الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد على أنه إذا كان سبب الحق ظاهرًا فلك أن تأخذ بغير علم من له الحق، وإن لم يكن ظاهرًا فليس لك أن تأخذ، واستدلوا لذلك بأن الأصل احترام مال المسلم:«إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» ، هذا عام خُص منه ما دلّ الدليل على جوازه، وهو أخذ المرأة من المال زوجها كحديث هند، وأخذ الضيوف مِن مال من استضافوه ولم يضيفهم، هل مثل ذلك الأب لو قصّر لابنه في النفقة، أو الأخ لو قصر أخوه في النفقة الواجبة ولا؟ نعم مثله، وعلى هذا فنقول: الأصل في الأموال التحريم، فلا يحل لأحد أن يأخذ من مال أخيه شيئًا إلى بدليل شرعي، ووقد دل الدليل على جواز أخذ من له النفقة ومن له الضيافة فتقتصر على ما دلّ عليه الدليل، وأما قوله سبحانه:{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا} فقد بينا أن هذا في العدوان الظاهر إنسان ضربك اضربه، إنسان نهب منك مالاً انهب المال الذي معه، وما أشبه ذلك، أما الأشياء الخفية فلا، ولأنه لو أجيز الأخذ بما سببه خفي لكان في ذلك فوضى بين الناس؛ لأن كل واحد يقول: أخذت من ماله لأني أطلبه، فيكون هناك فوضى، هات بينة، وقد يعثر استرجاع الحق به، وأما الحديث الذي معنا:«ولا تخن من خانك» فهو بمعزل عن هذا كله؛ لأن الذي ائتمنك جعلك أمينًا والأمين لا يجوز أن يكون خائنًا؛ لأن ذلك ينافي متضى العقد فلا تخن من خانك، وقوله شامل للعارية؛ أي: في قوله: «أدَّ الأمانة إلى من ائتمنك» .
أنواع العارية:
853 -
وعن يعلى ابن أمية رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتتك رسلي فأعطيهم ثلاثين درعًا، قلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة أو عاري مؤداه؟ قال: بل عارية مؤداه» . رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان.
قوله: «إذا أتتك رسلي» ، يعني: الذين أرسلهم إليك، «فأعطهم ثلاثين درعًا» ولم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم منه علامة كما قال ذلك فيمن أرسله إلى وكيله في خيبر يقول:«فقلت يا رسول الله، أعارية مضمونة أم عارية مؤداه؟ » قال: «بل عارية مؤداه» ، الفرق بينهما أن العارية المؤداة هي التي ترد بعينها إن بقيت، فإن تلفت فليس على المستعير ضمان، والعارية المضمونة هي التي لو تلفت لضمنها المستعيد.
وهذا الحديث فيه فوائد: أولاً: جواز استعارة الدروع وهي عبارة عن قمص من حديد
مُحلق مربوطة كل خلقة في الأخرى حتى يصير كأنما نسج من حديد يتخذه الناس عند القتال ليتقوا به رءوس السهام؛ لأن السهم إذا ضرب الحديد ما ينفذ وجُعل ليسهل التحرك فيه، وهو موجود أظنه عند بعض الناس هنا لمن أراد أن يطلع عليه، وفيه دليل على أن العارية حسب شرط المعير على المستعير، إن كانت مؤداه فهي مؤداه، وإن كانت مضمونة فهي مضمونة، ولا إشكال في أنه إذا وجد الشرط فالحكم على حسب الشرط، لكن إذا فقد الشرط فهل هي مؤداه أو مضمونة؟ في هذا خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال: إنها مؤداه، ومعنى مؤداه: أنه لا ضمان على المستعير إلا بتعدٍّ أو تفريط لقوله صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» ، وهذه أمانة، ومنهم من قال: إنها ليست مضمونه إلا أن يشترط، فإن اشترط، فإن اشترط فهي مضمونة سواء تعدي أو فرط، واستدلوا بهذا الحديث وبالذي بعده وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالًا» ، وعلى هذا فتكون مضمونه إن شرط أنها مضمونة، وإن لم يشترط فلا ضمان ما لم تعد أو يفرط.
القول الثالث: أنها مضمونة ما لم يشترط عدم الضمان، فإن اشترط عدم الضمان فلا ضمان وإلا فهي مضمونة، والفرق بينه وبين الأول: أن الأول يقول: هي مضمونة لكل حال سواء فرّط أو لم يفرط تعدي أو لم يتعدّ، والقول الصحيح في هذا أنها ليست مضمونة إلا بالشرط، وذلك لأنها أمانة داخلة في عموم الأمانات التي ليس فيها ضمان إلا بتعد أو تفريط، فإن شرط ضمانها فعلى ما شرط؛ لأنه هو الذي ضيق على نفسه، مثال ذلك: استعار منك شخص كتابًا فقلت له: عليك ضمانه فالتزم، فهنا يضمن الكتاب سواء تعدّى أو فرّط أم لم يتعدّ ولم يفرط؛ لأنه شرط عليه فإن شرط عدم الضمان فلا ضمان، وإن سكت ففيه خلاف: هل تضمن أو لا تضمن؟ والصحيح: أنه لا ضمان، ويستثنى من ذلك ما مر علينا، فمثلًا: إذا تلفت العارية فيما استعيرت له، مثل المنشفة إذا أصابها خمل فإنه لا ضمان عليك، وكذلك الكتاب لا شك أنه مع الاستعمال يضعف تجهيزه فليس عليك ضمان، لأنه تلف فيما استعمل له فليس فيه ضمان.
854 -
وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعًا يوم حنين. فقال: أغصب يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة» . رواه أبو داوود، وأحمد، والنسائي، وصححه الحاكم.
- وأخرج له شاهدًا ضعيفًا عن ابن عباس.
استعار منه النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل أن يسلم صفوان، وقوله:"أغصب"، يعني: أهي غصب؟ وقوله: «عارية مضمونة» ؛ يعني: علينا ضمانها لو تلفت، في الأول قال الرسول:«بل عارية مؤداة» وهنا قال: «عارية مضمونة» ؛ لأن هذا كافر لم يسلم بعد، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطمئن قلبه بأنها مضمونة فأعاره، ولما أسلم وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها عليه تسامح فيها وقال:"يا رسول الله إني أسلمت" يعني: وإني أريدها لله عز وجل فصار ذلك خيرًا له.
ففي هذا الحديث فوائد: أولاً: جواز استعارة أدوات الحرب من الكافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار هذه الدروع من صفوان قبل أن يسلم، ويقاس على الدروع كل عتاد الحرب، لكن بشرط أن نأمن من غشه أما إذا لم نأمن فإنه لا يجوز أن نشتريه منه؛ وذلك لأنه - أي: الكافر - عدو للمسلمين بكل حال كما ذكر الله تعالى في عدة آيات: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1]. {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصرى أولياء
…
} [المائدة: 51]. فهم يخشى منهم، فإذا أعطونا عتادًا حربيا من سلاح أو دروع أو وقاية من أشياء مهلكة أو ما أشبه ذلك، فإنه لا بأس به بشرط أن نكون في ضرورة إلى ذلك، فإذا كان هناك ضرورة إلى الاستعانة بهم، وأمنا من شرهم فلا بأس لأجل الضرورة، وليس هذا من توليهم، الذي يكون من توليهم هو أن نذهب إليهم لنعينهم على عدوهم مثل أن يقاتلهم عدو لهم فنذهب معهم نقاتل نعينهم على عدوهم فهذا من ولايتهم ولاشك، فإن كان عدوهم مسلمًا فإنه يخشى على من أعانهم أن يكون كافرًا؛ لأنه أعان كافرًا على مسلم، وإن كان عدوهم كافرًا فإن هذا حرام ولا يجوز بلا شك، ويمكن أن يلتحق المعين بالكافرين في هذه الحال إذا تولى هؤلاء وناصرهم محبة لهم، وأما إذا أعانوك هم على عدوك فليس هذا من باب الولاية، ولكن من باب دفع الضرورة إن اضطررت إليهم وأمنت من سوء عاقبتهم فلا حرج، وهذا هو القول الوسط في هذه المسألة، فإن من العلماء من قال: لا يجوز مطلقًا ومنهم من قال: يجوز ولو أدنى حاجة، ومنهم من قال: يجوز للضرورة وهذا هو الأقرب أنه إذا دعت الضرورة القصوى فلا بأس، أما مجرد الحاجة فلا، ولكن على كل حال ليس هذا من جنس الاستعانة بهم في أدوات الحرب وعتاد الحرب؛ لأن أدوات الحرب وعتاد الحرب الذي يستعمله المسلمون اليوم أغلبها من بلاد الكفار، لكنه يجب أن نأمن من أن يكون هذا العتاد عتادًا فاسدًا أو ضارًا بحيث أننا نضيع أموالنا في مثله ويخوننا عند الحاجة إليه؛ لأنهم لا يؤمنون أعداء بلا شك.
ومن فوائد الحديث: أن العارية إذا شرط المستعير ضمانها فهي مضمونة، وإن لم يشترط فليست بمضمونة؛ لأن يد المستعير يد أمانة، والأصل في يد الأمانة أنه لا ضمان عليها إلا بتعد أو تفريط.