المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌7 - باب الصلح - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٤

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌2 - باب الخيار

- ‌ خيار المجلس

- ‌خيار العين:

- ‌3 - باب الربا

- ‌تحريم الربا:

- ‌أنواع الربا:

- ‌مسألة: هل يلحق بالأصناف التي فيها الربا غيرها؟ خصص فيه الرسول ستة أشياء فهل يلحق بها غيرها

- ‌بيع التمر بالتمر وشروطه:

- ‌بيع الذهب بالذهب:

- ‌بيع الحيوان بالحيوان:

- ‌بيع العينة:

- ‌الشفاعة المحرمة:

- ‌الرشوة:

- ‌بيع الحيوان بالحيوان نسيئة:

- ‌المزابنة:

- ‌مسألة في بيع العرايا وشروطه:

- ‌بيع الدين بالدين:

- ‌4 - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار

- ‌بيع العرايا:

- ‌بيع الثمار:

- ‌5 - أبواب السلم، والقرض، والرهن

- ‌الرهن:

- ‌غلق الرهن:

- ‌الترغيب في حسن القضاء:

- ‌حكم الجمعية وهل هي ربا أو لا

- ‌6 - باب التفليس والحجر

- ‌التحذير من مماطلة الغني:

- ‌ الحجر

- ‌تصرف المرأة المالي:

- ‌7 - باب الصلح

- ‌8 - باب الحوالة والضمان

- ‌حكم الحوالة وشروطها:

- ‌ضمان دين الميت:

- ‌الكفالة:

- ‌9 - باب الشركة والوكالة

- ‌الوكالة:

- ‌حكم الوكالة وشروطها:

- ‌جواز التوكيل في قبض الزكاة:

- ‌جواز التوكيل في ذبح الهدي والأضحية وتفريقهما:

- ‌جواز الوكالة في إثبات الحدود وتنفيذها:

- ‌10 - باب الإقرار

- ‌11 - باب العارية

- ‌حكم العارية:

- ‌وجوب العناية بالعارية وردّها على المُعير:

- ‌أنواع العارية:

- ‌12 - باب الغصب

- ‌حكم الغصب:

- ‌حكم الزرع في الأرض المغصوبة:

- ‌13 - باب الشفعة

- ‌شفعة الجار وشروطها:

- ‌14 - باب القراض

- ‌15 - باب المساقاة والإجارة

- ‌حكم المساقاة:

- ‌إجارة الأرض:

- ‌ المزارعة

- ‌حكم أخذ الأجرة عن الحجامة:

- ‌التحريز من منع الأجير حقه:

- ‌جواز أخذ الأجرة على القرآن:

- ‌الأخذ على كتاب الله له ثلاث صور:

- ‌16 - باب إحياء الموات

- ‌17 - باب الوقف

- ‌18 - باب الهبة والعمرى والرقبى

- ‌الهبة وضوابطها:

- ‌حكم الرجوع في الهبة:

- ‌حكم رجوع الوالد في هبته لولده:

- ‌شروط قبول الهدية:

- ‌فائدة في الإثابة على الهدية وحكمها:

- ‌صور العمرى والرقبى:

- ‌حكم شراء الهبة:

- ‌الحث على الهدية:

- ‌19 - باب اللقطة

- ‌حكم إيواء الضالة دون تعريفها:

- ‌الإشهاد على اللقطة وحكمه:

- ‌حكم اللقطة في مكة:

- ‌حكم لقطة المعاهد:

- ‌20 - باب الفرائض

- ‌أصحاب الفروض

- ‌مراتب العصوبة:

- ‌ميراث الزوجين:

- ‌ميراث الأم:

- ‌ذكر المسألتين العمريتين:

- ‌ميراث الأب:

- ‌ميراث الجد والجدة:

- ‌ميراث البنات والأخوات والإخوة:

- ‌حكم ميراث المسلم للكافر والكافر للمسلم:

- ‌ميراث الجد:

- ‌ميراث الجدة:

- ‌ميراث الخال وذوي الأرحام:

- ‌حكم ميراث الحمل:

- ‌21 - باب الوصايا

- ‌حكم كتابة الوصية:

- ‌ضوابط الوصية:

- ‌حكم الصدقة عمن لم يوص:

- ‌حكم الوصية للوارث:

- ‌الوصية بثلث المال:

- ‌22 - باب الوديعة

- ‌كتاب النكاح

-

- ‌ حكم النكاح

- ‌النهي عن التبتل:

- ‌الحث على تزوج الولود الودود:

- ‌تنكح المرأة لأربع:

- ‌الدعاء لمن يتزوج:

- ‌خطبة الحاجة:

- ‌آداب الخطبة: حكم النظر إلى المخطوبة وضوابطه:

- ‌نهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه:

- ‌حديث الواهبة:

- ‌إعلان النكاح:

- ‌اشتراط الولي:

- ‌نكاح المرأة بغير إذن وليها:

- ‌اشتراط رضا الزوجة:

- ‌حكم الشغار:

- ‌تخيير من زوجت وهي كارهة:

- ‌حكم من عقد لها وليان على رجلين:

- ‌حكم زواج العبد بدون إذن سيده:

- ‌حكم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو أختها:

- ‌حكم خطبة المحرم ونكاحه:

- ‌شروط النكاح:

- ‌حكم زواج المتعة:

- ‌مسألة: هل نية المتعة كشرطها

- ‌حكم زواج المحلل:

- ‌مسائل مهمة:

- ‌نكاح الزاني والزانية:

- ‌مسألة شهر العسل:

- ‌1 - باب الكفاءة والخيار

- ‌حكم زواج العرب الأحرار بالموالي:

- ‌أنواع الخيار:

- ‌حكم من أسلم وتحته أختان:

- ‌حكم من أسلم وتحته أكثر من أربعة:

- ‌رد من أسلمت إلى زوجها إذا أسلم:

- ‌من أسلم وهو أحق بزوجته:

- ‌فسخ النكاح بالعيب:

- ‌حكم العنين:

- ‌2 - باب عشرة النساء

- ‌حكم إتيان المرأة في دبرها:

- ‌مسألة في حد إتيان الرجل الرجل:

- ‌الوصية بالنساء:

- ‌نهي المسافر عن طروق أهله ليلاً:

- ‌النهي عن إفشاء الرحل سر زوجته:

- ‌حقوق الزوجة على زوجها:

- ‌جواز إتيان المرأة من دبرها في قبلها:

- ‌ما يقال عند إتيان النساء:

- ‌لعن المرأة إذا عصت زوجها:

- ‌الملائكة حقيقتهم ووظائفهم:

- ‌حكم الوصل والوشم:

- ‌حكم الغيلة والعزل ووسائل منع الحمل:

- ‌3 - باب الصداق

- ‌تعريف الصداق لغة وشرعًا:

- ‌جعل العتق صداقا:

- ‌صَدَاق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌صداق فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الصداق والحباء والعدة:

- ‌مهر من لم يفرض لها صداق:

- ‌مقدار الصداق:

- ‌تقليل الصداق:

- ‌4 - باب الوليمة

- ‌حكم الوليمة ووقتها:

- ‌شروط إجابة الدعوة إلى الوليمة:

- ‌حكم عدم إجابة الصائم لدعوة الوليمة:

- ‌أيام الوليمة:

- ‌التحذير من مشاركة الرياء للعبادة:

- ‌صفة ولائم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض زوجاته:

- ‌حكم الأكل في حالة الاتكاء:

- ‌التسمية عند الطعام:

- ‌آداب الطعام:

- ‌آداب الشراب:

- ‌5 - باب القسم بين الزوجات

- ‌تحريم الميل إلي إحدى الزوجتين:

- ‌مسألة: كيف يكون العدل بين الزوجات

- ‌القسم للبكر والفرق بينهما وبين الثَّيب عند الزواج:

- ‌جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم لأخرى:

- ‌حسن معاشرة الأزواج:

- ‌القرعة بين الزوجات في السفر:

- ‌النهي عن الشدة في معاملة الزوجة:

- ‌6 - باب الخلع

- ‌الخلع ورد ما أخذت الزوجة:

- ‌عدة المختلعة:

- ‌ أوَّل خلعٍ في الإسلام

الفصل: ‌7 - باب الصلح

‌7 - باب الصلح

الصلح: هو قطع الخصومة، والنزاع بين المتخاصمين والمتنازعين، ويكون في مواضع كثيرة، منها: الإصلاح بين الزوجين، كمال قال تعالى:{وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا} [النساء: 128]

ولقوله تعالى: {وإذا خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء: 35]. ويكون كذلك بين الطوائف التي بينها عداوة، كما يحصل من العداوة بين القبائل، فيصلح بينهما، ومن ذلك قوله تعالى:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] ويكون أيضا من المسلمين والكفار في الحال التي لا يستطيع المسلمين أن يقاتلوا الكفار، فإنه يجرى الصلح بينهم كما جرى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في صلح الحديبية، ولكن هل يصح الصلح إلى الأبد يعني: غير مؤجل أو لا يصح إلا مؤجلاً لاحتمال قوة المسلمين؟ الذي يظهر أنه لا يجوز الصلح إلا مؤجلاً؛ لأن المسلمين قد تتغير حالهم ويكون عندهم قدرة على قتال الكفار، ولأن الصلح غير المؤجل يستلزم سقوط جهاد الكفار؛ لأنه لا يمكن إذا صالح المسلمون أحدا من الكفار، إلا إذا نقص الكفار العهد، ولهذا قال الله عز وجل {إلا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظهروا عليكم أحد فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} [التوبة: 4]

وقال فيما إذا خفنا منهم خيانة: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58]. يعني: لا تغدرهم إذا خفت بيننا وبينكم، أما إذا نقضوا العهد فإنهم يقاتلون كما قال الله تعالى:{أل تقتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة} [التوبة: 13] فالصلح بين الكفار والمسلمين حائز عند الحاجة إليه ثم مقام المسلمين مع هذا العدو المصالح على ثلاث درجات الأولى: إذا لم يكن من هؤلاء نقض للعهد، فالواجب إتمام العهد.

الثاني: إذا خيف نقض العهد ولم ينقض العهد، فالواجب نبذ العهد، يعني: أن نخبرهم أنه لا عهد بيننا وبينكم، لا نباغتهم وننقض العهد، بل نخبرهم.

الثالث: إذا نقضوا العهد فإنه يسقط عهدهم وحينئذ نقاتلهم، وكل هذا موجود في كتاب الله عز وجل.

يكون الصلح أيضا بين المتخاصمين في المال، وهذا يقع كثيراً في المعاملات كالبيع والإجارة والرهن وغيره ذلك، وكل هذه الأمور الأصل فيها الجواز، ولكن قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة وإلا فلا أحد يمنع من الصلح بين المتخاصمين والمتنازعين أبداً، فالأصل الجواز.

ص: 130

835 -

عن عمرو بن *** المزني رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحة *** حلالا أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراماً» .

قوله: «جائز» يعني بذلك: الجواز التكليفي والجواز الوضعي كيف ذلك.

الجواز التكليفي ضد المحرم، فمعنى جائز أي: ليس بحرام، الجواز الوضعي بمعنى: النافذ ليس بفاسد، فضد الجائز من هذا الوجه ضده الفاسد الذي لا ينفذ، إذن الصلح جائز من حيث التكليف الشرعي، وجائز من حيث الوضع، يعني: أنه نافذ ولا يجوز إبطاله بل يجب إتمامه.

وقوله: «بين المسلمين» هذا لا مفهوم له؛ لأنه قيد أغلبي، فإن الصلح بين المسلمين والكافرين جائز بالسنة الفعلية كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا في الحديبية.

قال: «إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراماً» فالصلح الذي حرم الحلال ويحلل الحرام هذا ليس بجائز؛ وذلك لأنه مضاد لله عز وجل في حكمة، تصالح شخصا على شيء محمر هذا لا يجوز، تصالحه على شيء تحرمه عليه عليه وهو حلال له بالشرع- هذا لا يجوز 0 مثال الأول: رجل حصل بينه وبين زوجته نزاع فاصطلحا على أن يطلق زوجته الأخرى، هذا الصلح لا يجوز، لماذا؟ لأنه أحل حراماً، ما هو الحرام؟ الاعتداء على حق الزوجة الأخرى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها» فهذا صلح محرم غير نافذ.

صار بين شخص وآخر خصومة ونزاع فصالحه على أن يبيح له فرج أمته لمدة أسبوع هذا حكمه حرام، لماذا؟ لأنه أحل حراما إذ لا تجوز استباحة الفرج إلا بنكاح أو ملك، وهذا ليس نكاحاً ولا ملكاً، مثال تحريم الحلال: صالحه على ألا يأكل الخبز لمدة ثلاثة أيام هذا ينظر إذا كان فيه مصلحة فإن جميع المصالحات لابد فيها أن يحرم الإنسان من الحلال الذي أحله الله له، لأن الصلح لابد فيه من أن يتنازل الإنسان عن شيء من حقه، وهذا التنازل يقتضي تحريم الحلال باعتبار الصلح. شخص آخر قال لشخص بينهما معاملة قال: أنا لا أقر لك إلا إذا أسقطت عني نصف الدين هذا حرام، لماذا؟ لأنه يحرم الحلال، والحلال هو أن صاحب الدين له

ص: 131

المطالبة بجميع حقه، فإذا صالحته على أن يسقط عنك نصف الدين فقد حرمت عليه الحلال، ما هو الحلال؟ بقية دينه، وهذا لا يجوز، فإن أقر له، وتوسط أناس بينهما على أن يسقط عنه بعض الدين بعد الإقرار يجوز؛ لأن هذا ليس بصلح إذ إن الحق قد ثبت الآن، ولكن هذا من باب الشفاعة على إسقاط بعض الحق وهذا جائز «اشفعوا تؤجروا» .

هناك فرق بين أن أقول: لا أصالحك إلا بكذا وبين شخص تم الإقرار وثبت له الحق ثم شفع إليه شخص آخر على أن يسقط منه، فهذا لا بأس به وهو جائز، ولا يعد هذا من باب الصلح الذي أحل حراما أو حرم حلالاً بل هو من باب الشفاعة التي أسقط بها الإنسان بعض حقه.

رجل عنده دين لشخص يحل بعد سنة فاصطلحا على أن يعجل الدين، ويسقط بعضه، وأقر له، قال: نعم، عندي لك ألف ريال لكن لو تحب أن أعطيك ثمانمائة الآن نقداً وتسمح عن المائتين، قال: ليس عندي مانع، هذا جائز على القول الراجح، لأنه ليس فيه ربا، هذا فيه مصلحة للطرفين ليس فيه ربا لأن صاحب الحق لم يأخذ أكثر من حقه بل أخذ أقل من حقه واستفاد المطلوب بسقوط بعض ما عليه واستفاد الطالب بالتعجيل ففيه مصلحة والربا على العكس من ذلك، الربا فيه ظلم لأحد الطرفين وذهب بعض العلماء بأن هذا لا يجوز، قال: لأن هذا شراء مؤجل بمعجل وأنت لو اشتريت ألف ريال بثمانمائة نقداً لكان هذا ربا لا يجوز، قال: هذا مثله، وأنك أخذت الآن ثمانمائة عن ألف، لكن هذا القول قول ضعيف، لأن هذا ليس من باب المعاوضة، هذا من باب الإسقاط، صحيح أنك لو جئت إلى رجل ثالث وقلت: أنا طلب من فلان ألف ريال الألف ريال التي في ذمته بثمانمائة أعطني ثمانمائة وأنا أحيلك عليه هذا لا يجوز، أما رجل أبرأته من بعض دينه فليس في هذا ربا ولا بيع وشراء أيضا بل هذا يسمى إسقاطا وإبراء.

والحاصل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطانا قاعدة أصلها لنا: «الصلح جائز إلا صلحاً أحل حراماً او حرم حلالا» وهذا يشمل كل شيء، هل يشمل المصالحة على الدية فيمن يثبت عليه القصاص؟ يعني: رجل قتل رجلا عمداً عدوانا محضا، فطالب أولياء المقتول بالقصاص، فثبت القصاص: فصالح المحكوم عليه أولياء المقتول على أن يسقطوا عنه القصاص بمال جائز، ولكن هل يجوز المصالحة بأكثر من الدية، يعني: الدية عندنا الآن مائة ألف قال أولياء.

ص: 132

المقتول: لا نسقط القصاص عنك إلا إذا أعطيتنا مليونا هل يجوز؟ هذا فيه خلاف، فمن العلماء من يقول: لا يجوز أن يصالح بأكثر من الدية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل له قتيل فهو يخبر النظرين إما أن يقتل وإما أن يودي» ولم يذكر شيئاً ثالثا ومن العلماء من قال: إنه يجوز؛ لأن هذا هو الذي ورد عن الصحابة، ولأن هذا حق لأولياء المقتول فلهم ألا يسقطوه إلا بعوض يريدونه.

على كل حال: إذا قلنا بالمصالحة بمقدار الدية فالأمر فيه ظاهر، وإذا قلنا بالمصالحة فهل يدخل تحت الحديث:«الصلح جائز بين المسلمين» أو نقول: يدخل تحت الحديث في قوله: «إلا صلحاً أحل حراماً» لأن هذا الصلح أحل حراما ًوهو الأخذ من مال القاتل أكثر من الدية؟ الظاهر الأول أنه داخل في الصلح، لأن أخذنا من مال القاتل هنا باختياره وليس مكرهاً على ذلك، ولأنه هو الذي تسبب في استباحة دمه، فإذا كان هو الذي تسبب في استباحة دنه فإننه هو السبب الأول والأخير.

ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراماً» يعني: أنهم إذا اشترطوا فإن هذه الشروط لازمة، ودليل هذا من القرآن قوله تعالى:{يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود} فإن الوفاء بالعقد يتضمن الوفاء بأصله ووصفه، والشروط من أوصاف العقود، ولقوله تعالى:{وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} والذي اشترط على نفسه شرطاً قد تعهد به فيكون داخلا في ذلك، إذن المسلمون على شروطهم، متى يثبت الشروط بين المتعاقدين وجب الوفاء بها إلا أن يسقطها من هي له فإن أسقطها من هي له فهي حقه، يعني: لو قال الذي شرط له هذا الشرط: أنا أسقطته فله ذلك مثاله باع شخص على آخر بيتا واشترط البائع سكني البيت لمدة سنة فوافق المشتري على هذا، هل يلزمه الوفاء به؟ يلزم يعني: معناه انه لا يجوز للمشتري أن يمنع البائع من سكناه هذه المدة فإن قال البائع: أنا أسقطت شرطي ولا أريد السكني لأن الله يسر لي بيتي هل له ذلك؟ له ذلك، لأنه أسقط حق نفسه، ولا مانع من أن يسقط الإنسان حق نفسه لأنه له، قال:«إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» «حرم حلالاً» بأنه إذا فعل ذلك صار مضاداً لحكم الله عز وجل «أو أحل حراماً» فهو مضادة لحكم الله، مثال الأول «أحل حراما» إذا قال: بعتك مائة ريال بمائة ريال إلى أجل هذا بيع مشترط فيه الأجل هل يصح اشتراط هذا الأجل؟ لا، لماذا؟ لأنه ربا أحل حراماً إذ إن بيع الفضة بالفضة لابد فيه من التقابض ببذل العقد، قال: بعتك مائة درهم بتسعين درهماً نقداً يعني: بشرط ألا تسعين درهماً هذا لا يجوز؛ لأنه أحل حراماً؛ إذ ن بيع الفضة بالفضة لابد فيه من التقابض ببذل العقد، قال: بعتك مائة ردهم بتسعين درهما نقداً يعني: بشرط ألا أعطيك إلا تسعين درهماً هذا لا يجوز، لأنه أحل حراما، بعتك هذه الناقة بشرط أن يتبعني ما في بطن ناقتك لا يجوز؛ لأن الشرط مجهول، بعتك هذا الست بشرط أن ترهنني ولدك لا يجوز، لأن رهن الولد حرام.

ص: 133

الثاني: قال: «أو حرم حلالاً» يعني: باعه شيئاً وقال له: أبيعك هذا الشيء بشرط أن تمتنع من شيء أحله الله، فهذا أيضاً لا يجوز، ولكن كما قلت لكم قبل قليل: إن كل الشروط لابد فيها من إسقاط مباح حتى المصالحة فلابد أن يكون هناك شرط يحرم الحلال الذي أحله الله.

على كل حال: شرط الولاء للبائع هذا لا يجوز؛ لأنه بالنسبة للبائع أحل له حراماً، لماذا؟ لأن الولاء ليس له فأحل له الحرام، بالنسبة للمشتري حرم عليه الحلال؛ لأن الولاء من حقوقه، فإذا اشترط عليه للبائع ففيه تحريم الحلال.

- رواه الترمذي وصححه، وأنكروا عليه، لأن راوية كثير من عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه.

- وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال: «رواه الترمذي وصححه» أي قال: إنه صحيح، والصحيح حجة، لأنه لا يكون صحيحاً إلا باجتماع خمسة شروط وهي: أن يكون الراوي عدلاً تام الضبط، ويكون السند متصلاً وأن يكون غير معلل ولا شاذ، هذا هو الصحيح، فالترمذي رحمه الله صحح الحديث، لكن أنكروا عليه وهم أئمة المحدثين وقالوا: كيف يصح ورواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف، ونحن نقول: من شروط الصحيح أن يكون الراوي عدلا تام الضبط، فإذا كان الراوي ضعيفا فإننا نحكم بضعفه، ولا نقول صحيحاً، وبناء على ذلك هل لك إذا رأيت الحديث بسند ضعيف تعرف أن أحد رواته ضعيف هل لك أن تقول: ضعيف؟ لا، لأنه ربما يروى بسند آخر لهذا الحديث: وإما أن تقيد، فتقول: هو ضعيف من هذا الوجه؛ لأنك إذا قلت: ضعيف من هذا الوجه خرجت من عهدته، لكن إذا قلت: ضعيف وحكمت عليه بالضعف الموجب رده وهو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه مسألة ليست هينة، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يحكم على ضعف الحديث بمجرد أن يجده بسند ضعيف إلا إذا تتبع الطرف ولم يجده مروياً إلا من هذا الوجه فحينئذ يحكم بضعفه، وإلا فيجب عليه أن يقيد ويقول: هو ضعيف من هذا الوجه حتى يخرج من عهدته، وكما قرأنا في علم المصطلح أن الرجل قد يكون ضعيفاً باعتبار شيخ من المشاريخ، يعني: أن روايته عن هذا الشيخ ضعيفة وروايته عن المشايخ الآخرين صحيحة، عاصم بن أبي النجود أحد القراء الذين تلقي القرآن منهم ومع ذلك هو في الحديث ضعيف؛ لأن الرجل جعل همته كلها في القرآن والبحث عن طرق القراءات فاشتغل بتحقيق القرآن عن الأحاديث فلهذا صار من حيث السند في الأحاديث ضعيف لكن في القرآن حجة تلقته الأمة كلها بالقبول.

ص: 134

على كل حال: أنا أقول: حتى ولو كان الراوي ضعيفا فاعلم أنه قد يكون ضعيفاً بالنسبة لشخص، قويا بالنسبة لشخص آخر، فإذا روى هذا الرجل الحديث عن فلان قلنا: ضعيف وإذا روى عن فلان آخر قلنا: ضعيف، ولهذا تجدون في بعض الأحيان في تراجم الرواة:«فلان ضعيف في شيخه الفلاني» يعني: إذا روى عن هذا الشيخ صار ضعيفاً، فلان ضعيف في الشاميين، فلان ضعيف في المكيين، ولهذا علم الحديث من أشد العلوم حاجة إلى المواصلة والتعهد؛ لأنه دقيق، علم الفقه وغيره من المعلوم يستطيع الإنسان أن يحيط به بسهولة، لكن هذا لا يقدر، لأنه مشكل إن اعتمد على صحيح رواية هذا الرجل من طريق واحد وهو ضعيف في الطريق الآخر صار الجاهل كلما وجد هذا الرجل قال: إن الحديث صحيح؛ لأنه لا يعرف أنه يكون صحيحاً من وجه، وإن روى من وجه آخر فهو ضعيف، فعلم المصطلح علم مهم يحتاج إلى عناية.

الترمذي رحمه الله صحح الحديث لكنهم أنكروا عليه لهذا السبب، قال: وكأنه أعتبر هذا اعتذار عن الترمذي من ابن حجر، كأنه- يعني: الترمذي- اعتبر الحديث بكثرة طرقه، واستفدنا من هذا فائدة: أن الضعيف بكثرة الطرق يصحح، لكن هذا أيضاً فيه نظر، لأن الضعيف بكثرة الطرق يصل إلى درجة قبل الصحة وهي الحسن، لكن الترمذي أحياناً يريد بالصحيح الحسن، وهذا اصطلاح خاص بالترمذي، فيكون معنى تصحيحه إياه أنه حجة لا أنه معناه أنه بلغ الرتبة العليا لكن صحيح على أنه حجة مقبولة، ومعلوم أن الحديث الحسن عند العلماء حجة مقبولة، يعمل به، هذه نكت جيدة في علم المصطلح.

«وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه» يعني: إذن من طريق آخر، وحينئذ يكون هذا الحديث الذي صححه ابن حبان عن أبي هريرة شاهداً، لأنه جاء من حديث صحابي آخر، لكن لو جاء من حديث شيخ آخر والصحابي واحد يسمى متابعا.

نرجع لشرح الحديث، الصلح أنواع: صلح في الحقوق، وصلح في الأموال، وصلح في الحروب، وصلح في السلم، وذكرنا من صلح الحروب/ صلح الحديبية الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، الصلح في الحقوق كالصلح بين الزوجين، الصلح في الدماء كالصلح بين الطائفتين المقتتلين، الصلح في الأموال يدخل فيه هذا الحديث العام:«الصلح جائز بين المسلمين» قال العلماء: الصلح في الأموال إما على إقرار وإما على إنكار، الصلح على الإقرار مثل: أن يدعي شخص على آخر بشيء فيقر له ثم يصالحه على عوض عنه سواء كان المدعي به ديناً أو عيناًن وهذا لا شك في جوازه من الطرفين، مثال ذلك: ادعى شخص على آخر بألف

ص: 135

ريال، فقال: نعم عندي لك ألف ريال، ولكن أريد أن أصالحك على هذا المسجل يعني: أعطيك هذا المسجل بدلاً عن ألف ريال فوافق، هذا يجوز، وسواء كان المسجل يساوي ألف ريال أو يساوي أقل أو يساوي أكثر، الصلح على عين، يعني: إذا كان المدعي به عينا.

قال شخص لآخر: أنا أدعي عليك بأن هذا المسجل لي، قال: نعم، أنا أقر بذلك لكن أريد أن أصالحك على أن تأخذ بدلاً عنه مسجلاً آخر هذا يجوز من الطرفين ولا إشكال فيه، وحقيقته أنه بيع، وإن سمي صلحاً فهو بيع، صالحته عن دين مؤجل ببعضه حالاً يعني: شخص يطلب من شخص مائة ريال مؤجلة إلى سنة فقال: أصالحك على ثمانين ريال نقداً حاضرا يجوز على القول الراجح، لأن هذا ليس من الربا في شيء، فإن صاحب الحق لم يأخذ زيادة وإنما تنازل أصلاً، فهو ضد الربا في الواقع، لكنه أنتفع بشيء وهو تعجيل حقه، فالطالب انتفع بالتأجيل والمطلوب انتفع بالإسقاط فلا ظلم لا في هذا ولا في هذا؟ .

الصلح على إنكار أن يدعي شخص على آخر بألف ريال فيقول المدعي عليه: لا ما عندي لك شيء ثم يخشى أن يحاكمه فيقول: أنا أصالحك على ألف ريال بثمانمائة ريال ودعنا من الخصومة والنزاع، هذا جائز في حق المظلوم، حرام في حق الظالم، أيهما الظالم؟ يحتمل إذا كان المدعي كاذبا، فالمظلوم المدعي عليه، لكنه افتدى بثمانمائة عن ألف خوفاً من المحاكمة إذن المنكر هو الكاذب، والمدعي صادق له، في ذمة هذا الرجل ألف ريال والمنكر كاذب فهنا الظالم المدعى عليه، الصلح هذا جائز ونافذ ظاهراً يعني: في ظاهر الحكم، في الظاهر للناس نافذ لكن في الباطن- أي: ما في بين الإنسان وبين ربه- لا ينفذ في حق الظالم ولا يبرأ منه يوم القيامة؛ لأنه ظالم إما معتد في الدعوى أو معتد في الأنكار، إن كان الكاذب المدعي فهو معتد في الدعوى، وإن كان الكاذب المنكر فهو معتد في الإنكار، إن كان الكاذب المدعي فهو معتد في الدعوى، وإن الكاذب المنكر فهو معتد في الإنكار، المهم أن هذا الصلح صحيح ظاهراً فاسد باطناً، فلو كان المصالح عليه عينا لم يحل للظالم الانتفاع بها، يعني: مثلا ادعى عليه بألف ريال قال: ما عندي لك شيء، فلما رأى أنه سيحاكمه قال: أصالحك عن هذا بهذا المسجل، فأخذه المدعي وهو كاذب فاستعماله لهذا المسجل حرام: كل مرة يستعمله فهو آثم، لأنه ظالم معتد فصار الصلح الآن نوعين على إقرار وعلى إنكار، والذي على إقرار إما على دين، وإما عن عين وكلاهما جائز صحيح، لأنه يفيد الطرفين، وليس فيه كذب ولا إنكار، والنوع الثاني: صلح على إنكار فهذا حكمه أنه جائز صحيح في حق المظلوم حرام فاسد في حق الظالم، سواء كان هو المنكر أو هو المدعي، الشروط الأصل فيها الحل إلى ما أحل حراماً أو حرم حلالاً، والشروط يجب الوفاء بها لقول الله تعالى:{يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود} .

والأمر بالوفاء بالعقد شامل للوفاء بأصل العقد وبوصفه، ووصف العقد هي الشروط المشروطة فيه، الأصل فيها الحل بناء على القاعدة.

ص: 136

(والأصل في الأشياء حل وامنع

عبادة إلا بإذن الشارع)

هذا بيت مفيد جداً، كل الأشياء الأصل فيها الحل، والأصل في العبادات الحظر إلا بإذن الشارع، والأصل في غير العبادات من الأعيان، والمنافع والشروط وغيرها الحل، ويدل لذلك أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو بالطل» فأما ما في كتاب الله حله فهو صحيح نافذ إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، ادعى على رجل بمائة ألف صالح المدعي بولده هل يجوز؟ لا يجوز، لأنه أحل حراماً وهو استرقاق الحر وهو محرم، يقول عز وجل في الحديث القدسي:«ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره» هؤلاء خصمهم الله عز وجل، ومن كان الله خصمه فهو مخصوم مغلوب.

رجل باع على شخص أمة، واشترط البائع على المشتري أن يطأها البائع لمدة سنة، ما تقولون؟ لا يجوز.

رجل اشتري أمة واشترط المشتري أن يطأها دائماً فهذا يجوز، لأنها ملكه.

نعود مرة أخرى للفوائد، وقبل الفوائد ننبه على أن تصحيح الترمذي للحديث واعتذار ابن حجر عنه هذا يعتبر من ابن حجر من الأخلاق الفاضلة، أن الإنسان يلتمس العذر لأخيه ما وجد له محملاً لاسيما إذا كان الإنسان المعتذر عنه معروفاً بالاستقامة والنصح، فإنه لا ينبغي للإنسان أن يتتبع هفواته وزلاته بل يعتذر عنه ما أمكن، احمل الكلام على أحسنه ما وجدت له محملاً، أما من اتبع هفوات الناس فإن يدخل في الحديث:«يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في حجر أمه» لكن الإنسان الفاضل هو الذي يلتمس غيره له العذر، لكن في الواقع أن ابن حجر رحمه الله قال: إنه ضعيف والعلماء تكلموا فيه كلاماً شديداً، في الحاشية عندي قال الشافعي وأبو داود: هو ركن من أركان الكذب- الذي هو كثير- ولكن الحديث من حيث المعنى صحيح لا شك فيه وتشهد له الأدلة الشرعية، ولعل الترمذي أيضا صححه لا باعتبار السند ولكن باعتبار المتن.

ص: 137

على كل حال في هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز الصلح بين المسلمين لقوله: «الصلح جائز» وقد ذكرنا أن كلمة «جائز» تشمل الجواز التكليفي، والجواز الوضعي، فنقول في الجواز التكليفي: جائز. وليس بحرام، ونقول في الجواز الوضعي: نافذ وليس بفاسد.

فإن قال قائل: منطوق الحديث جواز الصلح بين المسلمين، مفهومه عدم جواز الصلح بين المسمين والكافرين أو بين الكافرين؟

فيقال: هذا القيد أغلي «بين المسلمين» والقيد الأغلبي لا يكون مفهومه مخالفاً لمنطوقه، ولهذا جرى الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وهو صلح بين مسلمين وكافرين، وكذلك لو تصالح كافران واحتكما إلينا، وجب علينا أن ننفذ الصلح إذا لم يكن مخالفاً للشرع، إذن هذا القيد أغليي.

ومن فوائد الحديث: أن حكم الله سبحانه وتعالى لا يغيره حكم المخلوق لقوله: «إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراماً» فكل شيء يجري بين الناس مخالفا للشرع فإنه لا ينفذ، لأن حكم الله هو الحكم الأحسن:{من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 50].

ومن فوائد الحديث: أن حكم الله سبحانه وتعالى لا يغيره حكم المخلوق لقوله: «إلا صلحا حرم حلالاً أو أحل حرامأً» فكل شيء يجري بين الناس مخالفا للشرع فإنه لا ينفذ، لأن حكم الله هو الحكم الأحسن {من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 50]

ومن فوائد الحديث: جواز الشروط بين الناس لقوله: «والمسلمون على شروطهم» وكذلك نقول في المسلمون على شروطهم إنه قيد أغلبي فإذا وجدت الشروط بين المسلم والكافر في عقد من العقود فهي نافذة، وكذلك لو وجد شروط بين الكافرين في عقد من العقود فهي نافذة.

ومن فوائد الجملة الأخيرة: أن الشرط المخالف للشرع باطل غير نافذ لقوله: «إل شرطاً حرم حلالا أو أحل حراماً»

ومن فوائده: أن حكم الشرع فوق حكم المخلوق، ولهذا إذا خالف شرط المخلوق شرط الخالق وجب إبطاله.

ومن فوائد الحديث: من عمومه: بطلان جميع الأنظمة المخالفة للشرع، لأن الأمر المخالف للشرع [عبارة عن] شروط توضح وضعها البشر، فكل القوانين المخالفة للشرع مهما كان واضعها فهي فاسدة لا يجوز تنفيذها بل يجب إبطالها، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الشرط الفاسد حتى بعد أن اشترط في قصة بريرة.

836 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره ن يغرز خشبة في جداره ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمي نبها بين أكتافكم» متفق عليه

ص: 138

يجوز في «يمنع» وجهان: الوجه الأول: لا يمنع، والوجه الثاني: لا يمنع، فعلى الوجه الأول تكون «لا» نافية والفعل بعدها مرفوع؛ لأن «لا» النافية لا تغير الفعل، وعلى الوجه الثاني: تكون «لا» ناهية والفعل بعدها مجزوم.

فإن قال قائل: هي ناهية واضحة أن الرسول بنهى، لكن إذا كانت نافية.

فنقول: هذا النفي بمعنى النهي، ويأتي النفي بمعنى النهي تأكيداً، يعني: كأنه لا يمكن أن يمنع جار جاره، فيكون هذا أبلغ من النهي، ولهذا قال العلماء: قد يأتي الخبر بمعنى الأمر وقد يأتي النفي بمعنى النهي فقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] هذا خبر بمعنى الأمر، وهذا الحديث بمعنى الأمر، «لا يمنع جار جاره» نفي بمعنى النهي، قوله:«جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» «خشبة» فهذا عام، وصيغة العموم أنه جمع مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم، وعلى رواية الإفراد «خشبة» نقول: هو نكرة في سياق النهي فيكون عاماً أي خشبة تكون، على هذا فمؤدى اللفظين واحد.

قوله صلى الله عليه وسلم «لا يمنع جار جاره» المراد بالجار هنا: الجار الملاصق، لأن خشبة الجار لا توضع على الجدار إلا إذا كان الجار ملاصقاً، أما الجار الذي ليس بملاصق وإن كان له حق لكن لا يدخل في هذا الحديث.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أن يغرز خشبة» «يغرز» يعني: يغرس، يحفر لها حفرة ويضعها فيها، أو أن يضعها على ظهر الجدار، فالغرز هنا ليس بشرط، معنى الغرز: أن يفتح مكاناً للخشبة ويدخلها فيه ويضعها على ظهر الجدار واضح، وإذا كان الرسول نهى أن يمنع جار جاره من غرز الخشبة فنهيه عن منع جاره من وضع الخشبة على ظهر الجدار من باب أولى؛ لأن الغرز أشد

وقوله: «في جداره» : جدار الجار أو جدار المانع؟ جدار المانع؟ لأن جدار الجار الواضع لا يمكن أن ينهى عنه الرسول، لأنه ملكه، لكن الكلام على جدار المانع.

ففي هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: بيان حقوق الجار، وأن للجار أن ينتفع بملك جاره بما لا ضرر عليه فيه، ومن ذلك وضع الخشبة وهل يلحق بوضع الخشبة ما يساويها؟

الجواب: نعم، وذلك لأن الخشبة إذا وضعها الجار على الجدار استفاد الجار الواضع والجار صاحب الجدار، كيف ذلك؟ أما صاحب الخشبة فاستفادته واضحة؛ لأنه بدلاً من أن يقيم أعمدة أو جداراً آخر ملاصقا لجدار جاره يضع هذه، وأما استفاده الجار صاحب الجدار فلأن وضع الخشب على الجدار تثبيت له وتقيه السيول، وهذا ينتفع به الجدار، لاسيما فيما سبق لما كان الجدار من الطين صار الانتفاع بذلك واضحاً، وهذا الحديث ظاهره يمنع صاحب

ص: 139

الخشبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» ومعلوم أنه لا يحل لك أن تضر غيرك بمنفعة نفسك.

إذا قال قائل: ما رأيكم فيما لو أراد أن يجري الماء على أرضه إلى أرضه التي وراءها يعني: أراد صاحب الماء أن يجري الماء على أرض جاره إلى أرض له وراء أرض جاره فمنع الجار.

نقول: هذا لا يجوز لصاحب الأرض أن يمنع صاحب الماء من إجرائه على الأرض إلا أن يكون في ذلك ضرر، فإن لم يكن في ذلك ضرر فإنه لا يجوز أن يمنع، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما أراد أن يمنع محمد بن سلمة من جريان الماء لجاره فقال عمر:«والله لتمرن به ولو على بطنك» يعني: لو فرضنا أننا أجريناه على بطنك لا يمكن تمنع، لماذا؟ لأن فيه منفعة لصاحب الأرض وفيه منفعة لصاحب الماء، أما صاحب الماء، فلأن الماء يصل إلى أرضه الأخرى، وأما صاحب الأرض؛ فلأنه يمكن أن يغرس على الماء، وكذلك الزرع حول الماء ينتفع لكن لو قال صاحب الأرض: أنا سابني على الأرض بناء فهل له أن يمنع؟ نعم، له أن يمنع، لأن الماء لو مشى من تحت البناء أضر به.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب على المسلم ألا يمنع أخاه حق الانتفاع بملكه إذا لم يكن عليه ضرر، وجهه: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وعلى هذا فلو أن رجلا مر برجال جالسين تحت جداره مستظلين به من الشمس، فقال: قوموا هذا ظلال جداري، هذا له الحق أو لا؟ لا، ليس له الحق، لكن لو دخلوا البيت واستظلوا بظل الجدار، معلوم له الحق ليس من أن يخرجهم من الظل ولكن يخرجهم من بيته، ولما جاءت امرأة إلى الإمام أحمد رحمه الله تسأله قالت: يا أبا عبد الله إن السلطان إذا مر بنا في الليل ونحن نغزل ازداد غزلنا بواسطة الأنوار التي يمر بها فهل يحل لنا ذلك- أي: هذه الزيادة/ لأن أنوار السلاطين في ذلك الوقت ليست نزيهة من كل وجهن فقال الإمام أحمد: نعم يحل هذا، ولما أدبرت سأل من بجنبه قال: كيف هذه تسأل هذا السؤال الدقيق؟ قال: هذه أخت إبراهيم بن أدهم، فدعا بها فقال: لا يحل لكم، كيف؟

قال: نعم من بيتكم خرج الورع، انظر كيف اختلفت الفتوى.

ص: 140

على كل حال: أقول: إن مثل هذه المنافع العامة لا يجوز لأحد أن يمنع منها من ينتفع بها.

ومن فوائد الحديث: أنه إذا غرز الجار الخشبة لم يلزم بما يسمونه المباناة عندنا، يعني: أن الجار إذا بني وأحاط بيته بجدار، ثم بني جاره وأراد أن يغرس خشبة على الجدار قال: لا يمكن حتى تسلم نصف قيمة الجدار وتسمى المباناة. ولكن ظاهر الحديث أنه ليس للجار أن يطلب هذه القيمة؛ لأن الجدار لمن؟ الجدار له، ولهذا قال:«على جداره» فهو ملكه كيف تطالبني أن أحمل عنك بعض نفقة ملكي؟ فإذا قال: نعم تحمل بعض نفقة ملكي لأنك انفقت به، فالجواب: أن هذا النفع قد جعله الشارع لي ونهاك أن يمنعني، لكن الواقع أن الأمر عندنا على خلاف ذلك، والحكام يحكمون بوجوب دفع نصف النفقة ولعلهم يلاحظون في هذا قطع النزاع؛ لأنهم يخشون أن يتأخر الجار في البناء من اجل أن يقيم جاره الجدار وربما يتكلف عشرة آلاف أو أكثر؛ فإذا بني شرع هذا في البناء فيكون هذا حيلة فلذلك كان القضاة عندنا يحكمون بدفع المباناة يعني: دفع نصف التكاليف على هذا الجدار؛ إذا دفع نصف التكاليف يكون الجدار الآن مشتركاً بين الطرفين لو آل للسقوط ألزم الطرفان ببنائه، وعلى عدم تحميل نصف التكاليف يكون الجدار للأول، ولا يلزم إذا مال الجدار للسقوط ببنائه.

قال: «ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟ » يعني: أي شيء لي «أراكم عنها» أيك عن هذه السنة التي حدثتكم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «معرضين» يعني: لا تعملون بها، «والله لأرمين بها» أي: بالسنة، «بين أكتافكم حتى تنزل عليكم من فوق فترهقكم عملاً» وقيل:«والله لأرمين بها» أي: بالخشبة، أي: لا جعلنها على أكتافكم إن منعتم من وضعها على الجدار، فعلى الوجه الأول يكون الضمي في قوله:«بها» عائداً على السنة، وعلى الثاني يكون عائداً على الخشبة، ولكن أيهما أنسب؟ قال بعض العلماء: الأنسب الثاني، ويؤيد ذلك أمران الأول: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال ذلك حين كان والياً على المدينة لمروان فهو أمير والأمير له سلطة التنفيذ ولو بالقوة، والثاني: أنه يبعد أن يقول أبو هريرة عن السنة: لأرمي نبها بين أكتافكم؛ لأن السنة الأليف أن يقال فيها: لألقينها بين أيديكم ولا توصف بالرمي بين الأكتاف حتى تكون وراء الظهور، بل تلقى بين الأيدي حتى يقتدي بها الناس، ثم هناك وجه ثالث يرجح أن ما بين الأكتاف هو موضع الحمل عادة، فكان أنسب أن يكون المراد بها الخشبة، ونظير هذا قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:«والله ليمرن به ولو على بطنك» يعني: الساقي للماء الذي يمر في ملك الجار.

ص: 141

ومن فوائد الحديث: أن المنافع المتحمضة التي ليس فيها ضرر لا يجوز الامتناع؛ وذلك لأن وضع الخشب فيه مصلحة للطرفين؛ أما صاحب الجدار؛ فلأن وضع الخشب عليه يقيه من الشمس والأمطار ويزيده شدة وقوة، لأن البناء يشد بعضه بعضا، وأما صاحب الخشب فالمنفعة له ظاهرة، وظاهر هذا الحديث أنه لا يشترط الضرورة، يعني: لا تشترط للنهي عن منعه أن يكون صاحب الخشب مضطراً إلى ذلك، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يشترط أن يكون مضطراً إلى ذلك بحيث لا يمكنه التسقيف إلا على جدار جاره، فإن كان يمكنه التسقيف على الجهة الأخرى فإنه يجوز للجار أن يمنعه، وكذلك يمكنه التسقيف بإقامة أعمدة وجسر على الأعمدة توضع عليه الخشب فلا ينهي الجار عن منعه من وضع الخشب على الجدار، ولكن ظاهر الحديث أولى بالتقديم، وهو أنه لا تشترط الضرورة، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يتضرر الجدار بذلك أو لا يتضرر، ولكن هذا الظاهر غير مراد، ما الذي يخرجه عن الإرادة؟ الأحاديث العامة الأخرى الدالة على أنه «لا ضرر ولا ضرار» ومعلوم أن هذا فيه الضرر وإذا كان الجار قد أراد الضرر صار إضراراً أيضا.

ومن فوائد الحديث: تعظيم حق الجار على جاره؛ ولهذا أضافه قال: «جار جاره» من باب التحنن والتعطف على الجار، ولا شك أن للجار حقاً عظيما على جاره، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «والله لا يؤمن والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» فالجار له حق على جاره، ومن حقوق ألا يمنعه هذا الحق.

ومن فوائد الحديث: أنه لو كان الجدار مشتركاً فإنه لا يمنعه من وضع الخشب على جداره، يقال: إنه منع، أو إذا نهى عن منعه من وضع الخشب على الجدار الخاص بالجار فمن باب أولى إذا كان الجدار مشتركاً؛ لأن الجار له حق فيه.

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للأمير ومن ولاه الله على شيء أن يكون قوياً في إمرته لقوله: «ما لي أراكم عنها معرضين

إلخ» واللين له موضع، والشدة لها موضع، فإن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم استعمال اللين فهو خال من الحكمة، فأنتم قد مر عليكم مسائل كثيرة استعمل

ص: 142

فيها الرسول صلى الله عليه وسلم اللين، وأخرى استعمل فيها الشدة، الرجل الذي كان لابسا خاتم ذهب فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم من يده ورماه به، وهذا نوع من الشدة، والذين اشترطوا الولاء في قصة بريرة قام صلى الله عليه وسلم وخطب خطاباً توبيخياً عظيماً، فالمهم أن الإنسان ينبغي له أن يستعمل الشدة في موضعها واللين في موضعه، ولهذا قال المتنبي وهو شاعر حكيم في الحقيقة:[الطويل]

(ووضع الندار في موضع السيف بالعلا

مضر كوضع السيف في موضع الندا)

وهذا صحيح إذا وضعت الندا يعني: الكرم والعطاء في موضع السيف فهذا مهانة وذل، بالعلا كوضع السيف في موضع الندا، يعني: في موضع الكرم لا تضع السيف، وفي موضع السيف لا تضع الكرم، بل كن حكيما في هذا وهذا.

ومن فوائد الحديث: استعمال المبالغة في الوعيد لقوله: «والله لأرمي نبها بين أكتافكم» لأن الظاهر أن أبا هريرة لم يقصد بهذا أن توضع الخشب على الأكتاف، لأن هذا أمر لا يطاق، فيكون هذا من باب المبالغة في الوعيد مع أنه أقسم رضي الله عنه.

837 -

وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه» رواه ابن حبان، والحاكم في صحيحهما.

قوله: «لا يحل لامرئ» هذه من أسماء الأجناس للرجال، ويقال في النساء امرأة، ولكن تعليق الحكم بالرجال في قوله:«لامرئ» من باب التغليب وليس من باب التقيد.

وقوله: «أن يأخذ عصا أخيه» أي: في الدين، وإن اجتمع الدين والنسب صار تأكيداً على تأكيد، وقوله:«بغير طيب نفس» أي: بغير رضا منه، لأن الإنسان إذا رضي طابت نفسه، وإذا لم يرضي لشحت نفسه بالشيء.

ففي هذا الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يأخذ الإنسان عصا أخيه بغير نفس منه، لأنه عدوان، وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى في قوله تعالى:{يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29]

وعلى هذا أساس كل معاملة، كل معاملة لابد فيها من رضا وطيب نفس إلا ما استثنى فإن الإكراه قد يكون بحق، وإذا كان بحق صار كالرضا، لأن من لم يرض بالشرع ألزم بالرضا به.

ومن فوائد الحديث: تحريم أخذ مال الغير بغير حق.

ص: 143

فإذا قال قائل: أنت تقول: «مال» والحديث «عصا» ومال أعم من عصا، فكيف تستدل بالأخص على الأعم، لأن القاعدة أن يستدل بالأعم على الأخص؛ لأن العام يدل على جميع أفراده، لا أن يستدل بالأخص على الأعم، يعني: أن الدليل لا يكون أخص من المدلول.

فالجواب: أن ذكر العصا تنبيه على ما هو أعظم منه، وعلى هذا فيكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم العموم، ونظير هذا من بعض الوجوه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرام: الغراب، والحدأ، والفارة، والعقرب، والكلب العقور» فهذه الخمس لا يقال: إن غيرها لا يقتل في الحرم، بل ما كان مثلها في الأذى كان مثلها في الحكم، وما كان أعظم منها كان أولى منها بالحكم، فالذئب مثلا يقل في الحرم؛ لأنه أشد من الكلب العقور، والحية تقتل؛ لأنها كالعقرب أو أشد، الجرد يقتل؛ لأنه كالفارة وعلى هذا فقس.

ومن فوائد الحديث: أنه إذا أخذ الإنسان مال أخيه بطيب نفس منه فلا بأس بذلك، ولكن هذا الإطلاق يقيد بالنصوص الأخرى الدالة على أنه لابد أن يكون المعامل جائز التصرف إن كان تصرفاً، وجائز التبرع إن كان تبرعاً، أيهما أوسع: التصرف أو التبرع؟ التصرف أوسع، ولهذا نقول: من جاز تبرعه جاز تصرفه، ولا نقول: من جاز تصرفه جاز تبرعه، فولي اليتيم يجوز أن يتصرف في مال اليتيم، ولكن لا يجوز أن يتبرع منه، الوكيل يجوز أن يتصرف فيما وكل به، ولكن لا يجوز أن يتبرع به، الذي عنده دين مستغرق لماله يجوز أن يتصرف في ماله ولا يجوز أن يتبرع فيه فالتبرع أضيق، وظاهر الحديث أنه لو طابت نفسه بعد التصرف جاز ذلك، وعليه فيكون فيه دليل على جواز تصرف الفضولي، وهو أن يتصرف الإنسان بمال غيره بغير ولاية ثم يأذن الغير في هذا التصرف، يسمى تصرف فضولي؛ لأنه متوقف على إذن الغير، فهذا التصرف فيه خلاف بين العلماء، والراجح أنه ينفذ في كل مسألة أجازها من له الحق، فلو بعت ملكك بدون توكيل منك ثم بعد ذلك أذنت لي وأجزت التصرف فيه خلاف بين العلماء، والراجح أنه ينفذ في كل مسألة أجازها من له الحق، فلو بعت ملكك بدون توكيل منك ثم بعد ذلك أذنت لي وأجزت التصرف فالصحيح الجواز، قال: ثم هنالك أن الإنسان يتردد فيما إذا كان الأمر يحتاج إلى نية، كما لو أديت الزكاة عنك ثم أجزتني بعد ذلك هل نقول: بأن الزكاة أجزأتك؟ أما على قول من يقول: إن تصرف الفضولي لا ينفذ إلا في مسائل معينة، فظاهره أن الزكاة لا تجزئ، وأما على القول بأن الأصل في تصرف الفضولي الصحة إذا أجيز، فإن الزكاة عندي فيها نظر، وذلك لاشتراط النية ممن تجب عليه عند الدفع، فقد يقال: إنها لا تجزئ؛ لأن المالك حين الدفع لم ينو، وقد يقال: إنها تجزئ؛ لأن الدافع فقد يقال: إنها لا تجزئ؛ لأن المالك حين الدف لم ينو؛ وقد يقال: إنها تجزئ؛ لأن الدافع نواها زكاة عن صاحبها وإذا كان نواها زكاة أجزأت، وربما يقوي هذا الاحتمال ما جرى من أبي هريرة مع الشيطان، أبو هريرة كان وكيلاً على زكاة الفطر في رمضان وقد جمع تمراً كثيراً،

ص: 144

وفي ذات ليلة جاءه شخص في صورة فقير فأخذ من التمر فأمسك به أبو هريرة وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا فقير وذو عيال، فرق له أبو هريرة وأطلقه، فلما أصبح أبو هريرة غدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ما فعل أسيرك البارحة» أخبره الله من طريق الوحي، فقال: يا رسول الله، إنه ادعى أنه ذو حاجة وذو عيال فأطلقته، قال:«كذبك وسيعود» .

يقول: فعلمت أنه سيعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم سيعود، فجاء فأخذ من التمر، فقلت: لأرفعنك إلى الرسول، فادعى الفقر فأطلقه، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما فعل أسيرك البارحة؟ » قال: يا رسول الله، ادعى الفقر فأطلقته، قال:«كذبك وسيعود» فجاء فأخذ من التمر فأمسكته، فقلت: لن أتركك أبداً إلا عند الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: سأخبرك بآية من كتاب الله إذا قرأتها لم يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، آية الكرسي: فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يضمن أبا هريرة الزكاة التي دفعها إلى هذا الشخص مع أنه لم يوكل في الدفع، إنما وكل في الحفظ فقط، فنقول: إن الحديث الذي معنا يدل على جواز تصرف الفضولي، لأنه بطيب نفس من صاحبه.

إذا قال قائل: لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث عقيب حديث أبي هريرة؟

قال الشارح: ليتبين أن قوله: «لا يمنع جار جاره» على سبيل الأولوية، وذلك لأننا لو مكنا الجار من وضع الخشب على جدار الجار لكان اعتدى على مال أخيه ووضع الخشب على جداره، فكأن المؤلف يقول: إن حديث أبي هريرة ليس للتحريم ولكن من باب الأولى، لكن هذا ليس بصحيح، ما أظن أن المؤلف أراد هذا، وذلك لأن حديث أبي هريرة لا يتنافى مع هذا الحديث، حديث أبي هريرة من حقوق الجار على الجار وليس فيه أخذ للمال الجدار يبقى على ملك صاحبه ولم يتضرر الجدار بذلك، ثم إن الحديث «لا يحل لامرئ

إلخ» ليس على عمومه، فإنه يخصص منه أشياء كثيرة منها: الرهن مثلاً، الرهن يباع بغير طيب نفس من صاحبه؛ يعني: مثلا أن تطلب من زيد ألف ريال فرهنك زيد مالاً وقال: خذ هذا المال رهنا عندك إذا حل الأجل ولم يوفك فبعه وخذ حقك رضي راهنه أم لم يرض، كذلك تؤخذ النفقة ممن تجنب عليه رضي أم لم يرض، فالحديث ليس على عمومه، يعني: خصص بأدلة أخرى تدل على أن الإنسان إذا امتنع من حق واجب عليه أخذ منه قهراً رضي أم لم يرض.

ص: 145