الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أن ما خالف ما بين الله فهو ضلال، إذن هذه أدلة تدل على تحريم الوصية للوارث، ما زاد على الثلث دليله حديث سعد بن أبي وقاص حينما أصيب بمرض في حجة الوداع فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إنه ذو مال كثير ولا يرثه إلا ابنة له، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث، قال: الثلث والثلث كثير، فقول النبي صلى الله عليه وسلم، لا في الموضعين يدل على التحريم؛ لأن الوصية خير وأجر للإنسان ولا يمكن أن يمنع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخير والأجر إلا لامتناعه شرعا، فيحرم أن يُوصي بشيء زائد على الثلث سواء لأجنبي أو للوارث.
إذن الوصية المحرمة نوعان:
الأول: الوصية لوارث مطلقًا.
والثاني: الوصية بزائد على الثلث مطلقا.
الوصية المباحة هي: أن يوصي الإنسان بالثلث فأقل، إذا كان ورثته أغنياء فهنا الوصية مباحة، وقد نقول إنها مستحبة إذا كان وارثه غنيًا؛ لأنها خير وإذا كانت خيرا ولا تضر الوارث شيئا؛ لأنه غني فالخير مطلوب، وسيأتي فيما بعد أن الوصية ينبغي ألا تزيد على الخمس وأن أفضل جزء يُوصى به الخمس، لأنه الذي ارتضاه أبو بكر رضي الله عنه لنفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«الثلث والثلث كثيرة» .
أما المكروهة فهى: وصية الشخص الذي ماله قليل ووارثه فقير، فإذا كان وراثه فقيرا وماله قليل فإن الوصية حينئذ تكون مكروهة لما فى ذلك من الإضرار بالوارث، والرجل الميت ماله قليل ووارثه أحق الناس به، فلهذا قال العلماء: إن هذا القسم تكون الوصية فيه مكروهة.
وتكون مباحة فيما سوى ذلك، مثل: إذا أوصى الإنسان بماله كله إذا لم يكن له وارث، فهذا مباح؛ لأنه في هذه الحال لا يضر بأحد، فله أن يوصي بجميع ماله، أو إذا كان وارثه غنيًا وأوصى بالثلث فإن ذلك أيضا من المباح، لكن ذكرنا قبل قليل أنه ينبغي أن يكون من الأشياء المستحبة.
حكم كتابة الوصية:
918 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» . متفق عليه.
هذا الحديث فيه إشكال من حيث الإعراب، أولاً: قوله: «ما حق امرئ» ما هذه نافية، وهل هى حجازية أو تميمية؟ الحجازية هي التي تحمل عمل ليس، ومعلوم أن «ما» هذه معناها: ليس سواء
جعلناها حجازية أم تميمية، لكن اختلف الحجازيون والتميميون في عملها، فالحجازيون أعملوها بشروط والتميميون أهملوها مطلقا، وقال الشاعر يصف معشوقته:
(ومُهفهف الأعطاف قلتُ له انتسب
…
فأجاب ما قتل المحاسب حرام)
ما هنا تميمية، هنا نقول في الحديث هي تميمية ونقول: ينبني على الإعراب.
يقول: وحقه مبتدأ «لامرئ» مضاف إليه ومسلم صفة لامرئ «له شيء» ، صفة لامرئ يريد صفة لشيء، «يبيت ليلتين» يُحتمل أن تكون صفة لامرئ، ويحتمل أن تكون خبر المبتدأ، يعني: ما حقه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده وإلا أداة حصر والواو «وصيته» للحال «ووصية» مبتدأ و «مكتوبة» ، خبره، فالإعراب الآن واضح.
«ليلتين» ، ما إعرابها؟ ظرف منصوب على الظرفية، وهي في محل نصب خبر يبيت؛ لأن بات ترفع المبتدأ وتنصب الخبر واسمها هنا مستتر وليلتين ظرف هو الخبر.
قوله: «ما حق» ، يعني: ما الذي ينبغي له أن يفعل فهنا حقه بمعنى: المنتفي، أي: ليس ينبغي له أن يبيت ليلتين إلا ووصيته
…
إلخ.
وقوله: «امرئ مسلم» ، يُقال للرجل ويقال للمرأة امرأة، وكثيراً ما يرد علينا نصوص في الكتاب والسنة تقييد الخطاب أو الحكم بالرجال، وهذا من باب التغليب الشرف الرجال على النساء، والقاعدة: أن ما ثبت في حق الرجال، يثبت في حق النساء إلا بدليل، وقوله:«مسلم» ضدها الكافر، فهل نقول: إن هذا قيد شرطي أو قيد أغلبي؟ فيه خلاف، بعضهم قال: إنه شرطي، وبعضهم قال: إنه أغلبي، وأن الذي عليه الحق ليس له أن يبيت إلا ووصيته مكتوبة.
وقوله: «شيء» كلمة شيء من أعم إن لم تكن أعم شيء، تشمل المال والتصرف والمنافع والاختصاصات، كل شيء، ليس له حق
…
إلخ.
وقوله: «يريد أن يوصى فيه» ، أي: يعهد به إلى أحد.
«بيت ليلتين» ، يعني: ليس له الحق أن يبيت ليلتين، وكلمة ليلتين هل هي من باب المبالغة فيكون المراد يبيت زمنا قليلاً أو من باب التحديد وأن الشارع أعطى مهلة للإنسان يفكر في أمره ويتروى، ولكنه لم يمد له في الأجل خوفا من أن يهاجمه الموت، فجعل له ليلتين يفكر في نفسه ويستخير ربه ويشاور غيره؟ الظاهر الثاني، وأن الشرع له قصد، يعني: أنه لا يتأخر عن ليلتين، لكن إن زاد يكون مُفرطا.
وقوله: «إلا ووصيته» معروفة، ولم يقل: إلا وقد كتب وصيته، بل قال:«مكتوبة» ، ليعم ما إذا كتبها هو بيده أو كتبها غيره، والمراد بالكتابة هنا الكتابة المعروفة التي يُعتمد عليها؛ لأنه ليس كل كتابة تكون عمدة، فالكتابة التي ليست مشهورة بين الناس لا تفيد إلا إذا صدقت من جهة رسمية كالمحاكم مثلاً.
في هذا الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الجد كل الجد والحزم لمن أراد أن يوصي ألا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة» ؛ لأن الإنسان قد يفاجئه الموت، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، "، وكم من إنسان قد مدّ خيوط الأمل فانبترت ولم تتجاوز قدمه؛ فليبادر الإنسان ما دام يريد أن يُوصي، وحث الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون مكتوبة؛ لأن المسموعة قد تُنسى فلو أن الإنسان أشهد على نفسه شفويا بالوصية لكان هذا كافيا، لكن لا شك أن الكتابة أضبط.
من فوائد هذا الحديث: أن الدين الإسلامي يأمر بالحزم وألا يؤخر الإنسان أموره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل لمن أراد أن يُوصى ليلتين.
ومن فوائده: أن الوصية ليست بواجبة؛ لقوله: «يريد أن يوصي فيه» ، ووجه ذلك: أن المعلق على إرادة الإنسان لا يكون واجبا؛ لأن الواجب لابد أن يفعله الإنسان شاء أم أبى، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال:«نعم» ، قالوا: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت» ، علمنا أن الوضوء من لحم الإبل واجب، وأن الوضوء من لحم الغنم غير واجب؛ لأنه علق الوضوء من لحم الغنم على مشيئة الإنسان، فهنا قال:«يريد أن يوصي فيه» ، فهذا يدل على أن الوصية ليست واجبة، ولكن هذا الاستنباط في نظر ظاهر؛ لأن الإرادة هنا لا تنصب على مطلق الوصية بل على النوع الذي يوصي فيكون له شيء يريد به أي: بهذه الشيء المعين، فالإنسان قد يوصي بعقار وقد يوصي بمال، وقد يُوصي بمنافع، وقد يُوصي بنظر على أولاده، فالإرادة متوجهة إلى نوع ما يوصي به، ولهذا قال:«شيء يريد أن يوصي به» ، ولم يقل:«ما حق امرئ مسلم يريد أن يوصي» بل قال: «له شيء يريد أن يوصي به» ، وبين العبارتين فرق ظاهر.
وجه آخر: أنه قد يعلق الشيء على الواجب على الإرادة باعتبار فعله، فلو قلت: إذا أردت الصلاة فتوضأ، هل هذا يدل على أن الصلاة ليست بواجبة؟ لا، لكن الإرادة مُعلقة على الفعل، قد يكون الشيء واجبًا، لكن لا يريد أن يفعله في الحاضر، بل يريد أن يؤجله فيكون التعليق على الإرادة لا يدل على أن المراد ليس بواجب إذا وجدت أدلة أخرى تدل على الوجوب، وقد علمتم أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
…
} إلخ. يدل على وجوب الوصية، إذن فالاستدلال بهذا الحديث على عدم وجوب الوصية فيه نظر من وجهين.
?
ومن فوائد الحديث: أن الموصى به لا يتقيد بشيء معين، لقوله:«له شيء يريد أن يُوصي به» ، ولكنا نقول: هو مطلق «له شيء، لكن يجب أن يكون مقيدا بالشرع، فلو أن الإنسان أوصى بشيء محرم بأن أوصى بعشرة آلاف ريال يشترى بها خمر لمن أراد أن يشرب الخمر، فهذا لا يجوز، إذن هذا المطلق يقيد بالشرع بما دلت الشريعة على جوازه.
ومن فوائد الحديث: أن تخيير الوصية لا يكون أكثر من ليلتين لقوله: «يبيت ليلتين» فإنه إذا بات أكثر من ليلتين ليس له حق في ذلك، وهو يدل على أنه يجب أن يبادر بالوصية إذا كان يريد أن يُوصي بشيء، لكن كما تعلمون هذا إذا كانت الوصية واجبة أما إذا كانت غير واجبة فله الحق أن يبيت ليلتين أو أكثر.
ومن فوائد الحديث: العمل بالكتابة لقوله: «إلا ووصيته مكتوبة عنده» .
ومن فوائده: أن الكتابة أبلغ في الحفظ من السماع، وجهه أنه لم يقل: إلا وقد أشهد على وصيته بل قال: «مكتوبة عندمه، ومن ثم نعرف أن من طعن بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه إنما يروي الحديث عن صحيفة، فإن طعنه مطعون فيه، لماذا؟ لأن الرواية من الصحيفة إذا كانت محفوظة لم تختلف فيها الأيدي أثبت من الرواية عن طريق السماع والحفظ؛ لأن الكتابة أوثق.
قوله: «إلا ووصيته مكتوبة» لو قال قائل: الحديث يدل على مطلق الكتابة، فهل هذا مراد؟ فالجواب: لا المراد به الكتابة التي تثبت بها الوصية، وما هي الكتابة التي ليست بوصية؟ هي الكتابة المعروفة أو الموثقة من طريق يحصل به التوثيق، فلو أن الشخص مثلاً كتب وصية لكن خطه غير معروف فهل تفيدنا شيئا؟ لا، فلابد أن يكون خطه معروفا أو موثقا من قبل جهة يحصل بها التوثيق كالمحكمة أو الإمارة أو إمام الحي، المهم لابد أن تكون الوصية معروفة أو موثقة.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يحتفظ بالوثائق وألا يهمل فيها لقوله: «عنده» لا يهمل ويفرط بل يحفظ الوثائق؛ لأن الإنسان إذا أهمل فربما يزاد في الشيء ويُنقص، فإذا كان الشيء عنده وفي حوزته كان ذلك أضبط.
ومن فوائد الحديث: الرد على الجبرية، وهذه مسألة عقدية، لقوله:«يريد أن يُوصى فيه» ؛ لأن الجبرية لا يثبتون للإنسان إرادة، بل يقولون: الإنسان يتحرك بدون إرادة، فالذي يحرك يده