المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌حكم الغصب: والغصب محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد قال - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٤

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌2 - باب الخيار

- ‌ خيار المجلس

- ‌خيار العين:

- ‌3 - باب الربا

- ‌تحريم الربا:

- ‌أنواع الربا:

- ‌مسألة: هل يلحق بالأصناف التي فيها الربا غيرها؟ خصص فيه الرسول ستة أشياء فهل يلحق بها غيرها

- ‌بيع التمر بالتمر وشروطه:

- ‌بيع الذهب بالذهب:

- ‌بيع الحيوان بالحيوان:

- ‌بيع العينة:

- ‌الشفاعة المحرمة:

- ‌الرشوة:

- ‌بيع الحيوان بالحيوان نسيئة:

- ‌المزابنة:

- ‌مسألة في بيع العرايا وشروطه:

- ‌بيع الدين بالدين:

- ‌4 - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار

- ‌بيع العرايا:

- ‌بيع الثمار:

- ‌5 - أبواب السلم، والقرض، والرهن

- ‌الرهن:

- ‌غلق الرهن:

- ‌الترغيب في حسن القضاء:

- ‌حكم الجمعية وهل هي ربا أو لا

- ‌6 - باب التفليس والحجر

- ‌التحذير من مماطلة الغني:

- ‌ الحجر

- ‌تصرف المرأة المالي:

- ‌7 - باب الصلح

- ‌8 - باب الحوالة والضمان

- ‌حكم الحوالة وشروطها:

- ‌ضمان دين الميت:

- ‌الكفالة:

- ‌9 - باب الشركة والوكالة

- ‌الوكالة:

- ‌حكم الوكالة وشروطها:

- ‌جواز التوكيل في قبض الزكاة:

- ‌جواز التوكيل في ذبح الهدي والأضحية وتفريقهما:

- ‌جواز الوكالة في إثبات الحدود وتنفيذها:

- ‌10 - باب الإقرار

- ‌11 - باب العارية

- ‌حكم العارية:

- ‌وجوب العناية بالعارية وردّها على المُعير:

- ‌أنواع العارية:

- ‌12 - باب الغصب

- ‌حكم الغصب:

- ‌حكم الزرع في الأرض المغصوبة:

- ‌13 - باب الشفعة

- ‌شفعة الجار وشروطها:

- ‌14 - باب القراض

- ‌15 - باب المساقاة والإجارة

- ‌حكم المساقاة:

- ‌إجارة الأرض:

- ‌ المزارعة

- ‌حكم أخذ الأجرة عن الحجامة:

- ‌التحريز من منع الأجير حقه:

- ‌جواز أخذ الأجرة على القرآن:

- ‌الأخذ على كتاب الله له ثلاث صور:

- ‌16 - باب إحياء الموات

- ‌17 - باب الوقف

- ‌18 - باب الهبة والعمرى والرقبى

- ‌الهبة وضوابطها:

- ‌حكم الرجوع في الهبة:

- ‌حكم رجوع الوالد في هبته لولده:

- ‌شروط قبول الهدية:

- ‌فائدة في الإثابة على الهدية وحكمها:

- ‌صور العمرى والرقبى:

- ‌حكم شراء الهبة:

- ‌الحث على الهدية:

- ‌19 - باب اللقطة

- ‌حكم إيواء الضالة دون تعريفها:

- ‌الإشهاد على اللقطة وحكمه:

- ‌حكم اللقطة في مكة:

- ‌حكم لقطة المعاهد:

- ‌20 - باب الفرائض

- ‌أصحاب الفروض

- ‌مراتب العصوبة:

- ‌ميراث الزوجين:

- ‌ميراث الأم:

- ‌ذكر المسألتين العمريتين:

- ‌ميراث الأب:

- ‌ميراث الجد والجدة:

- ‌ميراث البنات والأخوات والإخوة:

- ‌حكم ميراث المسلم للكافر والكافر للمسلم:

- ‌ميراث الجد:

- ‌ميراث الجدة:

- ‌ميراث الخال وذوي الأرحام:

- ‌حكم ميراث الحمل:

- ‌21 - باب الوصايا

- ‌حكم كتابة الوصية:

- ‌ضوابط الوصية:

- ‌حكم الصدقة عمن لم يوص:

- ‌حكم الوصية للوارث:

- ‌الوصية بثلث المال:

- ‌22 - باب الوديعة

- ‌كتاب النكاح

-

- ‌ حكم النكاح

- ‌النهي عن التبتل:

- ‌الحث على تزوج الولود الودود:

- ‌تنكح المرأة لأربع:

- ‌الدعاء لمن يتزوج:

- ‌خطبة الحاجة:

- ‌آداب الخطبة: حكم النظر إلى المخطوبة وضوابطه:

- ‌نهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه:

- ‌حديث الواهبة:

- ‌إعلان النكاح:

- ‌اشتراط الولي:

- ‌نكاح المرأة بغير إذن وليها:

- ‌اشتراط رضا الزوجة:

- ‌حكم الشغار:

- ‌تخيير من زوجت وهي كارهة:

- ‌حكم من عقد لها وليان على رجلين:

- ‌حكم زواج العبد بدون إذن سيده:

- ‌حكم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو أختها:

- ‌حكم خطبة المحرم ونكاحه:

- ‌شروط النكاح:

- ‌حكم زواج المتعة:

- ‌مسألة: هل نية المتعة كشرطها

- ‌حكم زواج المحلل:

- ‌مسائل مهمة:

- ‌نكاح الزاني والزانية:

- ‌مسألة شهر العسل:

- ‌1 - باب الكفاءة والخيار

- ‌حكم زواج العرب الأحرار بالموالي:

- ‌أنواع الخيار:

- ‌حكم من أسلم وتحته أختان:

- ‌حكم من أسلم وتحته أكثر من أربعة:

- ‌رد من أسلمت إلى زوجها إذا أسلم:

- ‌من أسلم وهو أحق بزوجته:

- ‌فسخ النكاح بالعيب:

- ‌حكم العنين:

- ‌2 - باب عشرة النساء

- ‌حكم إتيان المرأة في دبرها:

- ‌مسألة في حد إتيان الرجل الرجل:

- ‌الوصية بالنساء:

- ‌نهي المسافر عن طروق أهله ليلاً:

- ‌النهي عن إفشاء الرحل سر زوجته:

- ‌حقوق الزوجة على زوجها:

- ‌جواز إتيان المرأة من دبرها في قبلها:

- ‌ما يقال عند إتيان النساء:

- ‌لعن المرأة إذا عصت زوجها:

- ‌الملائكة حقيقتهم ووظائفهم:

- ‌حكم الوصل والوشم:

- ‌حكم الغيلة والعزل ووسائل منع الحمل:

- ‌3 - باب الصداق

- ‌تعريف الصداق لغة وشرعًا:

- ‌جعل العتق صداقا:

- ‌صَدَاق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌صداق فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الصداق والحباء والعدة:

- ‌مهر من لم يفرض لها صداق:

- ‌مقدار الصداق:

- ‌تقليل الصداق:

- ‌4 - باب الوليمة

- ‌حكم الوليمة ووقتها:

- ‌شروط إجابة الدعوة إلى الوليمة:

- ‌حكم عدم إجابة الصائم لدعوة الوليمة:

- ‌أيام الوليمة:

- ‌التحذير من مشاركة الرياء للعبادة:

- ‌صفة ولائم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض زوجاته:

- ‌حكم الأكل في حالة الاتكاء:

- ‌التسمية عند الطعام:

- ‌آداب الطعام:

- ‌آداب الشراب:

- ‌5 - باب القسم بين الزوجات

- ‌تحريم الميل إلي إحدى الزوجتين:

- ‌مسألة: كيف يكون العدل بين الزوجات

- ‌القسم للبكر والفرق بينهما وبين الثَّيب عند الزواج:

- ‌جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم لأخرى:

- ‌حسن معاشرة الأزواج:

- ‌القرعة بين الزوجات في السفر:

- ‌النهي عن الشدة في معاملة الزوجة:

- ‌6 - باب الخلع

- ‌الخلع ورد ما أخذت الزوجة:

- ‌عدة المختلعة:

- ‌ أوَّل خلعٍ في الإسلام

الفصل: ‌ ‌حكم الغصب: والغصب محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد قال

‌حكم الغصب:

والغصب محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد قال الله تعالى:{يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أمولكم بالبطل إلا أن تكون تجرةً عن تراضٍ} [النساء: 29]. فقال: {لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل} ، وكل مال أخذ بغير حق فهو باطل، فيدخل في هذا النهي.

وأما في السنة فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترًا معنويًا على تحريم مال المسلم، ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن يوم عرفة في أكبر مجمع للمسلمين فقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» ، وكذلك في يوم النحر في منى أكد ذلك:«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» .

وأما الإجماع فقد انعقد على تحريم الاستيلاء على مال الغير بغير حق، والمغصوب إما أن يكون عقارًا، وإما أن يكون منقولاً، فالعقار مثل الأرض والأشجار وشبهها، والمنقول كالذي ينقل من مكان إلى مكان كالدراهم، والدنانير، والثياب، والسيارات، والأواني، والأمتعة وكلها يدخل فيها الغصب أعني العقار والمنقول ويحرم فيها الاستيلاء على حق الغير بغير حق، ثم ذكر المؤلف حديث سعيد بن زيد.

855 -

عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين» . متفق عليه.

"اقتطع" يعني: أخذ قطعة من الأرض ظلمًا، "الشبر": هو ما بين رأس الخنصر والإبهام عند مد الأصابع، وكان هو المقياس منذ عهد بعيد؛ لأنه في الحقيقة متر لازم للإنسان دائم كل إنسان معه متر إذا اعتبرنا الشبر وكذلك إذا اعتبرنا الذراع، وهو ما بين رأس المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى وهو مقياس، وكذلك "الباع" ما بين الخطوتين عند مد الرجل هذا أيضًا مقياس، ثم ظهرت المقاييس الأخيرة وهي المتر وفوعه، لكن أدنى شيء يقدر به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في الغالب الشبر، وإن كان قد يقاس بالأنملة كما في قص المرأة رأسها عند النسك.

وفي رواية للبخاري: «من اقتطع شيئًا» ، فيشمل الشبر فما دونه وما فوقه.

وقوله: «شبرًا» هذا تقدير بالأقل للمبالغة، وما كان تقديرًا للمبالغة فليس له مفهوم لا قلة

ص: 203

ولا كثرة، ففي قوله تعالى:{فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًا يره} [الزلزلة: 7 - 8]. فإن عمل دون ذلك يراه أيضًا، وكذلك ما ورد في الأكثر مثل:{إن تستغفر لهم سبعين مرةً فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]. فلو استغفر أكثر لم يغفر لهم، المهم أن ما قصد به المبالغة قلة أو كثرة فإنه لا مفهوم له.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «ظلما» هذه متعلق بقوله: «اقتطع» يعني: الذي عمل فيها كلمة اقتطع، فيحتمل أن تكون مصدرًا في موضع الحال، أي: من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف تقديره: من اقتطع اقتطع اقتطاعًا ظلمًا، ويحتمل إعرابًا ثالثًا وهي أن تكون مفعولا من أجله، أي: من اقتطع شبرًا من الأرض من أجل الظلم، يعني: الذي حمله عليه الظلم فجزاؤه كذا وكذا، هذه ثلاثة أوجه أقربها - والله أعلم - أن تكون مصدرًا في موضع الحال ظالمًا، والظالم هو المعتدي الذي لا وجه لاقتطاعه.

"طوقه الله إياه يوم القيامة"، الضمير في "إياه" يعود على هذا الشبر الذي اقتطعه، ومعنى "طوقه" أي: جعله طوقًا في عنقه كالطوق الذي تلبسه المرأة للزينة، وقوله:"يوم القيامة" يعني: يوم الجزاء والحساب، وهذا اليوم له أسماء كثيرة: اليوم الآخر، ويوم الحساب، ويوم الحشر، ويوم المعاد، وأسماء كثيرة، وذلك لأنه يتضمن هذه الأوصاف التي سمي بها، ويوم القيامة سمي بهذا الاسم، لأنه يقوم فيه الناس من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى:{ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليومٍ عظيمٍ يوم يقوم الناس لرب العلمين} [المطففين: 4 - 6]. ولأنه يقوم فيه الأشهاد كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهد} [غافر: 51]. ويقام فيه العدل كما قال تعالى: {ونضع الموزين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئًا} [الأنبياء: 47]. إذن سمي يوم القيامة لهذه الوجوه الثلاثة.

"من سبع أراضين" متعلق بـ"طوق"، يعني: يطوقه الله إياه من سبع أرضين، وذلك لأن الإنسان إذا ملك شيئًا من الأرض ملكه وما تحته إلى الأرض السابعة، فإذا ظلم أحد شبرًا من الأرض العليا صار كأنه ظالم من كل أرض مقدار شبر.

هذا الحديث فيه: الوعيد الشديد على من اقتطع شبرًا من الأرض أو أكثر أو أقل.

وفيه أيضًا: أن من اقتطع شبرًا من الأرض بحق فليس عليه شيء؛ لأن مفهوم قوله: "ظلمًا" أنه إذا لم يكن ظلمًا فليس فيه وعيد، مثل: لو أن رجلاً له جار في الأرض فجاء هذا الجار فأدخل جزءًا من أرض جاره على أرضه، فجاء الآخر الذي قد أخذ من أرضه ما أخذ فأدخل الذي أخد منه إلى أرضه، فهذا لا شك أنه اقتطع شبرًا من الأرض أو أكثر لكن بحق؛ لأن الأرض أرضه، فلا يلحقه هذا الوعيد، وفيه أن هذا العمل من كبائر الذنوب، وجهه: أن فيه وعيدًا في

ص: 204

الآخرة، وكل شيء فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو نفي إيمان أو ترتيب غضب أو تبرؤ منه أو ما أشبه ذلك فإنه من كبائر الذنوب، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل شيء رتب عليه عقوبة خاصة في الدنيا أو في الآخرة فإنه من كبائر الذنوب، وذلك لأن المحرمات نوعان: نوع يذكر أن هذا الشيء محرم أو ينهي عنه مثلاً، ولكن لا يذكر فيه وعيد فهذا يكون من الصغائر، ونوع آخر يذكر فيه وعيد، يعني: يرتب عليه عقوبة خاصة به ففي هذا يكون هذا الشيء من كبائر الذنوب.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الجزاء من جنس العمل، وذلك أن هذا الرجل لما تحمل هذا الإثم بالنسبة للأرض جوزي بأن يتحمل العقوبة بمثلها يوم القيامة.

وفيه: إثبات يوم القيامة، وهذا شيء دل عليه السمع والعقل، أما السمع ففي القرآن آيات كثيرة تدل على ثبوت هذا اليوم، والسنة كذلك، كما قال النبي صلى الله عليه والسلام:«يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» ، وأما العقل فلأن العقل يحيل أن يخلق هذه الخليفة العظيمة ويرسل إليها الرسل، وينزل عليها الكتب، ثم تكون النتيجة أن تموت هذه الخليفة ولا يترتب على ذلك شيء، فإن هذا بلا شك ينافي حكمة الله تعالى، كما قال الله تعالى: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} [القصص: 85]. فيبن الله عز وجل أن الذي أنزل عليه الكتاب لابد أن يرده إلى معاد يجازي فيه الناس على هذا القرآن.

ومن فوائد الحديث: أن الأرضين سبع لقوله: "من سبع" وثبوت كونها سبعًا بهذا العدد المعين ليس مذكورًا في القرآن لكنه مشار إليه في قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12]. فإن المثلية هنا في العدد؛ لأنها ليست مثلهن في الكيف؛ لأن السماء أعظم من الأرض وأوسع، فلا يمكن أن تكون مثلها في الكيفية، إذن هي مثلها في العدد، لكن هذا ليس بصريح، أما السنة فإنها صريحة في ذلك.

ومن فوائد الحديث: أن هذه الأرضين متطابقة، هذا هو الظهار؛ يعني: ليس بينها فاصل؛ لأنه لو كان بينها فاصل ما جوزي الإنسان بالعقوبة إلا على الأرض العليا فقط دون الأرض السفلى، وما بينهما مع أنه يحتمل أن نقول: إن هذا ليس بصريح في أنها متطابقة، لأنه إذا كانت الأرضون السفلى ليس فيها سكان يعمرونها فإنه يكون لمن في الأرض العليا الحق في هذه الأرضين.

ومن فوائد الحديث: ما ذكره الفقهاء رحمهم الله أن القرار تابع لما فوقه، كما أن الهواء

ص: 205

تابع لما تحته، فالإنسان يملك ما تحت أرضه إلى الأرض السابعة، ويملك ما فوق أرضه إلى السماء، فلو أن أحدًا أراد أن يحفر سربًا تحت أرضه فله أن يمنعه، ولو أراد أن يخرج جناحًا من بنائه على هواء جاره فله أن يمنعه من ذلك؛ لأن الإنسان يملك ما تحت أرضه إلى الأرض السفلى، وما فوق أرضه إلى السماء الدنيا.

ومن فوائد الحديث: أن يوم القيامة لا يقاس بأيام الدنيا؛ لأن تطويق الشخص من سبع أراضين بمقدار ما غصب من الأرض العليا أمر يبدو مستحيلاً في الدنيا، ولنفرض أنه اقتطع أميالاً ظلمًا فإنه يطوق إياه يوم القيامة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يمكن في الدنيا أن يتحمله الإنسان، ولكن يقال: إن أحوال الآخرة ليست كأحوال الدنيا، بل هي تختلف اختلافًا عظيمًا، ولهذا تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق بمقدار ميل، ولا يحترقون مع أنها لو دنت إلى الأرض الآن بمقدار أنملة لفسدت الأرض واحترقت، كذلك أيضًا يحرق الناس يوم القيامة، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ومنهم من يبلغ إلى حقويه ومنهم يلجمه العرق وهم في مكان واحد، كذلك أيضًا يوم القيامة، نور المؤمنين يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وغير المؤمنين في ظلمة، وهذا أيضًا لا يمكن أن يكون في الدنيا، إذن فأحوال الآخرة لا يمكن أن تقاس بأحوال الدنيا أبدًا لوجود الفارق العظيم، والأبدان يوم القيامة تعطي طاقة عظيمة أكثر من طاقتها؛ لأنها تنشأ للبقاء لا للفناء، أما في الدنيا فإنها تنشأ للفناء، ولكن في الآخرة تنشأ للبقاء، فتكون الطاقات في ذلك اليوم غير الطاقات في هذا اليوم، يتفرع على هذه القاعدة: أننا لا نورد على أنفسنا ولا على غيرنا كيف يكون كذلك، لماذا؟ لوجود الفارق العظيم بين هذا وهذا، ويتفرع على هذا أيضًا: أنه إذا كان الاختلاف بين الخلق لاختلاف الدارين فما بالك بالاختلاف بين الخلق والخالق، وعلى هذا فلا يمكن أن تقول في شيء من صفات الله يستحيل أن يوجد في صفات المخلوقين لا يمكن أن نقول: كيف ولم فمثلاً علو الله عز وجل فوق المخلوقات كلها أمر ثابت ونزوله إلى السماء الدنيا نفسه أمر ثابت أيضًا، وهذا يبدو بالنسبة للمخلوق أمرًا مستحيلاً لكنه بالنسبة للخالق ليس بمستحيل، أي: ليس بمستحيل أن يكون الله فوق كل شيء وهو نازل إلى السماء الدنيا؛ لأن الله لا يقاس بخلقه، وهذه قاعدة ينبغي لكم أن تفهموها: أنه لا يمكن أن يقاس الغائب بالشاهد، فإذا صح النقل عن صفة من صفات الغائب وجب قبوله ولا نفسه بالشاهد.

ص: 206

856 -

وعن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعةٍ فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا، ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسورة". رواه البخاري، والترمذي، وسمى الضاربة عائشة، وزاد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام بطعامٍ، وإناء بإناءٍ» وصححه.

أدخل المؤلف رحمه الله هذا الحديث في باب الغضب؛ لأنه داخل في معنى الغصب، وهو الاستيلاء على مال الغير قهرًا بغير حق، لكن هذا الحديث ليس غصبًا واضحًا؛ لأنه إنما فيه اعتداء لا غصب، هذه القصة كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه وهي عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، وكانت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وكانت رضي الله عنها أشد نساء النبي صلى الله عليه وسلم غيرة فيه لشدة محبتها له، وكانت أصغر نسائه، فاجتمع في حقها ثلاثة أسباب: شدة الغيرة، وصغر السن، وشدة المحبة، فيجري منها هذا، أرسلت إحدى نساء الرسول - وهي زينب بنت جحش - إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا وهو في بيت عائشة، وهذا شيء عظيم عند الضرة أن ترسل إليها ضرتها بطعام وهو عندها؛ لأن هذا يثيرها، كيف ترسل طعامًا إليه وهو عندي، هل أنا ناقصة، هل أنا لا أجد ما أعطيه؟ هذه مضادة، فلما جاء بها الرسول يقول: ضربت بيدها فكسرت القصعة، يعني: ضربت القصعة حتى وقعت على الأرض وانكسرت، وهذا الفعل قد يدل أيضًا على قوة الغيرة، والغيرة مثل الغضب قد يفقد الإنسان فيها تصرفه، ولا يستطيع أن يملك نفسه، فلم يعنفها ولم يوبخها بل ضم القصعة هكذا وجعل الطعام فيها، والظاهر - والله أعلم - أن هذا الطعام لا يتأثر إذا وقع على الأرض، ولعله كان تمرًا، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال:"كلوا" ودفع القصعة الصحيحة - قصعة عائشة - للرسول وحبس المكسورة لعائشة وقال: "طعام بطعام، وإناء بإناء"، وكأن الطعام الذي هيأته عائشة كأنه دفعه مع قصعتها، وقال:"طعام بطعام، وإناء بإناء"، هذا هو الظاهر ويحتمل أن يكون الطعام الذي جاء فسد لوقوعه على الأرض وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وجعله في القصعة المكسورة، وقال:"كلوا" وحينئذ يكون طعامًا بطعام وإناء بإناء؛ لأن الطعام الذي بعثت به زينب جعل النبي صلى الله عليه وسلم طعام عائشة في قصعة زينب حتى يكون طعام عائشة كأنه طعام زينب، وحينئذ يكون النبي صلى الله عليه وسلم أكل طعام زينب لا طعام عائشة، فيكون طعامًا بطعام، أما الإناء فإن الرسول قد أعطى إناء عائشة لزينب وقال:"إناء بإناء".

ص: 207

هذا الحديث فيه فوائد منها: أن إبهام صاحب القصة لا حرج فيه، ولا يعد ذلك من كتمان العلم إذا كان لا يتعلق بتعيينه فائدة، دليل ذلك قوله:"كان عند بعض نسائه"، فأما إذا كان يتعلق بتعيينه فائدة فإنه لا ينبغي إبهامه.

ومن فوائد هذا الحديث: اعتناء السلف بالمعنى والقصة دون من وقعت منه إلا إذا كان في تعيينه فائدة لقوله: "كان عند بعض نسائه".

ومن فوائد الحديث: إثبات الأمومة لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمؤمنين لقوله: "أرسلت إحدى أمهات المؤمنين"، وهذا ثابت في كتاب الله، قال الله تعالى:{وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6].

ومن فوائد الحديث: جواز استخدام الخادم؛ لقوله: "مع خادم له بقصعة"، وهذا هو الأصل، إلا إذا كان في ذلك محظور، فإنه إذا كان في ذلك محظور يمنع، كما لو خشيت الفتنة أو الانغماس في الترف كما يوجد عند بعض الناس خدم أكثر من أفراد عائلتهم، يذكر أن بعض الناس لا يكون في البيت إلا هو وزوجته ومع ذلك عنده ثلاث خادمات هذا إسراف.

ومن فوائد الحديث: جواز إهداء الطعام.

ومن فوائده: حل الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل البيت من قوله: «فيها طعام» ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «كلوا» ، أما الصدقة فلا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم وآله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل له صدقة التطوع ولا الزكاة، وأما آله فتحل لهم صدقة التطوع أيضًا، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الصدقة لا تحل لآل محمد» ، ولكن هذا العموم يخصصه التعليل لقوله:«إنما هي أوساخ الناس» ، والأوساخ لا تكون إلا في الزكاة؛ لأنها هي التي تطهر المال.

ومن فوائد الحديث: أن ما فعل على سبيل الغيرة فإن الإنسان لا يلام عليه، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلم الزوجة التي كسرت القصعة، ولكن لا يرفع ذلك الضمان؛ يعني: ما فعل على سبيل الغيرة لا يرفع الضمان إن كان فيه ضمان، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة وأرسل القصعة الصحيحة ولكنه لم يقتد بضرب اليد.

ومن فوائد الحديث: أنه لا قصاص في اللطمة والضرب على الظهر والضر على اليد وما أشبه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص من المرأة التي ضربت يد الخادم، هكذا استدل بعض أهل العلم على انتفاء القصاص في الضربة واللطمة ونحوها، وقال بعض العلماء: بل القصاص ثابت

ص: 208

في الضربة واللطمة ونحوهما؛ لعموم قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]. وقوله: {وجزؤا سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40]. ولكن بشرط أن يؤمن التعدي في الاستيفاء بحيث يكون القصاص على يد شخص نعلم أنه لا يزيد؛ لأن هناك فرقًا بين الضرب الخفيف والضرب الثقيل، وهذا القول هو الصحيح أن القصاص ثابت في الضرة واللطمة وشق الثوب لعموم الأدلة الدالة على جواز ذلك؛

فإذا قال قائل: لماذا لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم إذا قلتم بثبوت القصاص في اللطمة ونحوها فلماذا لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم للخادم؟

فالجواب: إما أن يقال: إنه لما كان هذا الفعل صادرًا عن قوة الغيرة والإنسان لا يملك نفسه عند قوة الغيرة عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يقال: إن الخادم لم يطالب بحقه، وإما أن يقال: هذه قضية عين يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استسمح الخادم، ويحتمل أنه أعلمه وسامح هو بنفسه، ويحتمل احتمالات أخرى، وقضايا الأعيان لا تقضي على عمومات الكتاب والسنة.

ومن فوائد الحديث: سعة حلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لم يوبخ هذه الفاعلة على ما فعلت وجعل يضم القصعة المكسورة ويضع الطعام فيها.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الشيء المثلي يضمن بمثله سواء كان مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا أو مذروعًا أو مصنوعًا أو غير ذلك، وجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبس المكسورة، وأرسل الصحيحة، وهذه القاعدة، أي: أن الشيء المثلي يضمن بمثله والمتقوم يضمن بقيمته، قاعدة متفق عليها في الجملة، ولكن ما هو المثلي وما هو المتقوم؟ قال بعض العلماء: المثلي كل مكيل أو موزون ليس فيه صناعة مباحة يصح السلم فيه، "كل مكيل أو موزون" هذا الجنس، "ليس فيه صناعة مباحة"، هذا النوع "يصح السلم فيه" هذا أيضًا للنوع، مثل البر هذا مكيل، مثل اللحم، سكر هذا موزون، ليس فيه صناعة مباحة، فإن كان فيه صناعة مباحة خرج عن كونه مثليًا بسبب الصناعة كالحديد فإنه - قبل الصناعة - موزون، لكن إذا صنع منه الأواني خرج عن المثلية وصار متقومًا فإن كانت الصناعة حرامًا كما لو صنع من الذهب فإن هذه الصناعة حرام لم يخرج عن كونه مثليًا؛ وذلك لأن هذه الصناعة لا قيمة لها فلا تخرجه عن أصله، "يصح السلم فيه"، احترازا مما لا يصح السلم فيه مثل المكيلات المختلفة كبر اختلط في شعير وما أشبه ذلك مما لا

ص: 209

يصح السلم فيه فإنه لا يكون مثليًا، وهذا التعريف هو الذي مشى عليه فقهاء الحنابلة رحمهم الله ولكن القول الصحيح: أن المثلي ما له مثيل ونظير، سواء كان مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا أو مذروعًا أو حيوانًا أو غير ذلك، كل شيء له مثيل ونظير فهو مثلي حتى وإن كان مصنوعًا، ويدل لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل القصعة السليمة مكان القصعة التي كسرت، ولو كان هذا من باب المقومات لأرسل النبي صلى الله عليه وسلم القيمة دون القصعة.

فإن قال قائل: أليس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعتق شقصًا له في عبد وله شريك لم يعتق فإن العتق يسري إلى العبد بقيمته - بقيمة الشقص المشترك - ومعلوم أن العبد له مثيل؟

الجواب أن نقول: بلى قد يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن شقص العبد ليس مثليًا لأنه ليس له مثل، مثال ذلك: زيد وعمرو شريكان في عبد، فأعتق زيد نصيبه من هذا العبد، حينئذ يسري العتق إلى نصيب شريكه فيعتق العبد كله جبرًا بدون اختيار، ويضمن زيد الذي أعتق نصيبه لشريكه عمرو قيمة نصف العبد، فهنا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم القيمة مع أن العبد له، مثل عبد بعيد، فما الجواب؟ الجواب أن يقال: أنه هنا ليس عبدًا كاملاً ولكنه نصف عبد، ونصف العبد لا يوجد، لاسيما إذا قلنا: إن العبد إذا أعتق نصفه صار العتق إلى بقيته، إذن فوجود المثل في هذه المسألة متعذر فيكون فيها دليل على أنه إذا تعذر المثل رجعنا إلى القيمة، هذا هو الصحيح ويدل عليه هذا الحديث. لو أن رجلاً أتلف لرجل شاة فبماذا يضمنها؟ شاة على القول الراجح، وعلى قول من يقول: إن المثلي المكيل والموزون بالشروط المعروفة فإنه يضمنها بالقيمة.

فإذا قال قائل: هل يلزم أن تكون الشاة البديلة مماثلة للشاة المضمونة أو لا؟

نقول: أما شرعًا فلا يجوز أن يضمن هزيلة بشاة سمينة أو شاة سمينة بشاة هزيلة، وأما عند المخاصمة والمشاحة فإنه لابد أن تكون البديلة مثل المضمونة، فمثلاً رجل أتلف لشخص شاة هزيلة تساوي عشرة ريالات، وعند المتلف شاة سمينة تساوي عشرين، فقال المتلف لصاحب الشاة المتلفة: خذ شاتي بدلاً عن شاتك، يجوز هذا ما دام برضاه يجوز، وكذلك العكس لو كانت الشاة المتلفة السمينة تساوي عشرين درهمًا ليس عند المتلف شاة إلا هزيلة لا تساوي إلا عشرة ورضي صاحب الشاة المتلفة: خذ شاتي بدلاً عن شاتك، يجوز هذا ما دام برضاه يجوز، وكذلك العكس لو كانت الشاة المتلفة السمينة تساوي عشرين درهمًا ليس عند المتلف شاة إلا هزيلة لا تساوي إلا عشرة ورضي صاحب الشاة المتلفة بالشاة الهزيلة، يجوز، لأن الحق له، ومعلوم أن الإنسان يجوز أن يستوفي حقه بأقل من ماله وبأكثر إذا رضي الطرف الآخر، إذن هذه القصعة الصحيحة هل هي تساوي الأخرى أو مثلها أو أحسن منها؟ محتمل، ليس في الحديث ما يدل على هذا، وإذا كان محتملاً وجب الرجوع إلى القواعد العامة، وهو أن الواجب أن يضمن الشيء بمثله، ولكن إذا اختار أحد الطرفين أن يأخذ أقل من حقه أو أكثر فلا بأس.

ص: 210