضاضة في ظاهره فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما من جاءنا منهم مسلمًا ورددناه فإن الله سيجعل له فرجًا ومخرجًا، وأما من ذهب منا إليهم فهو الذي اختار لنفسه هذا» هذا معنى الكلام في الجملة الأخيرة، ثم قال له:«إني رسول الله وليست عاصيه وهو ناصري» ، ثم ذهب عمر إلى أبي بكر وناقشه في ذلك، فكان جواب أبي بكر كجواب النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء، الآن كان عمر عند المناقشة يرى أن رأيه أصوب، ولكن كان ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم هو الصواب، فالمهم: أنه ينبغي للإنسان أن يتهم رأيه مهما كان من الذكاء والفطنة فهو ناقص.
ففيه: فضيلة عمر في استشارته النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضًا: منقبة لعمر، حيث اختار أن يخرج أنفس ماله لله عز وجل لقوله:«لم أصب مالاً هو أنفس عندي منه» وهكذا كانت عادة الصحابة رضي الله عنهم إذا رأوا المال الذي يعجبهم تصدقوا به ويتأولون قول الله عز وجل: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]. وأبو طلحة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية كان له بستان قريب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيه ماء طيب عذب يأتيه الرسول صلى الله عليه وسلم ويشرب منه ولما نزلت هذه الآية وإذا أحب ماله إليه هذا البستان ببرحاء فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل قوله:{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} . وإن أحب مالي إلي ببرحاء وإني أخرجه صدقة إلى الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح» صحيح هذا الربح ليس الربح أن تنمي مالك لوارثك ثم قال: أرى أن تجعلها في الأقربين فأوقفها أبو طلحة في قرابته وبني عمه وهكذا عمر رضي الله عنه هذا المال أنفس ماله عنده ومع ذلك استشار النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعه.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان أن تتعلق نفسه بشيء من ماله لأن أنفس يعني:
أطيب وأغلى، وهو مأخوذ من النفس بأن النفس تتعلق به، فإذا تعلقت نفسك بالمال فهذا من طبيعة الإنسان، ولولا طبيعة الإنسان وتعلق نفسه بالمال ما كان للإنفاق فائدة، لأن إنفاق ما ليس بمحبوب أمر سهل، لكن الحقيقة أن المحك هو أن تنفق شيئًا محبوبًا لك فحب الإنسان للمال أمر طبيعي لا يلام، عليه وإذا أدي ما أوجب الله عليه فيه فقد سلم منه.
ومن فوائد الحديث: حسن تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم لأن قول عمر: مرني ماذا أفعل بها؟ لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم تابعه على تعبيره وقال: أفعل كذا لكان ذلك على سبيل الوجوب لكنه خرج من ذلك بقوله: «إن شئت حبست أصله» لئلا يلتزم عمر بما لا يلزمه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: ثبوت هذا النوع من التصرف وهو حبس الأصل وتسبيل المنفعة ويسمى عند العلماء: الوقف لأن هذا تصريف غريب، العادة أن الإنسان يتصرف في الشيء يخرجه من ملكه، لكن هذا لم يخرج من الملك على سبيل الإطلاق، بل خرج خروجًا مقيدًا لأن أصله ثابت، ولكن ثمرته غير ثابتة يستغلها من هي له استغلالاً كاملاً ويملكها ملكًا مطلقً،
ومن فوائد هذا الحديث: جواز تحبيس الإنسان ماله وإن لم يملك سواه يعني: يجوز للإنسان أن يوقف جميع أملاكه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل لم يقل لعمر: هل لك مال غيره؟ فلما لم يستفصل علم أن الحكم عام، ومن القواعد المقررة في الأصول أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقام، ولكن يستثى من ذلك ما إذا كان الإنسان في مرض الموت المخوف، فإنه لا يملك أكثر من الثلث، ودليل ذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بثلثي ماله منعه فقال: بالشطر فمنعه، فقال: بالثلث فقال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس" فهذا دليل على أن الإنسان المريض مرض الموت المخوف لا يملك أكثر من الثلث.
ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى أن الوقف مبني على البر؛ لقوله: "تصدق" والصدقة بذل المال تقربًا إلى الله عز وجل وعلى هذا فلو وقف على جهة إثم فإن الوقف يقع باطلاً لو وقف بيته لأصحاب الأغاني والمعازف فالوقف باطل؛ لماذا؟ لأنه ليس على جهة بر بل هو جهة محرمة، لو وقف بيته على الأغنياء لم يصح؛ لأن الأغنياء ليسوا أهلاً للصدقة، لو وقفه على القرابة وفيهم أغنياء صح لأن صلة القرابة بر وعبادة، لو وقف هذا الماء على المارين بالشارع صح، ولو مر في الشارع كفار لا يضر لأنهم يأتون تبعًا؛ ولهذا لو وقف على أهل الذمة فقط ما صح؛ لأن أهل الذمة كفار لكن إذا وقف وقفًا عامً على المار به في الشارع فلا بأس.
المهم أن نأخذ من هذا الحديث: أن أصل الوقف مبني على البر على أن يكون طاعة الله، فإذا كان على إثم أو على شيء لا إثم فيه ولا بر فإنه لا يصح، إلا إذا كان على معين فإنه يصح فيما هو على بر وفيما ليس على بر ولا إثم، فلو وقف على بيت وهو غني فهذا صحيح؛ لأنه ليس على جهة عامة.
من فوائد الحديث: أنه لا يباع الوقف لقوله: "ولا يباع" كما قال الرسول صلى الله عليه، فلا يجوز بيع الوقف ولأننا لو أجزنا بيع الوقف لفات معنى التحبيس، لكن هل تجوز المناقلة به يعني: أنه لو وقف بيتًا هل يجوز أن يناقل فيبدله ببيت آخر؟ لا يجوز لأن المبادلة أو المناقلة بيع، البيع هو: مبادلة مال بمال. فإذن لو بدل هذا الوقف ببيت آخر فإنه لا يجوز، حتى ولو كان هو الواقف فلو أنه أوقف بستانه الشرقي لم بدا له أن ينقل الوقف إلى البستان الغربي فهذا لا يجوز؛ لأنه معاوضة وإن كان هو نفس الذي يعواض لكن ما دام أخرجه لله لا يرجع فيه إلا إذا دعت الضرورة إلى بيعه مثل أن تتعطل منافعه كمسجدٍ بناه لله وانتقل أهل الحي أو أهل البلدة كلهم، انتقلوا فهنا بيعه جائز لماذا؟ للضرورة لأن منافعة تعطلت وكذلك لو وقف بيتًا وانهدم البيت وليس له ما يعمره به ففي هذه الحال يجوز أن يبيعه للضرورة؛ لأن منافعة المقصودة بالوقف تعطلت، واختلف أهل العلم هل تجوز المناقلة به للمصلحة والمنفعة يعني: أن ينقله لما هو أنفع وأصلح؟ فمن أهل العلم من أجاز ذلك، ومنهم من منع ذلك قال: إن حديث عمر يقول: "لا يباع"، وليس فيه استثناء هذا دليل، قالوا: ولأننا لو أجزنا البيع للمصلحة أو المناقلة للمصلحة لحصل في ذلك تلاعب من ناظر الأوقاف، إذ كل واحد يتراءى له أن المصلحة في نقله ينقله فتمنع المناقلة سدًا للباب، كما فعل مالك رحمه الله حين استأذنه الرشيد الخليفة العباسي المعروف أن يهدم الكعبة ويردها على قواعد إبراهيم قال له: لا، لا تفعل، لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، كلما جاء إنسان من الملوك قال: أغير فيه. مع أن المصلحة: إن عموم حديث عمر ليس فيه استثناء والتعليل سدًا للباب لئلا يتلاعب ناظر الأوقاف فيها، يكون كل واحد منهم يقول: المصلحة في هذا فيناقل، أما من أجاز المناقلة للمصلحة فاستدلوا بأدلة عامة وأدلة خاصة تصح أن يقاس عليها، أما الأدلة العامة فقالوا: إن الشارع ينظر دائمًا إلى المصلحة فيما كان أصلح فإن الشارع لا يمنع؛ لأن أصل الشريعة كلها مبني على المصالح وعلى تحصيلها، وتقليل المفاسد، فإذا كانت المصلحة متعينة فهو داخل في هذا الإطار العام للشريعة، أما
الدليل الخاص فهو ثابت في الصحيح في قصة الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلى في بيت المقدس فقال: صل هاهنا فأعاد عليه، فقال: صل ها هنا فأعاد عليه الثالثة فقال له: شأنك إذن» ، وهذا لا شك أنه تغيير للنذر، لكنه تحويل له من مفضول إلى أفضل قالوا: فإذا جاز تحويل النذر من المفضول إلى الأفضل فالوقف مثله؛ لأن الوقف التزام من الإنسان بأن يصرف المال إلى هذه الجهة فإذا جاز تحويل النذر إلى ما هو أفضل فكذلك تحويل الوقف، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم وهو الصحيح، لكن يجب أن يقيد هذا بمراجعة القضاء - والمحاكم الشرعية - لئلا يتلاعب ناظر الأوقاف، فلابد من مراجعة المحاكم وإذا أقرت المحكمة هذا فلا حرج.
ومن فوائد الحديث: أنه لا تجوز هبة الوقف يعني: بدله تبرعًا بدون عوض لقوله: «ولا يوهب» حتى الواهب لا يجوز أن يهبه للموقوف عليه لأنه لو وهبه للموقوف عليه لملك عينه وجاز له أن يتصرف فيه، ولكنه يعطيه الموقوف عليه على أنه وقف لا على أنه هبة.
ومن فوائد الحديث: أن الهبة غير البيع، وجه ذلك: أنها عطفت على البيع، والأصل في العطف المغايرة؛ يعني: المعطوف غير المعطوف عليه، والغرض من هذا أننا إذا قلنا: إن الهبة ليست بيعًا فإنها لا توافق البيع في أحكامه يكون لها أحكام خاصة، فلو وهب الإنسان شيئًا بعد أذان الجمعة الثاني وهو ممن تلزمه الجمعة فالهبة صحيحة، ولو وهب شيئًا في المسجد فالهبة صحيحة ولو وهب شيئًا مجولاً فالهبة صحيحة، فالمهم أننا إذا قلنا: إن الهبة غير البيع صارت مفارقة له في أحكامه وهو كذلك.
ومن فوائد الحديث: حسن اختيار عمر رضي الله عنه في تصريف الوقف حيث وقفه على وجهات ينتفع بها المسلمون عمومًا، الفقراء، القربى، الرقاب، سبيل الله، ابن السبيل، الضيف، وإذا قارنا بين وقف عمر وأوقاف الناس اليوم تبين الفرق العظيم؛ أوقاف الناس اليوم يخصونا بالذرية ثم مع تخصيصهم إياها بالذرية يحصل بهذا من النزاع بين الذرية لصلب الواقف وبين ذرية الذرية ما يوجب أن تتقطع الأرحام بينهم وتحصل الشحناء والعداوة كما هو واقع فإنه يحصل بين العم في أوقاف جدهم مثلاً من النزاع والشحناء والعداوة ما يوجب التقاطع بينهم، فربما ينال الموقف من هذه العداوة والبغضاء شيء من الإثم لأنه السبب، وقد حكى لي بعض الناس أن بني عم تخاصموا في وقف لهم فقال أحدهم: لعنة الله على جد جمعنا في هذا الوقف! انظر كيف وصل به الأمر؟ لأنه أحس بشيء عجز أن يتحمله من العداوة والبغضاء والخصومات، لكن وقف عمر بعيد من هذا الذي يوجب النزاع.
ومن فوائد الحديث: فضيلة الصرف في هذه الجهات، أما الفقراء فظاهر، والقربى كذلك ظاهر؛ لأن الصرف في القربى من باب صلة الرحم وصلة الرحم من أفضل الأعمال حتى إن الله سبحانه وتعالى تكفل للرحم أن يصل من وصلها ويقطع من قطعها، وأما الرقاب فالفضل فيها ظاهر؛ لأن الشرع حث على العتق ورغب ورغب فيه، حتى إن من أعتق عبدًا من العبيد أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار ممن أعتقه، وهذا فضل عظيم، وأما سبيل الله فظاهر، الجهاد في سبيل الله ذروة الإسلام، ويشمل الجاهد بالقتال وبالعلم كل هذا داخل في سبيل الله، وأما ابن السبيل فالصرف فيهم ظاهر أيضًا ما هي الفائدة في الصرف في ابن السبيل؟ لأن ابن السبيل فالصرف فيهم ظاهر أيضًا ما هي الفائدة في الصرف في ابن السبيل؟ لأن ابن السبيل يكون منقطعًا ليس معه شيء يوصله إلى البلدة، انقطع به السفر فهو في ضرورة إلى ما يوصله إلى بلدة، وأما الضيف فالصرف فيه ظاهر؛ لأن الضيف مسافر نزل بك يحتاج إلى عناية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . وكثير من الناس قد يخجل من أنه يبقى في السوق من مر مد يده إليه وقال: أعطني فإذا نزل الضيف على ناظر الوقف الذي أوقفه عمر كفاه المؤونة، والعلماء اختلفوا في وجوب الضيافة في المدة التي فيها مطاعم وفنادق هل تجب أو لا تجب؟ فمن العلماء من قال: لا تجب لأن الضيف غير مضطر، ومنهم من قال: بل تجب وهو ظاهر النصوص أن الضيافة تجب إذا نزل بك الضيف وإن كان يوجب مطاعم أو فنادق، وقوله:«ولا يورث» فالمعنى: أن أصل الموقوف لا يورث أي: لا ينتقل بالإرث.
فيستفاد منه: انه لا يجري فيه الميراث؛ لأن الموقوف عليه يتلقى الوقف من الواقف، فإذا وقف شخص بيته على أولاده وكانوا ثلاثة ومات الرجل أو بقي حيًا، فإن أولاده يستحقون هذا البيت أثلاثًا، فإذا مات أحدهم عن أولاده فإن الولدين الباقيين يستحقان البيت أنصافًا فإذا مات أحدهما فإن البيت يستحقه الباقي وحده أما ورثة الأول وورثة الثاني فلا ينتقل إليهم نصيب آبائهم؛ لأن الوقف لا يورث، ولو قلنا: إنه يورث لكان الميت الأول إذا مات يستحق ورثته نصيبه فيشاركون أخويه، وكذلك الثاني لكن الوقف لا يورث، ولو قلنا: إنه يورث لكان الميت الأول إذا مات يستحق ورثته نصيبه فيشاركون أخويه، وكذلك الثاني لكن الوقف لا يورث ينتقل من الواقف رأسًا إلى الموقوف عليه إذن الوقف لا يورث.
ومن فوائد الحديث: بعد نظر عمر رضي الله عنه حيث جعل الوقف مشاعًا بين هؤلاء الأصناف الستة وهل هؤلاء الأصناف الستة، يعتبر المصرف جميعهم أو مجموعهم؟ يعني: هل هو المجموع أو الجميع؟ الجميع معناه: أننا نوزع الثمر على جميع الأصناف الستة، والمجوع أن يكون المصرف هؤلاء وإذا اقتصرنا على واحد جاز، فهل المراد أن يصرف للجميع أو للمجموع؟ نقول: لا شك أنه إذا لم يوجد بعضهم فإنه يتوفر الثمر للباقي؛ لأن الاشتراك هنا
اشتراك تزاحم، فإذا قدر أن الواقف ليس له قريب، أو لم يوجد ضيف فإن نصيب هذا المفقود يكون للموجود بلا إشكال، إذا وجد الجميع فهل يوزع الثمر بينهم أو يكتفي بواحد منهم؟ بناء على أن الصرف يكون في المجموع لا في الجميع هذا ينبني على الخلاف في أصناف الزكاة المذكورين في قوله:{إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة: 60]. فهؤلاء الأصناف الثمانية اختلف أهل العلم هل يجب استيعابهم أو لا؟ فمنهم من قال: يجب استيعابهم، وأن الزكاة تجزأ إلى ثمانية أسهم لكل واحدٍ سهم، ثم منهم أيضًا من قال: إن ما ذكر بصيغة الجمع يجب أن يعطى جمعًا فنعطي من الفقراء ثلاثةً والمساكين ثلاثةً والعاملين عليها ثلاثة والمؤلفة قلوبهم ثلاثةً وفي الرقاب ثلاثةً والغارمين ثلاثةً وفي سبيل الله ثلاثةً أو واحد ممكن، نقول: هذه ليس فيها جمع وابن السبيل واحد، لكن الصحيح أن آية الزكاة تصرف في المجموع أي: أن هؤلاء الثمانية جهة الاستحقاق وأنه لا يجب توزيع الزكاة على الثمانية؛ والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذًا إلى اليمن قال «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» . فاقتصر على صنف واحد فهل نقول: إن مثل هذا الذي ذكر عمر ينبني على الزكاة؟ نقول هذا هو الظاهر والفقهاء رحمهم الله ذكروا في هذه المسألة أنه إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي، وإن كان لا يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي، وإن كان لا يمكن حصرهم جاز التفصيل والاقتصار على واحد منهم، فهنا لا يمكن حصر هؤلاء، فيجوز أن نقتصر على صنف واحد إلا إذا علمنا أن مراد الواقف التوزيع على الجهات فيجب اتباع ما أراده الواقف.
ومن فوائد الحديث: ثبوت أصل الولي في الوقف وأنه لابد أن يكون له ولي؛ لقوله: «لا جناح على من وليها» ولأنه لو لم يوجد ولي للوقف لضاع وتلف؛ ولأنه لو لم يوجد للوقف لضاع تنفيذه وصار ملعبة للناس. فإذن فلابد للوقف من ولي يليه ويسمى عند الفقهاء الناظر، ناظر الوقف، وولي الوصية يسمى وصياً، والمأذون له بالتصرف في حال الحياة يسمى وكيلاً، والمأذون له من قبل الشرع يسمى وليًا، فالولي من ولاه الشرع كولي اليتيم، وولي المرأة في النكاح الوصي من أوصى إليه بعد الموت كشخص قال: يفرق ثلثي في سبيل الله والوصي عليه فلان، والناظر من وكل إليه شأن الوقف، والوكيل من أذن له في التصرف في حال الحياة، كرجل قال الشخص: خذ هذا وبعه لي أخذ هذه الدراهم اشتر لي كذا وكذا، المهم أن هذا الحديث فيه الإشارة إلى أنه لابد للوقف من ولي، فمن الذي يليه؟ نقول: يليه من عينه الواقف فإذا عين الواقف شخصًا تعين، وليس لأحد أن يعترض عليه، وقد عين عمر رضي الله عنه على وقفه ابنته حفصة، ثم ذوي الرأي من أهلها، فإن لم يعين ناظرًا فمن الناظر؟ الموقوف عليهم إن
كانوا محصورين مثل الذرية، إذا قال: وقف على أولادي أو ذريتي فهؤلاء معينون محصورون، فيكونون هم نظار، وعلى هذا فإذا كان الموقوف عليهم عشرة فيكون الناظرون عشرة؛ لأنهم محصورون، وإن كان الوقف على جهة أو على قوم غير محصورين فالناظر القاضي، مثال الذي على الجهة: أن يقول هذا وقف على المساجد، مثال الذي على قوم لا يحصرون هذا الوقف على الفقراء فالناظر هنا القاضي، الآن نبدأ أولاً بما عينه الواقف، فإن لم يعين فالموقوف عليهم إذا كانوا معينين محصورين فإن لم يكن كذلك- بأن كان الوقف على جهة أو على قوم غير محصورين- فالناظر هو القاضي.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للواقف أن يشترط للناظر شرطاً لقوله: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف» وهل يجوز أن يشترط في الناظر شرطاً بأن يقول: لا يتولى وقفي هذا إلا طالب علم؟ يجوز، إذا نقول: يجوز للوقف أن يشترط للناظر شرطاً، فإن لم يشترط له شرطاً فماذا نصنع؟ إذا قال الناظر: فلان على الوقف ولم يجعل له أجرة لا أجرة لا أكلاً بمعروف ولا جزءاً مشاعاً من الثمرة ولا شيئاً مقدراً في كل شهر لم يجعل شيئاً فهل للناظر أن يطلب شيئاً على نظره؟ الجواب: نعم، له أن يطلبه، له أن يقول: أنا لا أنظر على هذا الوقف إلا بأجرة إما كل شهر بكذا وإما بشيء مشاع من الثمرة كالربع والخمس والعشر وما أشبه ذلك، وإلا فالأكل، قال: أنا فقير إذا فرغت نفسي للنظر في هذا الوقف فأنا أشترط أن أنفق منه على نفسي وأهلي فلا بأس فإن أبى أهل الوقف وقالوا: لا نعطيك أجرة ولا سهماً مشاعاً ولا أكلاً بمعروف فله أن يرفض النظر، ولكن في هذه الحالة إذا تخلى يجب أن يبلغ القاضي ولا يتركه هكذا؛ لأن مستحقو الوقف ربما يتلاعبون به إذا لم يكن له ناظر، فلا بد أن يبلغ القاضي؛ لأن القاضي له النظر العام على مصالح المسلمين.
من فوائد الحديث: جواز الرجوع إلى العرف لقوله: "بالمعروف" وهذا في الأمور الجائزة كالنظر والوكالة وما أشبه ذلك لا شك في جوازه، لكن في الأمور اللازمة كالإجارة التي تكون عقداً ملزماً للطرفين، هل يجوز أن يرجع فيها إلى العرف؟ الصحيح الجواز، إذا استأجر شخصاً وقال: كم أجرتك؟ قال: مثل الناس، فالصواب أن هذا جائز ولا بأس به، وهل يتعدى ذلك إلى المعاوضة بالبيع بمعنى: أن يقول البائع أو المشتري: آخذه كما يبيع الناس هل يجوز؟ الصحيح أنه يجوز؛ لأن العرف مطرد، وأقرب إلى عدم الغبن، فبيع المساومة قد يكون فيه غبن، لكن بيع العرف بلا شك أقل غبنا من المساومة؛ لأن المساومة إذا جئت لصاحب الدكان وقلت: بع علي هذا الكتاب، فقال: الكتاب بكم؟ أنا غريب لا أعرف قيمة هذا الكتاب، فقلت: بعشرة وهو يساوي خمسة بالمكتبات، لكن من أجل أن الكتاب غال عندي ولا أعرف الثمن
قلت بعشرة، قال: لا زد
…
إنه رجل عفريت! فقال: زد، فقلت بخمس عشرة، فقال: زد فقلت: بعشرين فيكون ذلك غبناً وحراماً، لكن إذا قال: كم تدفع في الكتاب؟ فقلت بما يساوي في المكتبات فذهبنا وسألنا في المكتبات ولاسيما العمد فهنا لا شك أنه أقل خطراً في مسألة الغبن؛ ولهذا كان شيخ الإسلام-رحمه الله يرى أنه يجوز أن يبيع الإنسان بالعرف، أي: أن يبيع كما يبيع الناس، وذكر لهذا أصولاً كثيرة، أليس مهر المثل ثابتاً شرعاً؟ ومهر المثل معناه: الرجوع إلى ما يتعارف الناس في مهر هذه المرأة.
على كل حال: نحن نرى أنه يجوز أن توكل أجرة الوقف إلى العرف.
من فوائد الحديث: جواز إطعام الصديق، إذا شرطه الواقف فقال: لا جناح على من تولى هذا الوقف أن يطعم صديقه، وهنا يوجد إبهام لأن الأصدقاء قد يكثرون قد يكون هذا الرجل محبوباً عند الناس وكل الناس أصدقاء له، وقد يكون رجلاً غير محبوب ولا يجد صديقاً فنقول: هذا لا يضركما أن الضيف قد يكثر وقد يقل هذا لا يضر.
ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى حق الضيق على أهل البلد، ووجهه: أن عمر جعل للضيف في هذا الوقف حقاً.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يشترط في الموقف أن يتبين حدوده إذا كان معلوماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعمر: هل حددت؟ وكم متراً هو؟ فإذا كان الشيء معروفاً فلا حاجة إلى بيان مقداره بالأمتار؛ ولهذا كانت مكاتب الأولين يقول: باع فلان على فلان بيته في الحي الفلاني شهرته تغني عن تحديده ويصدق القضاة على هذا ويعتبرونه بيعاً صحيحاً لأنه مشهور، لكن لما تغير الناس وكثر الباطل صار القضاة اليوم يحافظون محافظة تامة على ذكر الحدود والمقدار بالأمتار، ولاشك أن هذا أضبط وأقطع للنزاع؛ لأن هذه البيوت لو فرضنا أنها تهدمت لاشتبك الناس بعضهم مع بعض كل واحد يقول: أنت دخلت على أرضي؛ فإذا كانت محددة بالجيرة والأمتار صارت منحصرة وصار هذا أسلم للنزاع فعمل القضاة اليوم لاشك أنه أضبط وأبلغ وأقطع للنزاع، فلا حرج من العمل به، ولا يقال: إن هذا من باب التنطع؛ لأننا نقول: لما أحدث الناس أحدث الله عليهم كما تكونون يولى عليكم.
ومن فوائد الحديث: أن الموقوف لا يوهب كيف ذلك؟ يعني: أن الموقوف عليه لو أراد أن يهب الوقف لشخص فإنه لا يملك هذا؛ لأن الهبة: التبرع بالعين ومنافعها والوقف لا يمكن أن يتبرع الإنسان بعينه؛ لأن الهبة تنقل الملك من الوقفية إلى الملك المطلق الذي غير موقوف، وهذا لا يجوز، وبناء على ذلك لو كان عند الإنسان كتاب موقوف وأراد أن يهبه لصديق له نقول: هذا حرام لا يجوز، وإذا استغنى عنه وقال: أنا أعطيه صديقي فهل له أن يستغنى عنه أو لا؟ يتنازل عن حقه له ولهذا نقول: ليست هبة؛ لأنها لو كانت هبة لجاز للثاني أن يبيعه ولورث عند الثاني ولهذا نقول.
من فوائد الحديث: أن الوقف لا يصح إلا من مالك، فلو أن شخصاً قال: هذا البيت وقف في سبيل الله ثم ذهب واشتراه من صاحبه فهل يكون وقفاً أو لا؟ لا لماذا؟ لأنه وقفه قبل ملكه والحديث يقول «أصاب عمر أرضاً بخيبر» أصابها يعني: ملكها فلا وقف إلا بعد الملك، لو قال: إن ملكت هذا البيت فهو وقف فملكه هل يكون وقفاً؟ نعم يكون وقفاً لأنه يجوز شراء الأرض للتقرب بها إلى الله فإذا علق التقرب بها إلى الله على ملكها كان ذلك جائزاً، كما لو علق عتق العبد شرائه فقال: إن اشتريت هذا العبد فهو حر فهذا يصح عند الإمام أحمد رحمه الله قال: لأن العتق قربة، وبناء عليه نقول: إن الوقف قربة لكن أكثر أهل العلم يقولون: لا يصح حتى في العتق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عتق لابن آدم فيما لا يملك، وهو حين التعليق غير مالك له، وإذا لم يصح في العتق مع قوته ونفوذه وسريانه لم يصح أيضا في الوقف.
إذن فالعلماء مختلفون على قولين فمن صحح تعليق العبد بالملك فإنه يصحح تعليق الوقف بالملك ومن لا فلا، والتصحيح أنه يصح إذا علقه لكن بشرط أن يكون هذا متقارباً يعني: أنه يقول هذا ويشتريه فوراً، أما لو طال الوقت فإن هذا قد يكون فيه غرر على الإنسان، ربما يكون الإنسان عنده رغبة في أن يشتري هذا البيت فيوقفه ثم يشتري بيتا آخر فيوقفه فتتغير الحال، ففي هذه الحال له أن يبطل هذا التعليق وإذا أبطله واشترى البيت لم يكن وقفاً.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز لإنسان أن يتحدث عن أبيه باسمه فيقول مثلاً: قال فلان، يعني: أباه، ولا يقول: قال أبي، لقول عبد الله:"أصاب عمر"، لكن هذه الفائدة مبنية على أن قول الصحابي حجة إذا لم يخالفه دليل أو صحابي آخر، أما إذا قلنا: بأن قول الصحابي ليس بحجة وأن فيما قاله الله ورسوله أو أجمع عليه الناس فإنه لا تستفاد هذه الفائدة من هذا الحديث، ولكن هل للإنسان أن ينادي أباه باسمه في الغيبة؟ واضح، أما مناديه باسمه فيمكن أن نرجع فيه إلى العرف، فيقال: إذا كان في ذلك غضاضة وإهانة للأب فإنه لا يجوز، أما إذا لم يكن فلا بأس به أن يناديه باسمه فيقول: يافلان.
ومن فوائد الحديث: جواز إطعام الضيف من الوقف إذا اشترط استحقاقه؛ لقوله "والضيف" ولا فرق بين أن يكون الضيف غنياً أم فقيراً.
ومن فوائده: جواز تولية المرأة على الوقف؛ لأن الثابت أن عمر جعل وليه على هذا الوقف ابنته حفصة رضي الله عنها.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للواقف أن يبين الشروط حتى لا يكون التباس؛ لقوله: "غير متمول" إذ إن قوله: "يطعم صديقاً" لو جاءت على إطلاقها لأمكن أن يعطي حتى من عين الوقف لكن لما قال: "غير متمول" دفع هذا الاحتمال.
887 -
وعن أبي هريرة -رضي الله عن- قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة» الحديث، وفيه «وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» متفق عليه.
"بعثه" يعني: أرسله وعلى الصدقة يعني: ولياً على الصدقة هنا: الزكاة من أجل أن يقبضها، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث على الزكاة من يقبضها من أهلها فبعث عمر ذات سنة من السنوات على الصدقة فلما رجع قيل إنه منع ثلاثة: العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن جميل وخالد بن الوليد، أما عبد الله بن جميل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقه:«ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأعناه الله» ، وهذا ذم عظيم لهذا الرجل، لكنه ذم أتى بصيغة تشبه المدح، وهذا ما يعرف عند البلاغين بالذم الذي يكون بما يشبه المدح، وهو أشد من الذم المطلق، فهو كقوله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]. وهل كون الإنسان فقيراً فيغنيه الله، هل هذا عذر له في منع الصدقة، أو أبعد له من العذر؟ الثاني، ولهذا قال: ما ينقم يعني: ما ينكر من نعمة الله عليه إلا هذا، فهو تأكيد الذم بما يشبه المدح، وأما العباس، فقال:«هي علي ومثلها» ، وقد سبق لنا في زمن غير طويل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحمل صدقة العباس مضاعفة؛ لأن العباس كان من قرابته، وذكرنا عن عمر في هذا سنة أنه إذا نهى عن شيء جمع أهله، وقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، ولا أعلم أحداً منكم فعل ذلك إلا أضعفت عليه العقوبة، وأما خالد قال:"فأما خالد فقد أحتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله"، لكن المؤلف لم يأت إلا بالشاهد، وإلا فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً» ، ولم يقل: تظلمونه تفخيماً له وإعلاء له، فالإظهار في مكان الإضمار من باب التفخيم والتعظيم في المدح والثناء، يعني: تظلمون خالداً ذلك الرجل الذي ليس أهلاً لأن يظلم؛ لأنه حبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، والأدراع: جمع
درع وهي: ألبسة الحرب، وهي عبارة عن قميص منسوج من حلقات الحديد يلبسه المقاتل ليتقي بذلك السهام، وأما الأعتاد فكل ما يعتد به في الحرب من سيف ورمح وقوس وغير ذلك، "احتبسها في سبيل الله" أي: جعلها حبيسة في سبيل الله للمجاهدين، وهذا يحتمل وجهين:
الأول: أنه رضي الله عنه جعل الزكاة في هذا الوجه أي: في سبيل الله فلم يمنعها بخلاً أو شخاً أو استكباراً، وإنما أداها لكن جعلها في سبيل الله.
والوجه الثاني: أنه رضي الله عنه وقف هذه الأشياء في سبيل الله على المجاهدين، وكأنه يقول صلى الله عليه وسلم: إن رجلاً تبرع بماله لا يمكن أن يمنع الواجب لأنه ليس من المعقول ولا من الشرع أن تبذل التطوع وتمنع الواجب؟ ! لاسيما مثل الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أشد الناس تمسكا بدين الله، وأعقل الناس بلا شك وحينئذ يكون المعنى: أن من احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله تطوعاً فلا يمكن أن يمنع زكاة ماله الواجبة، وأياً كان الاحتمال فإن هذا بلا شك دفاع عن خالد -رضي الله عن-.
يستفاد من الحديث: مشروعية بعث السعادة لقبض الزكاة من أهلها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هل هذا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ فيه قولان لأهل العلم، منهم من قال: يجب أن يبعث العمال لقبض الزكاة؛ لأن الناس ليسوا كلهم على حد سواء، ومنهم من قال: إن هذا على سبيل الاستحباب، وهو الصحيح إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك مثل أن يكون طائفة ممتنعة عن أداء الزكاة فحينئذ يجب أن يبعث إليهم من يقبضها.
ومن فوائد الحديث: ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بعمر بن الخطاب، فينبني على هذا حصول منقبة له للأمانة والقوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتمن إلا من تحقق فيه شرطا الولاية، وهما القوة والأمانة {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [القصص: 26]. {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39]. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يولي على هذا الأمر إلا من علم أن فيه القوة والأمانة، وهما شرطا الولاية، وفيه إطلاق الصدقة على الزكاة كما في القرآن:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]. وفيه الدفاع عمن ليس مستحقا للدم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دافع عن خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهذا شيء واجب يعني: يجب على المسلم أن يذب عن عرض أخيه المسلم فإذا سمع أحداً يتكلم فيه بما لا يستحق وجب عليه أن يدافع وأن يبين الحق.
ومن فوائد الحديث: جواز وقف الأعيان غير الثابتة؛ لقوله: "احتبس أدراعه وأعتاده" بخلاف الأراضي والعقار فهي ثابتة لكن هذا إنما يتم لو كان الحديث لا يحتمل إلا هذا الوجه أما مادام يحتمل احتمالاً آخر، وهو أن المراد بذلك صرف هذه الأشياء في سبيل الله على أنها