الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معاشهم ومعادهم إلا بينته، أحياناً يكون السبب سؤال سائل أو حدث نازلة يتبين بها الحكم وأحياناً يكون ذلك بدون سبب يبتدئ النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بدون أن يكون لذلك سبب.
جواز إتيان المرأة من دبرها في قبلها:
977 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها، كان الولد أحول؛ فنزلت: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223]. متفق عليه، واللفظ لمسلم. "كانت اليهود"، اليهود قوم سكنوا المدينة وهو من بني إسرائيل وكانوا أشد الناس عتوا وظلماً وجهلاً وسفهاً، هؤلاء القوم الذين في المدينة كانوا ثلاث قبائل: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وكان سبب نزولهم المدينة أنهم قرءوا عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يهاجر إلى أرض سبخة وجدوا ذلك في كتبهم وكانوا يؤملون أن يكون من بني إسرائيل فهاجروا إلى المدينة ونزلوا فيها وكانوا إذا كان بينهم وبن الأنصار من الأوس والخزرج كلام أو مناوشات يستفتحون عليهم فيقولون: سيبعث فينا نبي ننتصر به عليكم: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89]. وردوا قوله: فكانت اليهود مندمجة مع الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا يحدثونهم بما يحدثونهم به مما عندهم من التوراة، فكانوا يقولون: "إذا أتى الرجل
…
" الخ، وسموا يهوداً إما لقولهم: {إنا هدنا إليك} ، تقول: "إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول" يعني: في مكان الحرث، لكنه لا من الوجه، ولكن من الخلف، يقول اليهود: إن الولد يكون أحول، ومن الأحوال؟ هو الذي مال سواد عينه إلى أحد الجانبين، إما إلى الأيمن وإما إلى الجانب الأيسر، والحول عيب، ومن الغرائب أن بعض الشعراء قال عند أحد الخلفاء وهو ينظر إلى الشمس وكان الخليفة أحول فقال:
(والشمس قد كادت ولما تفعل
…
كأنها في الأفق عين الأحول)
يعني: كادت تغيب ولما تفعل
…
الخ يقولون: إن الخليفة استشاط غضباً كأن هذا تعيير للخليفة، فالحاصل: أن الحول عيب، ولكن من نعمة الله علينا أننا في هذا الزمن فتح الله على الأطباء أن يعدلوا هذا الحول بعملية يجرونها ويوازنون بين جانبي العين حتى تكون العين متوسطة، والسؤال هل يجوز هذا العمل؟ يجوز بلا ضرر؛ لأنه من باب إزالة العيب، وليس من
باب الوشم والوشر والتفليج للأسنان؛ لأن الأخير تجميل والأول إزالة عيب، فرق بين التجميل وإزالة العيب، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قطع أنفه أن يتخذ أنفاً من ورق ثم أنتن فأذن له أن يتخذ أنفاً من ذهب، وما دمنا في هذا فإنكم ستجدون في كتب الفقهاء رحمهم الله أنه يحرم قطع البواسير، لماذا؟ لأنها في عهدهم خطر، أما الآن فأصبحت سهلة جداً وليس فيها خطورة، تجدون في بعض الكتب أنه يحرم شق البطن لخياط الفتق؛ لماذا؟ لأنه في ذلك الوقت خطر ربما ينزف دما ويموت، أما الآن فأصبح الأمر سهلاً ميسراً، تجدون في كتب الفقهاء أنه يحرم قطع الإصبع الزائدة -الإصبع السادس- لماذا؟ للخطورة، أما الآن فالأمر -ولله الحمد- سهل. وعلى هذا فنقول: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فما دام الخطر قد زال فإن هذه الأشياء التي ذكرها العلماء أنها حرام تكون مباحة جائزة.
نعود للحديث: لماذا قالت اليهود أنه يكون أحول فنزلت: {نساؤكم حرث لكم .. } تكذيبًا لليهود، ووجه كونه تكذيبًا: أن الله لما أباح أن نأتي هذا الحرث أنى شئنا دل على أنه لا عقوبة على ذلك؛ لأن كون الولد أحول عقوبة والمباح ليس عليه عقوبة. قال: "فنزلت: {نساؤكم حرث لكم} أي: محل حرث لكم، محل زراعة، كما أن الأرض حرث للإنسان يضع فيها الحب ويخرج النبات، كذلك المرأة حرث للرجل يضع فيها النطفة فيخرج الولد بإذن الله عز وجل، وقوله: {أنى شئتم} الظاهر أن "أنى" هنا ظرف مكان، أي: من حيث شئتم مقبلين ومدبرين وعلى جنب المهم أن يكون الإتيان في القبل هذا معنى الحديث. أما فوائد الحديث فهي متعددة منها: أن اليهود عندهم من الدعاوى ما لا أصل له كهذه المسألة، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثنا بنو إسرائيل ألا نصدقهم ولا نكذبهم، وأخبار بني إسرائيل تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شهد الشرع بصدقه الكتاب أو السنة، فهذا حق ومقبول.
والقسم الثاني: ما شهد بكذبه فهو مردود.
والثالث: ما لم يشهد بكذبه ولا صدقه، فالواجب التوقف فيه، ولكن لا حرج أن نحدث به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك؛ لأن التحدث بهذا لا يضر، وقد ينفع قد يكون به مواعظ للإنسان ينتفع لكنه لا ضر؛ لأن شرعنا لم يشهد بكذبه.
ومن فوائد الحديث: أن القرآن كلام الله عز وجل لقوله: "فنزلت"، من أي مكان نزلت؟ من فوق؛ لأن النزول إنما يكون من أعلى، فإذا كانت من فوق وهو كلام منسوب إلى الله عز وجل دل هذا على أن القرآن كلام الله، وهل هو كلامه حرفاً ومعنى، أو معنى فقط؟ حرفا ومعنى، تكلم به عز وجل بحروفه، وهل هو مسموع؟ نعم، مسموع سمعه جبريل ونقله إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ومر علينا في درس التوحيد أن من أهل البدع من يقول: إن كلام الله معنى قائم بنفسه وليس شيئًا يسمع أو يكون بالحروف، وهذا مذهب الشاعرة الذين يدعون أنهم يتبعون أبا الحسن الأشعري، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بطلان هذا المذهب من تسعين وجها في مؤلف يسمى "التسعينية"، وهي موجودة في مجموع الفتاوى القديمة، فيه من يقول: أن القرآن مخلوق، ويقول: كل كلام الله مخلوق منفصل بائن منه وليس من صفاته، وهذا مذهب المعتزلة والجهمية وهم إلى المعقول أقرب من الأشاعرة؛ لأن الأشاعرة يقولون: أن الكلام هو المعنى القائم في النفس، والمعنى القائم في النفس لا يسمى كلامًا، ثم يقولون: ما سمعه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم أو ما كتبه الناس في المصاحف فهو مخلوق، المعتزلة يقولون: لا، هو كلام الله لكنه مخلوق، وهم يقولون مخلوق عبارة عن كلام الله.
ومن فوائد الحديث: أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين: قسم ابتدائي نزل ابتداء وهو أكثر آيات القرآن، وقسم سببي، أي: نزل لسبب وهذا قليل لكنه موجود والعلم بالسبب - أي: بسبب نزول الآية- له فوائد من أهمها: أنه يعين على فهم المعنى، فنحن مثلاً إذا قرأنا قوله تعالى:{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 58]. نفهم من هذا أن الطواف بهما من قسم المباح الذي ليس فيه جناح، ولكننا إذا فهمنا السبب عرفناه المعنى، السبب أنه كان على الصفا والمروة صنمان، فكل الناس يتحرجون من الطواف بهما من أجل الصنمين، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {إن الصفا
…
}. إذن نفي الجناح نفي لما يتوهمه الناس من أن الطواف بهما في حرج من أجل الصنمين، على هذا ينبغي لنا أن نعتني بمعرفة أسباب النزول، وهذا موجود -الحمد لله- من المفسرين من يذكره عند تفسير كل آية، ومن المفسرين من ألف كتباً مستقلة في بيان أسباب النزول.
ومن فوائد الحديث: أن المرأة للرجل بمنزلة أرض الحرث لقوله: {حرث لكم} . ومن فوائده: أن مسألة الجماع يرجع فيها إلى الزوج لا إلى الزوجة، بمعنى: أنه إذا أراد أن يجامع أو لا يجامع فالأمر إليه كما أن الأمر في الحرث إلى الزارع؛ ولهذا إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح، لكن إذا دعته هي وأبي لم يحصل عليه هذا الإثم، نعم عليه أن يجامعها بالمعروف أو في كل أربعة أشهر مرة عند الفقهاء، يعنى:
في السنة ثلاث مرات وهي امرأة شابة وتشتهي ما يشتهي الرجال وتدعوه وتتزين له تعمل كل شيء يقول: ما تمت أربعة أشهر ثم يطأها مرة؛ المرة الثانية على رأس ثمانية أشهر، والثالثة على رأس السنة، ولكن هذا القول ضعيف جداً، وإن كانوا يستدلون بمسالة الإيلاء للرجل المولي أربعة أشهر، لكن المولي عقد عقداً له حكمه أما غير المولي فليس كذلك، والصحيح أن مسالة الجماع يرجع فيها إلى العرف وهي داخلة في قوله تعالى:{وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19]. لكنها ليست كلما أرادت أن يفعل الزوج تلزمه، أما هو إذا أراد أن يفعل يلزمها؛ إذن يؤخذ من قوله:{نساؤكم حرث لكم} أن أمر الجماع راجع إلى الزوج.
ومن فوائد الحديث والآية: سعة رحمة الله عز وجل بأن أعطى الزوج شيئاً من الحرية في أن يأتي حرثه من حيث شاء؛ لأن الناس يختلفون في مذاقهم وفي مزاجهم، ربما بعض الناس يختار أن تكون على صفة معينة والآخر على صفة أخرى فيسر الله الأمر وقال:{فأتوا حرثكم أنى شئتم} يعنى: من حيث شئتم.
ومن فوائد الحديث والآية: الإشارة إلى تحريم الوطء في الدبر، وجهه:{فأتوا حرثكم} ؛ لأن الدبر ليس موضع حرث مهما فعل الإنسان لا يمكن أن يولد له إذا كان الإتيان من غير المكان.
ومن فوائد الآية: الرد على طائفة مبتدعة وهي الجبرية؛ لأنهم ينكرون أن يكون للإنسان مشيئة يقولون: الإنسان لا يشاء فعله ولا يقدر عليه، وقد مر علينا في البحث في العقيدة بيان أوجه الرد الكثيرة على هذه الطائفة المبتدعة، وأنه لو أن أحدًا أمسك واحدًا منهم وضربه ضربًا مبرحًا، وقال: له إن هذا ليس بإرادتي وليس بمشيئتي، هذا أمر مقدر وكلما قال أوجعتني ضربه ثانية، وقال: هذا أمر مقدر، هل يوافق على هذا؟ لا يوافق، بل يخبطه خبطة أكبر، ويقول: هذا أمر مقدر، على كل حال: هذا القول لا يمكن أن يستقيم عليه حال من الأحوال، والآيات والأحاديث والواقع كله يشهد بأن هذا قول باطل. وهل يمكن أن يؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان إذا تلا آية من القرآن للاستدلال أو لاستنباط لا يلزمه أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ ربما يؤخذ، لكن هناك أدلة أخرى تدل على أن الإنسان إذا أتى بالآية استشهادًا أو استنباطًا فإنه لا يلزمه أن يتعوذ، ومن العجيب أن بعض الغلاة في هذه المسألة يقول: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {نساؤكم حرث لكم} فنقول: كيف ذلك؟ الله لم يقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال:{فإذا قرأت القرآن فاستعذ} [النحل: 98]. فإذا كنت تريد أن تستعيذ فاستعذ قبل أن تقول: قال الله تعالى؛ لأنك إذا قلت: قال الله تعالى ثم قلت: أعوذ بالله صارت الاستعاذة من أمر الله وليس الأمر كذلك.