الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى الهدية لو أهدى إليه المقترض لا يجوز له قبوله، لأن كل قرض جر نفعًا فهو ربا، هذه القاعدة معروفة. ومن فوائد الحديث: إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاحتفاظ بالأموال في قوله: «أمسكوا عليكم أموالكم» ، وهذا يدل بالمفهوم علي النهي عن إضاعة الأموال وقد دل عليه الكتاب والسُنة، قال الله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. وقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إضاعة المال، وأن الإنسان يُسأل عن ماله فيما أنفقه، وهذا يدل على وجوب حفظ الأموال حتى لو كان الإنسان غنيًا لا يجوز له أن يبذر، كما قال الله تعالى في وصف عباد الرحمن:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67]. لما قال بين ذلك فيه احتمال أن يكون إلى التقتير أكثر أو إلى الإسراف أكثر، فإن كان إلى التقتير أكثر كان مذموما، وإن كان إلى الإسراف أكثر كان مذمومًا، ولهذا قيدها بقوله:{قَوَاماً} يعنى: مستقيمًا ليس فيه ميل إلى هذا ولا إلى هذا.
ومن فوائد الحديث: أن الرقبى التي تمضي للمعمر أو للمرقب تكون إذا أطلقت، وإذا قيدت بأنها له ولعقبه، أي: في صورتين، وأنها إذا قيدت برجوعها إلى المرقب أو المعمر فإنها ترجع إليه.
حكم شراء الهبة:
(89)
4 - وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال: لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم
…
». الحديث متفقٌ عليه.
قوله: «حملت على فرس في سبيل الله» ، «حملت» لها مفعول محذوف تقديره: حملت ر جلاً على فرس، فالمعنى: أنه تصدق على هذا الرجل بفرس يُجاهد عليه في سبيل الله.
وقوله: «فأضاعه» يعني: أهمله فلم يقم بواجبه يعني: أجاعه أعطشه ولا أعلفه، فضعف الفرس.
وقوله: «فظننت أنه بائعه برخص» أي: بثمن قليل.
وقوله: سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك كأنه رضي الله عنه تردد في جواز شرائه بعد أن أخرجه في سبيل الله، فقال:«لا تبتعه» يعني: لا تشتره، وعندنا كلمتان: باع وابتاع، يعني: بذل الشيء بثمن، ابتاعه: اخله بثمن، ونظيرها شرى واشترى، شرى، يعني: باع، واشترى، يعني: أخذ،
عندنا أن شرى بمعنى اشترى، يقول القائل: شريت السلعة وهو قد اشتراها، وهذا لا يستقيم في اللغة العربية، بل يُقال: اشترى فإذا قال: شريت السلعة فالمعنى بعتها، ولهذا لو أن شخصا قال لك: يا فلان لماذا تشتري بيت فلان، وأنا لي فيه نظر؟ فقلت: والله ما شريته تكون بارا بيمينك، إذن في هذا تورية بناء على استعمال الناس لهذه المادة شرى أي: اشترى.
وقوله: «وإن أعطاكه بدرهم» يعني: ولو كان بثمن رخيص، ومعلوم أنه لو طلب عليه ثمنا كثيرا ما اشتراه عمر، لكن يقول: لا تشتره بأي حال من الأحوال.
تمام الحديث: «فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» : الحديث الصورة فيه واضحة.
في هذا الحديث فوائد كثيرة: منها جواز إيقاف الحيوان في سبيل الله لقوله: «حملت على فرس في سبيل الله» فإن الظاهر أنه أوقفه، ويُحتمل أنه رضي الله عنه تصدّق به على الرجل صدقة مطلقة على أنه ملكه.
فإن قال قائل: أفلا يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تعد في صدقتك، فإن العائد
…
إلخ» أليس هذا يقوي أن عمر تصدق به على ذلك الرجل تمليكا؟ !
فالجواب: أن الوقف يُسمّى صدقة كما مر علينا في كتاب الوقف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «تصدق بثمره» فالوقف يُسمّى صدقة، على كل حال: سواء أوقفه عمر أو أعطاه هذا الرجل على أنه صدقة تمليك، فهو دليل على جواز ذلك.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يشتري الإنسان صدقته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عمر عن
شراء هذا الفرس.
ومن فوائده: أن الشراء نوع من الرجوع في الهبة أو الصدقة، وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعد في صدقتك
…
إلخ».
فإن قال قائل: كيف يكون عودًا في الصدقة وهو قد اشتراه بثمن؟
فجوابه: أن العادة في مثل هذا أن المتصدق عليه يعطي المتصدق الشيء بأقل من ثمنه فإذا نقص الثمن فكأنه عاد ببعض الصدقة.
مثاله: إذا قدرنا أن هذا الفرس يُساوي مائة درهم، فأراد عمر أن يشتريه بثمانين درهمًا فقد عاد بعشرين درهمًا يعني: خمس ما تصدق به، فهذا نوع من الرجوع في الصدقة، وكذلك لو وهبت شخصا هبة ثم اشتريتها منه فإنه لا يجوز لأن العادة تقتضي أن يخفض من الثمن لأنك أنت الذي مننت عليه فلا يمكن أن يُماكسك في الثمن، ويكون التنزيل نوعا من الرجوع، فإن قال قائل: ما تقولون فيما لو باعه بثمن المثل تمامًا بحيث إن هذا الفرس مثلاً نودي عليه في
السوق وسامه الناس ووقف ولم يزد فاشتراه الذي تصدق به هل تجوزون هذا؟ الجواب: قل نجوزه بناء على أن الرجوع في هذه الصورة لم يتحقق وقد تمنع منه سلا للذريعة، لئلا يتجاسر الناس على هذا الأمر، ويشترون ما تصدقوا به أو ما وهبوه بثمن أقل، لأننا لو قدرنا أن الثمن يكون مطابقا للقيمة في صورة من الصور فإن هذا قد لا يتأتى في جميع الصور يعني: أن يكون الواهب ورعًا لا يمكن أن يأخذه بأدنى من قيمته، لكن يأتى واهبون كثيرون يأخذونه بأقل من قيمته، فلذلك نقول: إن باب سد الذرائع وهي قاعدة معروفة عند الأصوليين والفقهاء أيضا تقتضي المنع مطلقا، أي: لا يشتريه ولو بثمن المثل.
فإن قال قائل: لو أن هذا الرجل باعه على شخص آخر فهل يجوز أن يشتريه من الشخص الآخر؟ الجواب: نعم؛ لأنه انتقل منه على وجه الشراء، ويدل لهذا الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم فوجد اللحم على النار، فقيل: إنه تصدق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة ولنا منها هدية.
ومن فوائد الحديث: ورع عمر رضي الله عنه حيث توقف في الأمر حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الله تعالى قد يعطي الإنسان الذي عُرف بالورع كرامة بحيث لا يقدم على شيء فيه حرج وشك، فإن عمر لو أقدم بسرعة على هذا الفعل لوقع في المحظور، لكنه من كرامة الله له أن توقف حتى يسأل صلى الله عليه وسلم.
ومنها أيضا: حرص الصحابة على العلم، ولكن الصحابة يحرصون على العلم ليعملوا به بخلاف ما كان الناس عليه من زمن بعيد، يحرصون على العلم حرصا نظريًا فقط لا عمليا، فتجده يحرص على العلم ويحقق المسألة، ويعرف الحكم، لكن لا يعمل بها، فهذه مشكلة، وهي موجودة الآن بكثرة عند الناس، وهذا يكون حجة عليه، وأنا أذكر لكم بالنسبة للورع قصة وقعت لشخص من الناس كان قد قطع أثلاً له، يعني: جرّه ولما جاء ليأخذه وإذا جاره قد قطع أثله أيضا، وجعله كومة إلى جنب كومة الرجل، فأناخ بعيره وحمل عليها الخشب وربطه وزجر البعير لتقوم فأبت أن تقوم لأنها حمل عليها حطب غيره، وكان الرجل معروفا بالورع والصلاح، فزجرها وضربها فأبت، فتعجب، ناقته يعرفها، فلما فكر وقعت عينه على خشبة وعرف أنه أخطأ وأنه حمل خشب غيره فأنزل الخشب وحمل خشبه، فلما انتهى بمجرد ما كلم البعير بأدنى زجر قامت ومشت! هذا شيء حُكي لنا، وهذا من حماية الله للإنسان فقد يحصل أن الله يُعسر عليه الشيء المحرم الذي يضره من حيث لا يشعر. قد يحرمك الله شيئا تحب أن يتحصل لك، لكن في النهاية يكون خيرا لك.