الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنازع رجل وزوجته عند القاضي فحكم القاضي بأن تسلم المرأة نفسها إلى زوجها فوراً، فقالت: ذروني أخبر والدي، فقلنا: نخشى أن تهربي، قال رجل: أنا أكفلها ما تقولون؟ لا يصح، لماذا؛ لأنه لا يمكن استيفاء الحق من الكفيل لو تعذر إحضار المرأة، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الكفالة في هذه الأمور، وقال: إنه لا يلزم من الكفالة أن يقوم الكفيل بأداء الحق الواجب على المكفول، إذ أن المقصود أن نلزم الكفيل بإحضار المكفول، فبدلاً من أن نتعب بطلب من وجب عليه القصاص وإحضاره نلزم الكفيل، لكن لو تعذر ومات المكفول فإننا لا نجري الحق على الكفيل، فالكفالة هذه فيها فائدة، ولا يلزم منها أن يؤخذ الحق من الكفيل، وما فائدتها إذن؟ أن نلزم الكفيل بإحضار بدن المكفول، بدلاً من أن نتعب نحن نلزمه هو، قالوا: وهذا يجري كثيراً في مشائخ القبائل: يعني: يجب علي بعض أفراد القبيلة حد فيقول: أمهلوني يوما أو يمين حتى أنظر في أمري، نقول: من يكفلك؟
يقول: شيخ القبيلة، جرت العادة أن شيخ القبيلة يستطيع إحضار بدن الكفيل ما دام على الدنيا؛ لأنه شيخ عندهم مثل السلطان فهذا فيه فائدة، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أنه تجوز الكفالة في الحدود لا أن تقام الحدود على من كفل، لكنه يلزم بإحضار بدن الكفول فيكون التعب والطلب على الكفيل، ثم إن فيه أيضا فائدة أخرى وهي اطمئنان من له الحق في مسألة القصاص، مثلاً يطمئن إذا علم أن هذا الرجل الذي له سلطة قد كفل إحضار هذا الرجل الذي عليه القصاص اطمأن، وهذا القول أصلح، لأن الحديث الوارد ضعيف كما رأيتم والكفالة في الحدود والقصاص وشبهها من الحقوق فيها مصالح، ومن المصالح أن الذي عليه الحق وهو المكفول إذا علم أن فلاناً كافله ولاسيما إذا كان من مشائخ قبيلته فإنه لا يمكن أن يهين كفالته يصعب عليهم، عندهم عادات يصعب عليه إهدار كرامته فيذله، فيحضر هو بنفسه المكفول خوفاً من إهانة الكفيل.
9 - باب الشركة والوكالة
يقال: الشركة، ويقال: الشركة، ويقال: الشركة؛ أي بوزن سرقة وثمرة ونعمة فوزن سرقة شركة، ووزن نعمة شركة، وهي في اللغة: الاختلاط اختلاط، شخصين في شيء، ومنه قوله تعالى: وإن كثير من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض} [ص: 24] أي: من الشركاء، وأما في الاصطلاح: فهي اجتماع في استحقاق أو تصرف، يعني: أن يجتمع شخصان في شيء مستحق لهما، أو يجتمع شخصان في تصرف بينهما، وتسمى الأولى شركة أملاك، والثانية شركة عقود، مثال الأولى: ورث ابنان بيتاً من أبيهما، الاجتماع بينهما هو اجتماع في استحقاق استحقا ملكية هذا
البيت، اجتماع في تصرف أعطى شخص ماله عاملاً يعمل فيه بنصف الربح وهي المضاربة، هذه اجتماع في تصرف ليس بينهما مالك مسبق اجتمعا ولكن صار الملك بينهما بسبب العقد الجاري بينهما، أما الوكالة فهي تفويض الشخص غيره في تصرف بملكه مثل أن أقول لشخص: وكلتك أن تشتري لي كذا وكذا، فأنا فوضته في تصرف أملكه، وهو البيع، وهو أيضا يملكه، فإن وكلته في شيء لا يملكه بل هو مطلوب من الموكل نفسه فإن الوكالة لا تصح، فلو وكلت شخصا أن يصلي عني فإن الوكالة لا تصح، لماذ؟ لأن هذا يتعلق بعين الشخص لا تدخله الوكالة.
الشركة والوكالة كلاهما جائزان فأن الله تعالى قال: {ضر الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا} [الزمر: 29] فأثبت الشركة في الرجل، وأما الوكالة فهي أيضا ثبتت بها السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسيذكرها المؤلف.
842 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما» رواه أبو داود وصححه الحاكم
هذا الحديث يسميه أهل الحديث: «الحديث القدسي» وهو حديث بين الحديث النبوي وبين القرآن الكريم، لا يلحق بالقرآن الكريم، وهو فوق مرتبة الحديث النبوي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسنده إلى الله إسناداً صريحاً، فقال:«قال الله» لكنه ليس كالقرآن الكريم؛ لأن القرآن معجز بلفظه ومعناه، متعبد بتلاوته، يقرؤه الإنسان في الصلاة وخارج الصلاة؛ لا يقرأه الجنب لا تقرأه الحائض عند أكثر أهل العلم ولا يمس صحيفته إلا طاهر ولا يجوز بيعه عند بعض أهل العلم، حتى قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصحف، فله أحكام كثيرة لا يساويه فيها الحديث القدسي؛ لأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل لفظاً ومعنى، والحديث القدسي ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه رواية، لكنه قاله من لفظه تعبيرا وليس من كلام الله لفظاً وإلا لكان معجزا لأنه لو كان من كلام الله لفظاً لكان صفة من صفات الله، وصفات الله تعالى لا يمكن لمخلوق أن يأتي بمثله، وهذا هو وجه الإعجاز في القرآن الكريم.
ولكن قد يقول قائل: كيف يقول الرسول: «قال الله تعالى» وتقول أنت: ليس من لفظ الله؟
فنقول في الجواب عن هذا: إن القول قد يضاف إلى القائل وإن كان لم يتكلم به، وإنما جواب عن هذا: إن القول قد يضاف إلى القائل وإن كان لم يتكلم به، وإنما
تكلم بمعناه، والدليل على هذا ما حكه الله عز وجل عن الرسل السابقين، وعن أقوامهم فإن الله يقول: {وإذ قال موسى
…
}، {وقال نوح رب لا تذر على الأرض} [نوح: 33] ومن المعلوم أن نوحاً لم يقل هذا اللفظ؛ لأن لغة نوح غير عربية، ولأنه لو كان هذا هو لفظ نوح لكان معجزاً لأن هذا اللفظ معجز، بل هذا اللفظ كلام الله نقله عن نوح بمعناه، كذلك قول فرعون للسحرة ولموسى ولومه وكذلك محاورتهم له، كل هذا إنما نقل بالمعنى، ومع ذلك يضيفه الله إليهم صراحة، فهكذا الحديث القدسي؛ ولأنه لو كان الحديث القدسي كلام الله لفظاً لوجب أن يساوي القرآن في أحكامه، لماذا؟ لأن الشريعة لا تفوق بين متماثلين ولو كان لفظ الرب عز وجل لكان كالقرآن سواء، ثم نقول أيضا: لو كان كلام الله لفظاً لكان أعلى سنداً من القرآن، لأن القرآن نزل بواسطة من نزل به؟ جبريل، والحديث القدسي ينسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بدون واسطة يقول:«قال الله» فإذا قال قائل: يمكن أن يقول: «قال الله» وهو بواسطة جبريل، نقول: الأصل أن ما أضافه الرسول إلى ربه مباشرة بدون ذكر الواسطة أنه من الله إلى الرسول، ولهذا لو أن رجلاً من الثقات الذين لا يعرفون بالتدليس قال: قال كذا وكذا ثم أسند الحديث، هل يحمل كلامه على أنه دلس وأسقط رجلا بينه وبين من روى عنه؟ لا، لكن لو رواه المدلس لكان يحتمل سقوط راو بينه وبين من أسند الحديث إليه، والمدلس إذا لم يصرح بالتحديث فإن حديثه محمول على الانقطاع على أن بينه وبين من روى عنه رجلا أسقطه، وغير المدلس إذا قال: قال فلان يحمل على الاتصال وأنه ليس بينهما أحد، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يكون مدلساً، فإذا قال:«قال الله» فهو بدون واسطة.
على كل حال: هذا الحديث يقول الله عز وجل: «أنا ثالث الشريكين» ولم يقل: ثاني الشريكين، لأن القاعدة في اللغة العربية أنه إذا كان ثالث الاثنين من غير الجنس فإنه لا يذكر بلفظ مطابق، وإذا كان من الجنس فإنه يذكر بلفظ مطابق، ولنضرب مثلاً في غير هذا الحديث، لو قيل: فلان رابع أربعة ماذا يكون؟ من جنسه ولو قيل: رابع ثلاثة صار من غير جنسه، ولهذا قال الله تعالى:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة/7] ولم يقل: إلا هو ثالثهم وقال عن النصاري: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] ولم يقل ثالث اثنين، لماذا؟
لأنهم يجعلون الله ومريم وعيسى سواء، يجعلون الكل جنساً واحداً، وقال تعالى:{وإذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} [التوبة: 40] لماذا قال ذلك؟ لأنهم من جنس واحد، فهنا قال:«ثالث الشريكين» لأنه-سبحانه وتعالى لا مثيل له، فقال:«ثالث الشريكين» كما قال: {إلا هو رابعهم} بماذا يكون ثالث الشريكين؟ بالتسديد والتوفيق، وإنزال البركة في بيعهما وشرائهما وشركتهما، وإلا فمن المعلوم أنه ليس ثالثهما يبيع ويشتري معهما كلا، ولكن
المعنى: أنه معهما بالتسديد والتوفيق يوفقهما والله عز وجل إذا كان يسدد الإنسان في بيعه وشرائه حصل خيرًا كثيرًا كما في قصة عروة بن الجعد رضي الله عنه حينما وكله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشتري له أضحية وأعطاه دينارًا قال: خُذ هذا الدينار اشتر به أضحية فاشترى به شاتين فباع إحداهما بدينار، ورجع بشاة ودينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: » اللهم بارك له في بيعه وشرائه «، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه؛ لأن الله أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا سدد الله الإنسان يسر الله له فصار يشتري الشيء ثم يزيد، وإذا خُذل الإنسان ونزع الله منه البركة صار بالعكس يشتري الشيء هو وآخر فيبيعه هو بخسارة، والثاني يبيعه بربح، وهذا مشاهد، كيف يبيعه بخسارة؟ لما هبطت الأشياء بعدما اشترى هو وصاحبه صار متسرعًا وقال: نزلت القيمة اليوم عشرة في المائة أخشى غدًا ان تنزل عشرين في المائة بعد أن نزلت عشرة في المائة فيخسر، باع ما يساوي مائة بتسعين، أما الثاني فقال: لا، لا أبيع بخسارة ربما تزيد، فالذي قدّر النقص يقدر الزيادة فأبقاه يومين، او ثلاثة، فباعه بمائة وعشرة فربح، وكلاهما قد اشترياه على حد سواء، فإذا أنزل الله سبحانه وتعالى البركة للإنسان وسدده صار يشتري الشيء ويربح، وغيره يشتري فيخسر، إذن الله سبحانه يكون ثالث الشريكين.
قال: » ما لم يخن أحدهما صاحبه «، » ما «يسمونها مصدرية ظرفية، كيف ذلك؟ مصدرية: لأنه يحول الفعل بعدها إلى مصدر، ظرفية؛ لأنه يقدر قبل المصدر ظرف، فيكون التقدير: أنا ثالث الشريكين مدة انتقاء خيانة أحدهما صاحبه، أو مدة عام خيانة أحدهما صاحبه، أيهما أحسن عدم أو انتفاء؟ انتفاء؛ لأننا نقول: » لم «نافية، ولا نقول: عدمية، فالأحسن المطابق للفظ أن نقدر انتفاء، ما هي الخيانة؟ الخيانة: مخالفة الأمانة، وتكون بعدة أساليب مثل أن يكتم عنه شيئًا من الربح تربح السلعة عشرة ويقيد الربح تسعة أو خمسة، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس الوكلاء للدولة- والعياذ بالله-يذهب إلى راعي الدكان ويشتري منه حوائج- مشتريات-يقول: قيدها بالفاتورة عشرة، وهو لا يعطيه إلا خمسة، هذا خيانة للدولة، الدولة التي يجب عليك النصح لها كما تنصح لنفسك؛ لأن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين، لكن هؤلاء لا يخافون الله عز وجل فيتفق مع صاحب الدكان بأن يقيد بالفواتير السلعة بمائة وهي أقل من ذلك، هذه خيانة، فمثلًا إذا اشترى هذا الشريك الشيء بمائة وهي أقل من ذلك هذه خيانة، قيده بمائة وعشرين فهذه خيانة، ومن الخيانة أيضًا ألا ينصح في البيع والشراء فُيحابي قريبه إذا اشترى بمال الشركة من قريبه زاد في الثمن وإذا باع على قريبه نقص في الثمن، فالمهم أن الخيانة لها صور لا تُحصى جِمَاعُها أنها ضد الأمانة في كل شيء، فإذا حصل خيانة قال: » فإذا خانا خرجتُ من بينهما «، وإذا خرج الله من بينهما فلا تسأل عن الدمار والخسارة؛ لأنهما لا يوفقان أبدًا. «»
في هذا الحديث فوائد: أولًا: جواز الشركة، ووجه ذلك: أن الله يكون ثالث الشريكين غذا انتفت الخيانة بينهما.
ومن فوائده: الترغيب في أداء الأمانة في الشركة، ووجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الله ثالث الشريكين ترغيبًا في أداء الأمانة، وهل منها أن الشركة مستحبة؟ هي جائزة لا شك، لكن لاحظ أن الله يكون ثالثهما ما لم يخن أحدهما صاحبه، والخيانة واردة أو منتفية؟ واردة، فالإنسان إذا شارك فقد خاطر؛ لأن المسألة ليس الله يكون ثالثهما مطلقًا بل ثالثهما ما لم يخن أحدهما صاحبه، ومن الذي يأمن نفسه من الخيانة؟ ! ! ولهذا إن قلنا بأن الشركة مستحبة فيجب أن يكون ذلك بقيد وهو أمن الإنسان نفسه من الخيانة، ولكن لاشك أن الانفراد أسلم، كون الإنسان ينفرد بماله ولا يشاركه أحد فيه أسلم؛ لأنه يبقى حرًا طليقًا يتصرف بما شاء في ماله حسب الحدود الشرعية، لكن إذا كان مشاركًا مشكل لاسيما إذا كان شريكه من البخلاء؛ لأن أيضًا بعض الشركاء يصير بخيل يقول: لا تصرف قرشًا واحدًا إلا معلمة مشكل هذا، وأيضًا قد يكون المال قليلًا، وإذا كان المال قليلًا فإن كل واحد من الشريكين يريد أن يُبين له كل تصرف، صحيح إذا كثر المال هان عند الشريكين تصرف كل واحد بالمال، لكن إذا كان قليلًا ولاسيما إن نُكبوا بحسرات فلا تسأل، لهذا أرى أن الانفراد أسلم من الشركة، وأننا على فرض القول بأنها مستحبة من أجل أن الله ثالث الشريكين يُشترط فيها أن يأمن الإنسان نفسه، وإلا فلا يشارك.
ومن فوائد الحديث: الحث على الأمانة، وأن الأمين يسدده الله عز وجل.
ومن فوائده: التحذير من الخيانة، وأن الإنسان إذا خان نُزعت منه البركة، وتخلى الله عنه، وما بالك بشيء تخلى الله عنه، فيكون عليه الدمار والخسارة.
843 -
وعن السائب المخزومي رضي الله عنه: أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح، فقال: » مرحبًا بأخي وشريكي «.رواه احمد، وأبو داود، وابن ماجه.
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت وهو على رأس الأربعين من عمره الشريف، وكان بالأول يبيع ويشتري، وكان يرعى الغنم، وكان يأخذ بضاعة لخديجة إلى الشام، ومعروف صلى الله عليه وسلم بأنه يبيع ويشتري، ومعروف أيضًا بالأمانة التامة، حتى كانت قريشًا تسميه» الأمين»
قوله: » يوم الفتح «يعني: يوم فتح مكة في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في مكة تسعة عشر يومًا من أجل ترتيبها، وكما تعلمون جميعًا فهي أم القرى تحتاج إلى مدة يبقى فيها الفاتح يدبر ويتصرف، بقي-عليه الصلاة والسلام-تسعة عشر يومًا منها نحو عشرة أيام في رمضان والباقي من شوال، وكان لا يصوم، أى: لم يصم رمضان مع أن العشر الأواخر أفضل رمضان، ولم يصمها النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي ركعتين كل هذه المدة ويقول: » يا أهل مكة، أتموا فإنا قوم سَفر «فأثبت صلى الله عليه وسلم انهم سَفر مع انهم أقاموا أكثر من أربعة أيام، ومن المعلوم أن أحتمال أن ينقضي التدبير والتصريف لهذه البلد المفتوحة في أقل من أربعة أيام هذا الاحتمال بعيدًا جدًا، يعني: حسب الأحوال نجزم بأن الرسول قد نوى اكثر من أربعة أيام؛ لأن المقام والحال تقتضي ذلك أن يبقى مدة، ومن ثم بقي تسعة عشر يومصا يقصر الصلاة ولم يُحد للأمة حدًا معينًا، يقول: من بقي هذه المدة فقد انقطع حكم السفر في حقه، بل أطلق الأمر، فما دام الإنسان مسافرًا مفارقًا وطنه وعنده نية الرجوع إلى الوطن متى انتهى عمله فإنه مسافر، حتى إن العلماء قالوا: لو بقي إلى أن يموت أربعين سنة وخمسين سنة فهو مسافر، لكنهم اختلفوا هل هذا إذا لم يُحدد أو مطلقًا؟ فالمشهور من المذهب- وعليه أكثر أهل العلم-أنه بشرط ألا يحدد، فإذا أقام لقضاء حاجة ولكن تمدت الأيام فهو في حكم المسافر ولو بقي سنين، لكن لو حدد فهذا هو موضع الخلاف بين أهل العلم، وابن القيم في زاد المعاد قال: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تفريق بين من حدد وبين من لم يحدد بل أطلق على كل: هذه المسألة الخلاف فيها معروف، لكن قصدنا أن الفتح كان في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة.
فقال: » مرحبًا بأخي وشريكي «، الرُحب بمعنى: السعة، ومنه رحبة البيت: المكان المتسع أمامه، ورحبة المسجد: المكان المتسع في المسجد، فمعنى مرحبًا، أي: سكنت مكانًا مرحبًا أي: واسعًا، أكثر الناس يرون أن مرحبًا تحية، لكن لا يدرون ما معناها، لو قلت ما معناها؟ يقول: تحية، أما لو قلت له: مرحبًا مشتق من الرحبة ومنه رحبة المسجد ورحبة البيت، قال: لا نعرف هذا هي تحية، المهم هذا معناها في اللغة.
وقوله: » أخي وشريكي «الشاهد قوله» شريكي «، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم الشركة، والشركة كما سمعتم آنفًا في اللغة هي الخلطة أو الاختلاط، وفي الاصطلاح: هي اجتماع لاستحقاق أو تصرف.
من فوائد الحديث: جواز الشركة، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها بعد الفعل، وفيه دليل على أن ممارسة البيع والشراء لا تقدح في المروءة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شارك السائب المخزومي، فممارسة العقود لا تعتبر قدحًا في الإنسان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه باع واشترى، بل إنه
توفي ودرعه مرهونة عند يهودي، لكن قال العلماء: ينبغي للقاضي، ومن حكمه من ذوي الأمر ألا يُباشر البيع والشراء بنفسه نظرًا لفساد الناس كيف ذلك؟ قالوا لأن الناس سوف يُحابونه، فتكون هذه المحاباة بمنزلة الرشوة؛ لأن لولا أنه في هذا المكان من السلطة ما حباه الناس، فتكون مباشرته للبيع والشراء سببًا لأن يحابيه الناس فيقع هو وهم في الإثم.
ومن فوائد الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حين رحب بشريكه فقال: » مرحبًا باخي وشريكي «، وهكذا ينبغي للإنسان إذا عامل شخصًا أن يقابله بحسن الخلق بقدر المستطاع، ولقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: » رحم الله امرأ سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضي «.
844 -
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: » اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر
…
«. الحديث رواه النسائي.
الحديث أنه قال: جاء سعد بأسيرين ولم أجاء أنا وعمار بشيء، » يوم بدر «، يعني: يوم غزوة بدر، وكان في رمضان في السابع عشر السنة الثانية من الهجرة، وكان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أن عير قريش خرجت من الشام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لها ليأخذها، وإنما فعل ذلك؛ لأن قريشًا اعتدوا عليه وجنوا عليه وعلى أصحابه، حيث أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، ولم يكن بينه وبينهم عهد، فكانت أموالهم بالنسبة له حلالًا له من أجل عدوانهم، وعدم المعاهدة بينه وبينهم، فخرج إلى العير بنحو ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، لا يريد قتالًا وكان معه سبعون بعيرًا وفرسان يتعاقبون على هذه الرواحل، فأرسل أبو سفيان - وكان أمير العير-إلى قريش يستنجدهم لما سمع بما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلك طريق الساحل بعيدًا عن المدينة لينجو بعير قريش، فلما بلغ قريشًا ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم واستصراخ أبي سفيان إياهم اجتمعوا برؤسائهم لأمر أراده الله عز وجل فجمع الله بينهم وبين رسوله صلى الله عليه وسلم على غير معاد، وحصل في هذه الغزوة من النصر المبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أعز الله به جنده وخذل به أعداءه، وقتل من صناديدهم من قتل، وسحب منهم أربعة وعشرون رجلًا من كبرائهم وألقوا في قلبيب من قلب بدر جيفًا منتنة، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بعد ثلاثة أيام من انتهاء المعركة،
وجعل يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: » فلان بن فلان «، هل وجدتم ما وعد ربكم حقًًا، فإني وجدت ما وعد ربي حقًا؟ . فقالوا: يا رسول الله كيف تكلم قومًا جيفوا؟ فقال: » ما أنتم أسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون «، وههذه الغزوة كانت قبل أن تفرض الأنفال وتُبين، فكانت لله ورسوله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي منها من اقتضت المصلحة إعطاؤه، فاجتمع الناس كل ينفله ما شاء مما يرى أنه من الحكمة، من جملة ما كان من النفل الأسري، لأنه أسر من قريش سبعون رجلًا وقُتل منهم سبعون رجلًا، يقول عبد الله بن مسعود: أنه اشترك هو وعمار وسعد فيما يصيبون يوم بدر فأصابوا أسرى جاء سعد بأسيرين، ولم يأت ابن مسعود ولا عمار بشيء، وبناء على عقد الشركة يكون الأسيران بينهم أثلاثًا لكل واحد ثلثا أسير، لكن بعد هذا تقرر قسمة الغنائم وأنزل الله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 40]. فصارت الغنيمة تُقسم خمسة أقسام أربعة منها للغانمين وواحد لهؤلاء الخمسة {فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} واستقر الأمر على ذلك إلى اليوم وإلى يوم القيامة، لكن قبل ذلك لم تكن الغنيمة تُقسم على هذه القسمة.
ففي الحديث دليل على جواز الاشتراك فيما يُحصله المشتركون ويُسمى عند أهل العلم-هذا النوع من الشركة-شركة الأبدان؛ لأنها مبنية على عمل البدن المحض، ليس هناك مال بلا عمل بدن، فإذا اشترك شخصان فيما يكتسبان من حشيش او حطب أو سمك من البحر، أو صيود من البر، أو ما أشبه ذلك مما يكون نتيجة العمل البدني فالشركة جائزة، ويكون الملك بينهما على ما اشترطاه يعني: لا على رءوسهم قد يكون ثلاثًا ويشترطون الربح أرباعًا لواحد منهم النصف، والاثنين على ربع، حسب ما يرونه من قوة هذا الرجل وحدقه، واكتسابه، وقد تكون بالتساوي كما لو اشترك أربعة فيما يكتسبون وجعلوا المال بينهم أرباعًا، المهم أن الملك على ما شرطاه؛ لأن هذا عقد يرجع أمره إلى العاقد، فإذا قال: نشترك في الاحتطاب نجمع حطبًا ونبيعه، وما رزقنا الله فهو بيننا، هو أربعة لكن منهم واحدًا جيدًا نشيطًا يأتي بما يأتي به الرجلان، فقالوا: نجعل لك الثلث ولنا نحن الثلاثة الثلثان يجوز هذا؛ لأن الأمر راجع إليهم.
فإن قال قائل: هذا فيه جهالة وغرر، لأن أحدهما قد يُحصل والآخر لا يحصل كما في هذا الحديث هو وعمار لم يُحصلا شيئًا وسعد حصل اثنين فيكون في هذا غرر.
نقول: نعم، هذا لا شك أن فيه شيئًا من الغرر لكن ليس فيه معاوضة، يعني: ليس فيه مال بمال يُخشى بينهما الاختلاف، إنما المسألة عمل بدن فقط، فإذا قُدر أن أحدهم أتى بكثير
والآخر أتى بقليل فليس هناك معاوضة حتى نقول: إن أحدهما إما غانم وإما غارم، أرأيت لو أن أحدهما قال للثاني: أنا سأذهب وأصيد لك؟ فهذا ليس فيه شيء، فنقول: هذه الشركة جائزة وتسمى شركة الأبدان، ومنها شركة الصنائع، يعني: من هذا النوع من الشركة شركة الصنائع يشترك رجلان صانعان في عمل كأبواب الحديث مثلا أو المواسير أو ما أشبه ذلك هذا يجوز.
واختلف العلماء هل تجوز شركة الصنائع مع اختلاف الصنعة بأن يكون أحدهما حداداً والثاني نجاراً؟ على قولين: فمنهم من قال: بالجواز، لأن الغاية واحدة وهي الاكتساب، ومنهم من قال: إنه لا يجوز مع اختلاف الصنائع لأن الحداد ربما يكون إنتاجه أكثر بكثير من النجار، أو بالعكس، بخلاف ما إذا كانا مشتركين في الصنعة، فإن الغالب أنهما متقاربان أو متساويان، والمعروف في المذهب عندنا أن هذه الشركة جائزة ولو مع اختلاف الصنائع، لأن الغاية هي الربح في هذه الصنعة وهي حاصلة سواء مع اتفاق الصنائع، يعني: من هذا النوع من الشركة شركة الصنائع يشترك رجلان صانعان في عمل كأبواب الحديث مثلا أو المواسير أو ما أشبه ذلك هذا يجوز.
واختلف العلماء هل تجوز شركة الصنائع مع اختلاف الصنعة بأن يكون أحدهما حداداً والثاني نجاراً؟ على قولين: فمنهم من قال: بالجواز؛ لأن الغاية واحدة وهي الاكتساب، ومنهم من قال: إنه لا يجوز مع اختلاف الصنائع؛ لأن الحداد ربما يكون إنتاجه أكثر بكثير من النجار، أو بالعكس، بخلاف ما إذا كانا مشتركين في الصنعة، فإن الغالب أنهما متقاربان أو متساويان، والمعروف في المذهب عندنا أن هذه الشركة جائزة ولو مع اختلاف الصنائع؛ لأن الغاية هي الربح في هذه الصنعة وهي حاصلة سواء مع اتفاق الصنائع أو اختلافها، لو اشترك شخصان أحدهما في الاصطياد من البر والثاني في الاصطياد من البر والثاني في الاصطياد من البحر واشتركاً على أن ما يكتسبان فبينهما، فالحكم الجواز مع أنه قد يأتي صاحب البحر بسمك كثير، وصاحب البر لا يأتي إلا بشيء قليل أو يكون العكس يأتي صاحب البر بصيود كثيرة، وصاحب البحر لا يأتي إلا بقليل، المهم أن هذا جائز ولا بأس به.
ومن فوائد الحديث: جواز الاشتراك فيما يكتسبه الرجلان من أسرى، أو صيود، أو احتطاب، أو حشيش أو غير ذلك، مما تكون الوسيلة فيه العمل البدني المحض.
ومنها: سعة الشريعة وذلك بتنويع موارد الرزق، لأن الإنسان ربما لا يكتسب إذا كان وحده، وإذا كان له شريك اكتسب ونشط على العمل.
ومنها: أن اكتساب المال بالطرق المباحة جائز؛ لأن هذا النوع لا شك أن يساعدون بعضهم بعضا، وأنهم ربما يتسابقون أيهم أكثر إنتاجاً وعملاً.
وهل نقول: ومنها جواز الاشتراك في الأسرى؟ لا، لأن بعد استقرار تقسيم الغنيمة صار السرى أمرهم على الإمام لا للمجاهدين، نعم لو اشتركوا فيما يجعله الإمام من النفل فلا بأس، مثل أن يقول الإمام: من قتل قتيلا فله ما عليه من السلاح هذا جائز؛ لأنه فيه تشجيعاً على قتل الأعداء، وهو نوع اكتساب، فإذا قال الإمام أو قائد الجيش: من قتل قتيلا فله ما عليه من السلاح، واشتركا اثنان فيما يكتسبانه من هذا الوجه فهو جائز كما اشترك عبد الله بن مسعود وعمار وسعد فيما يحصل من الأسرى.