الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكن لو ترك رفع اليدين مثلاً عند تكبيرة الإحرام زهدًا في السُنة ورغبة عنها ماذا نقول؟ هذه كبيرة، أما لو تركها تهاونًا -يعني: كسلاً- فهذا ليس بكبيرة ولا يأثم بها، ففرق بين الذي يتركها رغبة عنها؛ لأن الذي يتركها رغبة عنها يكون قد حمل كراهة لها وبعدًا عنها، فيكون ما قام في قلبه هو الذي أثر فيه حتى جعل تركه للسنة كبيرة.
وقد يقول قائل: إن قوله: «من رغب عن سنتي» أي: عن سنته الواجب فعلها؟
فيقال: حَتَّى ولو حمل الحديث على هذا الوجه فإن ترك الواجب لا يُؤدي إلى الكبيرة إلا على حسب الحجم الواجب وأهميته، لكن الرغبة عن السنة -أعني: تركها زهداً فيها- لا شك أنه كبيرة، يعني: لو قيل: لماذا لم تفعلها؟ قال: لا أريد أن أفعلها هذه ليست بشيء، ويقع في نفسه شيء من الزّهد فيها.
ومن فوائد الحديث: أن من اشتد تمسكه بالسُنة فهو من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن منه حسا أو
معنى؟ معنى، بمعني: أنه تابع له تمام الاتباع، فكلما تمسكت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كنت أولى الناس به، ويشهد لهذا قوله تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
ومن فوائد الحديث: أن السنة تطلق على الطريقة، فتشمل الواجب والمستحب، ما تقولون فيمن ترك الزواج رغبة عن السنة؟ يكون آثمًا، نعم وفاعلاً لكبيرة، أما من تركه وحشة منه وهيبة فإن هذا لا يكون قد أتى كبيرة، ومن تركه خوفا من الفقر نقول هذا سوء ظن بالله؛ لأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، فأنت إذا تزوجت فتح الله لك باب رزق يكون رزقا لزوجتك وليس الزواج سببًا للفقر.
الحث على تزوج الولود الودود:
926 -
وعنه رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة، وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويوقل: تزوجوا الولود الودود. فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة» . رواه أحمد، وصححه ابن حِبان.
- وله شاهد عند أبي داود، والنسائي، وابن حِبان أيضًا من حديث معقل بن يسار.
قوله: «عنه» ، أي: عن أنس، وقوله:«كانّ» ، يقول الأصوليون: إن «كان» كان خبرها فعلا
مضارعًا فهي تدل على الدوام غالبًا، فإذا قلت: كان يفعل كذا؛ فهو يعني: أن هذا من شأنه غالبًا وليس دائمًا، والدليل على ذلك أنه ليس دائمًا أن من الصحابة من يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة بسبح والغاشية، وآخرون يقولون: كان يقرأ بالجمعة والمنافقين، ولو قلنا: إن «كان» تفيد الدوام دائمًا لكان بين الحديثين تعارض، ولكن هذا يدل على أن «كان» ، تفيد الدوام غالبًا، ثم هل هذا مستمر أو غير مستمر؟ هذا يُؤخذ من دليل آخر.
قال: «كان يأمرنا بالباءة» ، وهي النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم الباءة
…
» إلخ، «وينهى
عن التبتل»، الأمر والنهي ضدان؛ لأن الأمر طلب الفعل، والنهي: طلب الكف فهما ضدان.
وقوله: «التبتل» يعني: الانقطاع عن النكاح ينهى عنه نهيًا شديدًا، يعني: أنه يشدد في النهي عنه.
ويقول -إضافة إلى الأمر بالباءة-: «تزوجوا الولود
…
» إلخ. الأمر هنا بصفة من يطلب تزوجها من النساء، «الودود» يعني: كثيرة المودة التي تتودد للزوج؛ لأن من النساء من يتودد للزوج بلين الكلام والتجمل وغير ذلك من أسباب المودة، ومن النساء من تكون بالعكس، بعض النساء اذا دخل زوجها وصدره ضائق فعلت ما يوسع صدره حتى يسر ويزول عنه ضيق الصدر، وبعض النساء إذا دخل زوجها وهو ضائق صدره كتمت في وجهه فزادته بلاء وسوء، الأولى نسميها ودودًا والثانية نسميها بغوضًا، الثانية في الحقيقة تُوجب أن يبغضها زوجها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن نتزوج الودود، والحكمة من ذلك ليس هو الاقتصار على السعادة الزوجية فقط، بل الحكمة من ذلك: أن الإنسان إذا ودُ زوجته أحب ملاقاتها، وبملاقاتها يكثر النسل: ولهذا قال بعده: «الولود» يعني: كثيرة الولادة، ومن المعلوم أن النساء يتزوجن أبكارا وثيبات، الثيب معروف أنها كثيرة الولادة، لأنها سبق أن ولدت مثلاً، والبكر غير معروفة بكثرة الولادة في نفسها لكنها تُعرف بكثرة الولادة بأقاربها، وذلك لأن الوراثة كما تكون في الخلق الظاهر تكون كذلك في الخلق الباطن، وكذلك تكون في الخصائص الجسدية، فإذا كانت المرأة من أناس تُعرف نساؤهم بكثرة الولادة فهي ولود، ولو كانت بكرا اعتبارا بحال قريباتها.
وقوله: «فإني مكاثر» يعني: مُباه بكم الأنبياء أينا أكثر هو أو غيره، ومن المعلوم أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأتباع وأنه لا نبي أكثر أتباعا منه، وفي الرؤيا التي أريها النبي صلى الله عليه وسلم فعُرضت عليه الأمم ورأى النبي معه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، رفع له سواد عظيم فظن أنه أمته، فقيل له: هذا موسى وقومه، ثم رفع رأسه فإذا سواد عظيم قد سدّ الأفق أكثر من الأول، فقيل: هذه أمتك. وقال: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة» ، وكل الأمم نصف، وهذه
الأمة نصف، وأخبر أن الجنة مائة وعشرون صفا، وأن هذه الأمة ثمانون صفا، فتكون هذه الأمة بمقدار الثلثين، لكن كيف تكون مقدار الثلثين لابد من سبب من أسباب ذلك كثرة النسل في الأمة، فإذا كثر النسل في الأمة كثرت الأمة.
يُستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: وجوب النكاح لقوله: «يأمرنا بالباءة» ، والأصل في الأمر الوجوب، ويؤيد ذلك أنه ينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، والتبتل ضد النكاح، فإذا كان ينهى عنه تهيا شديدا صار الأمر بالباءة أمرا أكيدا، وهذا القول هو الراجح أن النكاح واجب على الإنسان لكن بشرط القدرة، فإن لم يكن قادراً فإنه لا يجب لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
ومن فوائد الحديث: النهي عن التبتل، فالإنسان لا يتبتل حَتَّى لو فرض أنه تزوج وأتى بالواجب ثم ماتت زوجته أو طلق فإنه يُنهى أن يتبتل، لأن بعض الناس ربما يتدين بعد زواجه ثم يقول: ما لي وللنساء، فيطلق زوجته، فنقول له: هذا حرام عليك أن تتقرب إلى الله بترك النكاح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من رغب عن سنتي فليس مني» ، ونهى عن التبتل نهيا شديدا.
وَمِنْ فوائد الحديث: أن النهي ينقسم إلى شديد وخفيف، فالنهي الخفيف يقتضي الكراهة، والشديد يقتضي التحريم.
ومن فوائد الحديث: أن الأوامر والنواهي تتفاضل فبعضها أوكد من بعض، يعني: بعض المنهيات أو بعض المأمورات أوكد من بعض؛ لقوله: «ينهى نهيًا شديدًا» ، وقد عرفتم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، والصغائر تتفاوت، وكذلك الكبائر تتفاوت.
ومن فوائد الحديث: مشروعية انتقاء المرأة الودود الولود، فإن قال قائل: إذا تعارضت الموادة والولادة مع الدين فأيهما يقدم؟ الدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اظفر بذات الدين تربت يمينك» .
ومن فوائد الحديث: أنه كلما كانت المرأة أقوى ودًا للرجل كان ذلك أسعد للحياة، ويؤيد هذا قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. لتقوي ذلك السكون وهو كذلك، ووجهه: أن المودة محلها القلب، والقلب مُدّبر الأعضاء، فإذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت، وإذا أحب أحبت، وإذا كره
كرهت، فهو المدبر، فإذا ألقى الله الودّ بين المرأة وزوجها حصل لهما من الألفة والسعادة ما لا يحصل لو كان الأمر بالعكس.
ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يُباهي الأنبياء بأمته لقوله: «فإني مكاثر بكم» ، ولهذا ذكر العلماء من فوائل النكاح: تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، ونحن يسعدنا كثيرًا أن نسعى لما يحقق رغبة النبي صلى الله عليه وسلم ومباهاته بأمته.
ومن فوائد الحديث: تشوف الشارع إلى كثرة الأولاد لقوله: «الولود» ؛ وذلك لأن كثرة الأولاد عزّ للأمة واستغناء بنفسها عن غيرها وهيبة لها، وقد مَنْ الله على بني إسرائيل بالكثرة فقال:{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء: 6] وذكر شعيب قومه بذلك فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86: ]. ويتفرع على هذا: أن الدعوة إلى تقليل النسل هي دعوة من كافر يريد تقليل الأمة الإسلامية أو جاهل لا يدري ماذا يترتب على كثرة النسل، أو إنسان ليس له هم إلا الشهوة يريد أن تتفرغ زوجته لقضاء وطره منها وليس يسائل أن يكثر الأولاد أو يقل الأولاد، ونحن نشاهد كثيرًا من الناس اليوم مع الأسف يحرصون على تقليل الأولاد يقولون: لأن هذا يمتع الإنسان بزوجته أكثر وتتفرغ الزوجة لزوجها أكثر، وإذا كانت موظفة تتفرغ لوظيفتها أكثر وهذا كله نظر قاصر، فالأولاد كلهم، خير ويفتح الله عليك من أبواب الرزق ما لا يخطر على بالك بسبب أولادك، لأن الله يقول:{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
حتى صار بعضهم يستعمل ما يُعرف عند النساء بحبوب منع الحمل، وهذه ضارة من الناحية الطبية ومانعة لمقصود الشرع من كثرة النسل.
ومن فوائد هذا الحديث: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تكثير أمته؛ لأنه أمر وعلل؛ أمر بتزوج
الولود الودود، وعلل ذلك بأنه يكاثر بهذه الأمة الأنبياء يوم القيامة.
ومن فوائده: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يتباهون أيهم أكثر تابعًا، لماذا؟ لأنه كلما كثر أتباع النيي كثر أجره لأنهم إذا اتبعوه وعملوا بشريعته فإن له أجر هذا العامل:«من سَنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
قوله: «وله شاهد
…
» إلخ، الشواهد والمتابعات تُقوي الحديث، فالمتابعات متابعة الراوي في السند إلى منتهاه، والشواهد أن يأتي حديث بمعنى الحديث المشهود له لكن من طريق آخر، فهنا حديث معقل بن يسار والأول حديث أنس، فالشاهد يكون بمعنى الحديث المشهود له، والمتابعة تكون في السند، وقسمها العلماء إلى متابعة قاصرة ومتابعة تامة، فإن كانت في