المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ضمان دين الميت: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٤

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌2 - باب الخيار

- ‌ خيار المجلس

- ‌خيار العين:

- ‌3 - باب الربا

- ‌تحريم الربا:

- ‌أنواع الربا:

- ‌مسألة: هل يلحق بالأصناف التي فيها الربا غيرها؟ خصص فيه الرسول ستة أشياء فهل يلحق بها غيرها

- ‌بيع التمر بالتمر وشروطه:

- ‌بيع الذهب بالذهب:

- ‌بيع الحيوان بالحيوان:

- ‌بيع العينة:

- ‌الشفاعة المحرمة:

- ‌الرشوة:

- ‌بيع الحيوان بالحيوان نسيئة:

- ‌المزابنة:

- ‌مسألة في بيع العرايا وشروطه:

- ‌بيع الدين بالدين:

- ‌4 - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار

- ‌بيع العرايا:

- ‌بيع الثمار:

- ‌5 - أبواب السلم، والقرض، والرهن

- ‌الرهن:

- ‌غلق الرهن:

- ‌الترغيب في حسن القضاء:

- ‌حكم الجمعية وهل هي ربا أو لا

- ‌6 - باب التفليس والحجر

- ‌التحذير من مماطلة الغني:

- ‌ الحجر

- ‌تصرف المرأة المالي:

- ‌7 - باب الصلح

- ‌8 - باب الحوالة والضمان

- ‌حكم الحوالة وشروطها:

- ‌ضمان دين الميت:

- ‌الكفالة:

- ‌9 - باب الشركة والوكالة

- ‌الوكالة:

- ‌حكم الوكالة وشروطها:

- ‌جواز التوكيل في قبض الزكاة:

- ‌جواز التوكيل في ذبح الهدي والأضحية وتفريقهما:

- ‌جواز الوكالة في إثبات الحدود وتنفيذها:

- ‌10 - باب الإقرار

- ‌11 - باب العارية

- ‌حكم العارية:

- ‌وجوب العناية بالعارية وردّها على المُعير:

- ‌أنواع العارية:

- ‌12 - باب الغصب

- ‌حكم الغصب:

- ‌حكم الزرع في الأرض المغصوبة:

- ‌13 - باب الشفعة

- ‌شفعة الجار وشروطها:

- ‌14 - باب القراض

- ‌15 - باب المساقاة والإجارة

- ‌حكم المساقاة:

- ‌إجارة الأرض:

- ‌ المزارعة

- ‌حكم أخذ الأجرة عن الحجامة:

- ‌التحريز من منع الأجير حقه:

- ‌جواز أخذ الأجرة على القرآن:

- ‌الأخذ على كتاب الله له ثلاث صور:

- ‌16 - باب إحياء الموات

- ‌17 - باب الوقف

- ‌18 - باب الهبة والعمرى والرقبى

- ‌الهبة وضوابطها:

- ‌حكم الرجوع في الهبة:

- ‌حكم رجوع الوالد في هبته لولده:

- ‌شروط قبول الهدية:

- ‌فائدة في الإثابة على الهدية وحكمها:

- ‌صور العمرى والرقبى:

- ‌حكم شراء الهبة:

- ‌الحث على الهدية:

- ‌19 - باب اللقطة

- ‌حكم إيواء الضالة دون تعريفها:

- ‌الإشهاد على اللقطة وحكمه:

- ‌حكم اللقطة في مكة:

- ‌حكم لقطة المعاهد:

- ‌20 - باب الفرائض

- ‌أصحاب الفروض

- ‌مراتب العصوبة:

- ‌ميراث الزوجين:

- ‌ميراث الأم:

- ‌ذكر المسألتين العمريتين:

- ‌ميراث الأب:

- ‌ميراث الجد والجدة:

- ‌ميراث البنات والأخوات والإخوة:

- ‌حكم ميراث المسلم للكافر والكافر للمسلم:

- ‌ميراث الجد:

- ‌ميراث الجدة:

- ‌ميراث الخال وذوي الأرحام:

- ‌حكم ميراث الحمل:

- ‌21 - باب الوصايا

- ‌حكم كتابة الوصية:

- ‌ضوابط الوصية:

- ‌حكم الصدقة عمن لم يوص:

- ‌حكم الوصية للوارث:

- ‌الوصية بثلث المال:

- ‌22 - باب الوديعة

- ‌كتاب النكاح

-

- ‌ حكم النكاح

- ‌النهي عن التبتل:

- ‌الحث على تزوج الولود الودود:

- ‌تنكح المرأة لأربع:

- ‌الدعاء لمن يتزوج:

- ‌خطبة الحاجة:

- ‌آداب الخطبة: حكم النظر إلى المخطوبة وضوابطه:

- ‌نهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه:

- ‌حديث الواهبة:

- ‌إعلان النكاح:

- ‌اشتراط الولي:

- ‌نكاح المرأة بغير إذن وليها:

- ‌اشتراط رضا الزوجة:

- ‌حكم الشغار:

- ‌تخيير من زوجت وهي كارهة:

- ‌حكم من عقد لها وليان على رجلين:

- ‌حكم زواج العبد بدون إذن سيده:

- ‌حكم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو أختها:

- ‌حكم خطبة المحرم ونكاحه:

- ‌شروط النكاح:

- ‌حكم زواج المتعة:

- ‌مسألة: هل نية المتعة كشرطها

- ‌حكم زواج المحلل:

- ‌مسائل مهمة:

- ‌نكاح الزاني والزانية:

- ‌مسألة شهر العسل:

- ‌1 - باب الكفاءة والخيار

- ‌حكم زواج العرب الأحرار بالموالي:

- ‌أنواع الخيار:

- ‌حكم من أسلم وتحته أختان:

- ‌حكم من أسلم وتحته أكثر من أربعة:

- ‌رد من أسلمت إلى زوجها إذا أسلم:

- ‌من أسلم وهو أحق بزوجته:

- ‌فسخ النكاح بالعيب:

- ‌حكم العنين:

- ‌2 - باب عشرة النساء

- ‌حكم إتيان المرأة في دبرها:

- ‌مسألة في حد إتيان الرجل الرجل:

- ‌الوصية بالنساء:

- ‌نهي المسافر عن طروق أهله ليلاً:

- ‌النهي عن إفشاء الرحل سر زوجته:

- ‌حقوق الزوجة على زوجها:

- ‌جواز إتيان المرأة من دبرها في قبلها:

- ‌ما يقال عند إتيان النساء:

- ‌لعن المرأة إذا عصت زوجها:

- ‌الملائكة حقيقتهم ووظائفهم:

- ‌حكم الوصل والوشم:

- ‌حكم الغيلة والعزل ووسائل منع الحمل:

- ‌3 - باب الصداق

- ‌تعريف الصداق لغة وشرعًا:

- ‌جعل العتق صداقا:

- ‌صَدَاق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌صداق فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الصداق والحباء والعدة:

- ‌مهر من لم يفرض لها صداق:

- ‌مقدار الصداق:

- ‌تقليل الصداق:

- ‌4 - باب الوليمة

- ‌حكم الوليمة ووقتها:

- ‌شروط إجابة الدعوة إلى الوليمة:

- ‌حكم عدم إجابة الصائم لدعوة الوليمة:

- ‌أيام الوليمة:

- ‌التحذير من مشاركة الرياء للعبادة:

- ‌صفة ولائم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض زوجاته:

- ‌حكم الأكل في حالة الاتكاء:

- ‌التسمية عند الطعام:

- ‌آداب الطعام:

- ‌آداب الشراب:

- ‌5 - باب القسم بين الزوجات

- ‌تحريم الميل إلي إحدى الزوجتين:

- ‌مسألة: كيف يكون العدل بين الزوجات

- ‌القسم للبكر والفرق بينهما وبين الثَّيب عند الزواج:

- ‌جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم لأخرى:

- ‌حسن معاشرة الأزواج:

- ‌القرعة بين الزوجات في السفر:

- ‌النهي عن الشدة في معاملة الزوجة:

- ‌6 - باب الخلع

- ‌الخلع ورد ما أخذت الزوجة:

- ‌عدة المختلعة:

- ‌ أوَّل خلعٍ في الإسلام

الفصل: ‌ضمان دين الميت:

في هذا الحديث: دليل على مراعاة الحقوق، وأن هذه الشريعة الإسلامية كاملة في مراعاة الحقوق فالأول: في القضاء الجملة الأولى: «مطل الغني ظلم» الثانية: في الاقتضاء منع حيلة، ففي الأولى مراعاة جانب القضاء وأنه يجب على الإنسان أن يقض الدين ولا يماطل، وفي الثانية مراعاة جانب الاقتضاء، وأنه ينبغي للإنسان أن يكون سهلا فيقتضي حقه إما ممن عليه الحق وإما ممن أحيل عليه، فالشريعة الإسلامية لكمالها تراعي الجانبين جانب القضاء وجانب الاقتضاء.

ومن فوائد الحديث: أنه لابد من رضا المحيل المطلوب فلا يجبر على الإحالة، يؤخذ من قوله:«وإذا أتبع» وهذا يدل على أن الأمر موكل إلى المتبع وهو المحيل، وهل يشترط رضا المحال عليه؟ الجواب: لا، فلو أحال زيد عمرا على بكر، وقال بكر لزيد: أنا لا أقبل حوالة عمرو، لأن عمراً رجل صعب لا يمهل ولا يمهل، وأريد أن يكون صاحبي أنت يقول: المحال عليه للمحيل فهل يلزم المحيل قبول ذلك، أو نقول: لا يلزم؟ نقول: لا يلزم، فرضا المحال عليه ليس بشرط، ووجهه أن لصاحب الحق أن يستوفى الحق بنفسه وبمن يقوم مقامه، والمحال قائم مقام المحيل، فالمحيل يقول للمحال عليه، أد حقي وأنا لي أن أستوفي حقي بنفسي أو بمن يقوم مقامي، فهمنا الآن رضا المحيل لابد منه، أما رضا المحال عليه ليس بشرط بقينا برض المحتال إن كان المحال عليه معسراً غير مليئ اشترط رضاه؛ يعني: فقيراً أو مما طلاً

فإنه يشترط رضا المحتال وإن كان مليئاً، فإن قلنا: إن لام الأمر في قوله: «فليحتل» للوجوب فإنه لا يشترط رضاه، وإن قلنا للاستحباب فإنه يشترط، فصار رض المحيل شرطاً لكل حال، رضا المحتال عليه إن كان على غير مليء اشترط رضاه، وإن كان على مليء إن كان الأمر في قوله:«فليحتل» للوجوب فلا يشترط رضاه، وإن قلنا: إنه للاستحباب اشترط رضاه.

‌ضمان دين الميت:

839 -

وعن جابر رضي الله عنه قال: «توفي رجل منن فغسلناه وحنطناه، وكفناه ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطأ، ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حق الغريم وبريء منهما الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه» رواه أحمد وأبو داود، والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم.

قوله: «منا» يعني: من الأنصار، وقوله:«غسلناه» يعني: تغسيل الميت وصفته أن يغسل فرج الميت، ثم يغسل رأسه برغوة السد، وهو الورق المعروف يدق ويجعل في الماء، ويضرب

ص: 153

باليد حتى يكون له رغوة فتؤخذ رغوته فيغسل بها رأس الميت ولحيته دون السفل، لأن السفل لو غسل به الشعر لبقي فيه الشعر ودخل فيه فيغسل الرأس واللحية بالرغوة ثم يغسل بقية البدن بالسدر ويغسل ثلاثا أو خمساً أو سبعا أوتسعاً أو أكثر من ذلك، ما دام الميت محتاجاً إلى التنظيف.

وقوله: «حنطناه» يعني: جعلنا فيه الطيب، وأحسن ما يكون الكافور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته:«اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً» وهو نوع من الطيب معروف يدق ويخلط في الماء في آخر غسلة، وله ثلاث فوائد: أولاً: أنه طيب، الثاني أنه يصلب البدن، والثالث أنه يطرح الهوام عن الميت لئلا تنال جسده بسوء، والمسألة كلها مؤقتة لابد من التغير إلا أن يشاء الله.

«وكفناه» يعني: لففناه في كفنه وبقي أن يصلى عليه.

قال: «ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلي عليه» «تصلى» هذه جملة خبرية لكنها في الواقع طلبية، يعني: أنها إما بمعنى الأمر؛ أي: صل عليه، والأمر هنا بلا شك للالتماس؛ لأن مقام النبي صلى الله عليه وسلم أرفع من مقامهم وإذا وجه الطلب إلى من هو أربع من مقام الطالب سمي التماساً أو سؤالاً، ويحتمل أن تكون خبرية نزعت منها همزة الاستفهام، أي: أتصلي عليه؟

والمراد بالاستفهام هنا: العرض، يعني: يعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، وأيا كان فإنما جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الميت شفاعة له، وهو صلى الله عليه وسلم أعظم الشافعين قدرا عند الله.

يقول: «فخطا» «خطا» يعني: تقدم ليصلي عليه، ثم قال «أعليه دين؟ » فقلنا: ديناران، «فانصرف» الديناران مبتدأ خبره محذوف، يعني: عليه ديناران، والديناران هما نقد الذهب لأن الند إن كان من الفضة سمي دراهم وإن كان ذهب سمي دنانير «فانصرف» أي لم يصل عليه وكان صلى الله عليه وسلم في أول الأمر إذا قدم إليه ميت للصلاة عليه وعليه دين لم يصل عليه لأن صلاته على الميت شفاعة ومن عليه دين لا تنفع فيه الشفاعة، لأن حق الآدمي لابد من وفائه ولهذا كانت الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين، فيتأخر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول:«صلوا على صاحبكم» والحكمة من هذا: حث الناس على التقليل من الدين، وعدم الاستدانة لأن الإنسان إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل على هذا الرجل من أجل دينه وهو عليه دين فإنه سوف يتحرز تحرزاً شديداً من الاستدانة.

يقول: «فتحملهما أبو قتادة فأتيناه» لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد انصرف فقال أبو قتادة: «أنا أتحملهما» رضي الله عنه وجزاه خيراً، فأتيناه فقال أبو قتادة:«الدينارات علي» وهذا ضمان للدين من أبي قتادة لصاحب الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حق الغريم وبرئ منهما الميت» «حق الغريم» هذا

ص: 154

مصدر مؤكد لمضمون الجملة الخبرية وهي قوله: «الديناران علي» كأنه قال: تلتزمهما التزام حق ثابت لا يتغير فقال أبو قتادة: نعم، فتضمن قوله رضي الله عنه تضمن التزاماً وإبراء التزاما على نفس وإبراء للميت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وبرء منهما الميت، قال: نعم، فصلى عليه» وأصل الحديث في البخاري فالحديث صحيح.

يستفاد من الحديث عدة فوائد: أولاً: أنه من المقرر عند المسلمين أن الميت يغسل لقوله: «غسلناه» وهذا التغسيل واجب فرض، لكنه فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، والدليل على فرضيته قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته في عرفة قال:«اغسلوه بماء وسدر» وقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثا أو خمساً

إلخ» والأصل في الأمر الوجوب، وظاهر السنة أنه لا فرق بين أن يكون الميت نظيفاً أو غير نظيف حتى لو اغتسل قبل موته بدقائق، ثم مات، فإنه يجب أن يغسل، لأن الموت نفسه موجب الغسل.

ومن فوائد الحديث أيضا: أنه قد تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم مشروعية التحنيط لقوله: «وحنطماه» وليس التحنيط أن يطلي الميت بما يبقي بدنه، وإنما التحنيط أن يجعل فيه الطيب، ويدل على أن هذا أمر معتاد مشروع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين خاطبهم في تغسيل الميت الذي مات في عرفة:«لا تحنطوه» وهذا يدل على أن من عاتهم تحنيط الميت.

ومن فوائد الحديث أيضا: أن من المتقرر عند الصحابة الكفن، وتكفين الميت فرض لقول النبي صلى الله عليه وسلم «كفنوه في ثوبيه» والأصل في الأمر الوجوب فيجب أن يكفن يعني يغطى في ثوب يستر جميعه، ولهذا قال العلماء: إن الميت كله عورة يجب أن يكفن فإن لم يوجد ما يكفي وضع علي أوراق شجر، ولا يترك كما صنع الصحابة في مصعب بن عمير رضي الله عنه واستشهد في أحد وكان عليه بردة إن عطوا رأسه بدت رجلاه وإن غطوا رجليه بدا رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطي رأسه وأن يجعل على رجليه شيء من الإذخر ليسترهما.

ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة على أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم على موتاهم، ويتفرع علي هذا أنه ينبغي أن نحرص على أن يصلي على الميت من كان أقرب إلى الإجابة لإيمانه وروعه لأن الصحابة كانوا يتحرون ذلك، أي: أن يصلي على موتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن فوائد الحديث: أنه لا حرج أن يسأل الإنسان عن المانع، هل وجد أم لا، وذلك أن الأصل في الميت المسلم أن يصلي عليه ولا يسأل عن حاله، لكن لا بأس أن نسأل عن المانع

ص: 155

ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل عليه دين؟ فإن قلتم: إنه قد مر علينا أن نجري الأحكام على ظاهرها وألا نسأل عن المانع، ولهذا لو قال لك قائل: هلك هالك عن أبي وأم فكيف نقسم المال؟ هل تقول: الأب والأم مسلمان أو كافران أو لا يلزم؟ لا يلزم، لأن الأصل أنهما مسلمان، فلماذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو كان يسأل هل عليه دين أفليس الأصل عدم الدين؟ الجواب: بلى، إذن ما الداعي للسؤال ما الداعي أن نبحث عن المانع الذي يمنع من الصلاة؟ والجواب عن هذا الإشكال وهو إشكال حقيقي واقع: أن الصحابة- رضي الله عنهم يغلب عليهم الفقر، والاستدانة واردة، ولما كان الدين شأنه عظيم صار النبي صلى الله عليه وسلم يسأل هل عليه دين أم لا، هل يقاس على هذه المسألة ما إذا كان المشتهر عن هذا الرجل أنه لا يصلي وقدمت إلينا جنازته فهل نسأل هل كان يصلي أو لا؟ نعم القياس يقتضي هذا إذا علمنا أن هذا الرجل متهاون لا يصلي وهذا السؤال فيه شيء من الحرج، وفيه شيء من المنفعة، أما الشيء الذي من الحرج فإن فيه إحراجاً لأهل الميت، لأنهم لا شك سيحرجون إن كان لا يصلي فأخبروا بالصدق فهذه مصيبة، وإن أخبروا بالكذب فهذه أيضا مصيبة، فنقول: نعم، هذا لا شك أنه حرج وإحراج، لكن يترتب عليه مصالح عظيمة، يترتب عليه أن الذي يترك الصلاة سيحسب ألف حساب، ولأنه إذا علم أنه إذا مات سيسأل عن حاله ويفضح أمام الناس، ثم يحمل ويقال: لا نصلي عليه، ثم إن كان عندنا عزم وقدرة وقوة قلنا: ولا ندفنه في المقبرة بلي إذهبوا به بعيدا واحفروا له حفرة وأغمسوه فيها، الإنسان إذا علم أن هذا مآله في الدنيا والخزي في الآخرة أعظم فإنه ربما يرتدع عن ترك الصلاة فيكون في هذا فائدة عظيمة.

على كل حال: هذا الحديث يدل على هذه الفائدة وهي أنه إذا كان المانع متوقعاً فلا بأس من السؤال عنه وإلا فإن الأولى ترك السؤال، لأن السؤال عن الموانع من باب التنطع الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم «هلك المتنطعون» لكن إذا كان المانع متوقعاً وكانت الفائدة كبيرة من معرفته فلا بأس من الاستفهام عنه.

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي قصد من ترجى إجابته ليصلي على الميت، ويؤخذ من كون الصحابة يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي على جنائزهم؛ لأن الصلاة على الميت شفاعة له، ومن أقرب إلى الإجابة لصلاحه وتقواه كان أقرب إلى الشفاعة.

ومنها: حسن أدب الصحابة في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لقولهم: «فصلى عليه» ولم يقولوا: صل عليه، وتصلي كما قلنا في الشرح- جملة خبرية لكنها إنشائية، إذ أنها على تقدير همزة الاستفهام أي: أتصلي عليه؟

ص: 156

ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أن الجنائز تقدم في مكان يحتاج إلى مشي؛ لقوله: «فخطا خطوات» وكان الغالب في الجنائز في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنها يصلى عليها في مكان غير المسجد يسمى مصلى الجنائز، خاص بالصلاة على الجنائز ويصلى أحيانا على الأموات في المسجد عكس ما كان عليه الناس اليوم، فاليوم يصلي الناس على الجنائز في المساجد وليس لها أمكنة خاصة للصلاة عليها.

ومن فوئد الحديث: جواز السؤال عن المانع إذا كانت الحال تقتضي وجوده لقوله: «أعليه دين؟ » فإن لم تقتض الحال وجود المانع فالسؤال عنه من التنطع، فمثلا إذا جاءنا رجل وقال: إنه طلق زوجته هل نسأله أطلقتها وهي حائض، أم نقول بصحة الطلاق بدون سؤال عن المانع؟ الثاني هو الأولى، لأن الأصل عدم وجود المانع إلا إذا كان في بيئة لا يعرفون أن طلاق الحائض حرام، فحينئذ نسأل هذا إذا قلنا بأن طلاق الحائض لا يقع، أما إذا قلنا بأن طلاق الحائض واقع فإنه لا حاجة إلى السؤال، لماذا؟ لأنه واقع بكل حال حتى وإن كانت حائضا.

وهل نسأل عن فوات الشرط؟ يعني: قلنا وجود المانع لا نسأل عنه هل نسأل عن فوات الشرط أو لا؟

لا نسأل عن فوات الشرط، لأن الأصل وقوع الشيء على وجه صحيح، والدليل على هذا ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قوما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال:«سموا أنتم وكلوا» وفي هذا إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يسألوا لأن الذبح ليس من فعلهم فهم ليسوا مسئولين عن فعل غيرهم، وإنما يسألون عن فعلهم هم، ولهذا قال: سموا وكلوا، يعني: سموا على فعلكم وهو الأكل وأما الذبح الذي ليس من فعلكم فلا تسألوا عنه، إذن الأصل ألا نسأل عن فوات الشرط ولا وجود المانع إلا إذا اقتضت الحال ذلك فحينئذ لا بأس، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم «أعليه دين» .

ومن فوائد هذا الحديث: تعظيم الدين، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يستدين إلا عند الضرورة الملحة، لأنه إذا كان الدين يمنع شفاعة الشافعين فهو خطير، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمتنع عن الصلاة على من عليه دين، لأن صلاته شفاعة، والدين لا تنفع معه الشفاعة حتى الاستشهاد وفي سبيل الله الذي يكفر جميع الأعمال لا يكفر الدين.

ويتفرع على هذه الفائدة: بيان سفه بعض الناس الذين يستهينون بالديون وتجده يستدين لأدنى حاجة عنده سيارة تكفيه لشغله وزيادة لكنها من طراز قديم لها عشر سنوات، يعني: من

ص: 157

موديل ثمانين، قال: أنا أشتري موديل تسعين فيبيع هذه بثلاثة آلاف ويشتري بثلاثين ألفا وليس عنده من الثلاثين ألفا ولو ريالا إلا قيمة السيارة القديمة، هذا جعل وسفه وضلال، وإذا كان الله في القرآن لم يرشد إلا الاستدانة مع الحاجة التي تكون شبه ضرورة وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يتخلى من الدين، قال الله تعالى:{وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} [النور: 33] ولم يقل: وليستدن الذين لا يجدون نكاحاً، وإنما قال:{وليستعفف} ولما قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس عندي صداق أدفعه للمرأة لم يقل: استدن، بل قال:«ألتمس ولو خاتما من حديث» فلما لم يجد زوجه بما معه من القرآن.

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإمام أن يدع الصلاة على من عليه دين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعض العلماء/ لا هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لأن صلاته شفاعة، وأجيب بأن صلاة غيره شفاعة أيضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئاً غلا شفعهم الله فيه» والإمام مسؤل عن رعيته إذا امتنع من الصلاة على من عليه دين تعزيز له وكذلك تحذيرا من الدين كان ذلك مصلحة للرعية ومعلوم أن المصلحة قد يرتكب من أجلها مفسدة، لكنها دونها: يعني: أن المفسدة التي تحصل تنغمر في جانب المصلحة، فإذا رأى الإمام أو نائب الإمام ألا يصلي على من عليه دين فإن ذلك لا بأس به، وله أصل من هذا الحديث

ومن فوائد الحديث: جواز ضمان دين الميت لقوله: «فتحملها أبو قتادة» فأقره النبي صلى الله عليه وسلم وإذا جاز ضمان دين الميت، فضمان دين الحي مثله، فيجوز للإنسان أن يضمن الدين عمن هو عليه، وهذا هو الشاهد من هذا الحديث، واختلف العلماء في جواز ضمان الدين المجهول، فقال بعض العلماء: إنه جائز وقال آخرون: إنه لا يجوز، مثال ذلك: أن يرى شخصا قد أمسكه الشرط يريدون حبسه بدين عليه فجاء هذا الرجل المحسن وقال: لدين عليه فجاء هذا الرجل المسحن وقال: الدين علي وهو لا يدري ما قدره، فقال بعض العلماء/ إن هذا الضمان ليس بصحيح لأنه مجهول، وقد يكون الدين كثيراً لم يخطر على بال الضامن ولو تبين لو قدره ما ضمنه فيكون في ذلك ضرر عظيم وربما يجحف بمال الضمان وربما لا يقدر عليه فيتعب به، ومن باب أولى أن يضمن ما يجب على غيره وقد مر علينا أنه يجوز ضمان ما يجب، يعني: بأن أقول: «كل من باع على فلان كذا وكذا فأنا ضامن» وسبق لنا أن المذهب جوازه، ولكن لو قيل بقول وسط في هذه المسألة وهو أن يحدد الضامن حدا أعلى فيقول: أنا ضامنه ما لم يتجاوز عشرة آلاف مثلا، فإنه

ص: 158

إذا حد الأعلى زال الخطر، لكن يقول: أنا ضامن ما عليه، وقد يكون عليه عشرة ملايين، وهو ما عنده إلا عشرة إلاف هذا صعب، فالقول الوسط في هذه المسألة: أنه يجوز ضمان الدين المجهول إذا حدد الضامن حدا أعلى حتى يكون على بينة من أمره.

ومن فوائد هذا الحديث: فضيلة أبي قتادة رضي الله عنه حيث أحسن إلى هذا الميت حتى صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا من فضائله فإنه ينبغي لنا أن نقتدي به وبأمثاله من أهل الخير وأن نفرج عن كرب المكروبين، فإن من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للقاضي وولي الأمر أن يستثبت من المقر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «حق الغريم وبرئ منها الميت» فقال أبو قتادة: «نعم» وإنما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك من أجل أن يثبت الحق، وإذا فإن مقتضى الضمان أن يتحمل الضامن حق الغريم، ولكن أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبت الأمر فقال: «حق الغريم

إلخ» فقال: نعم

ومن فوائد الحديث: أن المضمون يبرأ بإبراء الضامن له لقوله: «وبرئ منهما الميت» وعلى هذا فلا يرجع أبو قتادة في هذا الحديث في تركة الميت بشيء لأنه التزم مع الميت وأبرأه فلا يرجع بشيء، فإن لم يبرأ الضامن المضمون عنه، بل فأن: أنا ضامن فقط فهل يبرأ بالمضمون عنه؟ الجواب: لا، بل يتعلق الحق بذمة الضامن وذمة المضمون عنه، ويكون لصاحب الحق في استيفاء حقه جهتان جهة: من جهة المضمون عنه، وجهة: من جهة الضامن، فله أن يطالب الضامن وله أن يطالب المضمون، ويذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحق له أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر عليه مطالبة المضمون، وبناء على هذا القول لو جاء الغريم إلى الضامن، وقل: أوف، فله أن يقول: أذهب إلى المضمون عنه، فإذا أبى أن يوفيك فأنا أوفيك، وعلى القول الأول هل يملك الضامن هذا؟ لا، القول الأول أن للغريم مطالبة الضامن والمضمون عنه، على هذا القول إذا جاء الغريم للضامن وقال أعطني ما ضمنت، فليس له الحق أن يقول: أذهب إليه فإن أبي فأتني، ولكن لو شرط الضامن أنه لا يدفع الدين إلا إذا تعذر استفاؤه من المدين ورضي الغريم بذلك فإن المسلمين على شروطهم، ويكون هذا القول قولاً وسطاً بمعنى أن له الحق أن يرجع على الضامن ما لم يشترط أنه لا يرجع عليه أو لا يستوفي منه إلا إذا تعذر الاستيفاء من المضمون عنه.

ومن فوائد الحديث: أن المضمون عنه يبرأ براءة كاملة إذا التزم الضامن ذلك وأبرأ المضمون عنه، ووجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «نعم» ولولا أنه يبرأ ما صلى عليه؛ لأنه إذا لم

ص: 159

يبرأ فقد تعلق الدين بذمته، وإذا كان الدين متعلقا بذمته لم يكن هناك فرق بين الحال الأولى التي قبل الضمان عنه والحال الثانية التي بعد الضمان عنه، وهذا القول هو الصحيح أنه إذا تحمل أحد الدين عن الميت على وجه يبرأ به الميت ورضي الغريم فإنه يبرأ الميت براءة تامة، وعلى هذا فلا تتعلق نفسه بدينه كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» فإذا ذهب الورثة إلى غريم لأبيهم وقالوا: إن الدين الذي لك على أبينا نحن نلتزمه ونبرئ الميت منه فرضي بذلك الغريم فإن الميت يبرأ براءة كاملة، وكذلك إذا وثق حق الغريم برهن فإنه يبرأ الميت براءة كاملة، ولا تتعلق نفسه بدينه، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة بدين عليه عند يهودي، ومن المعلوم أننا لا نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم معلقة نفسه بدينه بل خرج من الدنيا ولم يطلبه أحد- صلوات الله وسلامه عليه- لأنه قد وثق الدين بالرهن بالدرع التي رهنها عند الغريم.

ومن فوائد الحديث: الاكتفاء بالجوار ب «نعم» لقوله: «نعم» وعلى هذا فلو قيل لشخص: أعتقت عبدك؟ قال: نعم، فيعتق، طلقت زوجتك؟ قال: نعم طلقت قال ولي المرأة: زوجتك بنتي فقيل له: أقبلت؟ قال: نعم، ينعقد النكاح، أفي ذمتك لفلان مائة درهم؟ قال: نعم، يثبت، المهم أن «نعم» تقوم مقام الجواب، بل هي حرف جواب، وقد قيل: إن السؤال معاد في الجواب، فإذا قيل: أعليك كذا؟ قال: نعم، فالتقدير: على كذا.

840 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» متفق عليه.

وفي رواية للبخاري: «فمن مات ولم يترك وفاء»

قوله: «يؤتى بالرجل» يعني: يأتي أهل الميت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: «المتوفى» هذا هو الصواب في نطقها، ولا تقل:«المتوفى» وتقول: «توفي زيد» ولا تقل: توفي، وذلك لأن الميت متوفى وليس متوفياً، قال الله تعالى:{الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42] وقال الله تعالى: {قال يتوفاكم ملك الموت} [السجدة: 11] إذن ما تسمعه من بعض الناس من قولهم: «توفي فلان» فهو خطأ من حيث اللغة العربية.

«يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين» الجملة هذه حالية من «الرجل» أو نائب فاعل «يتوفى»

ص: 160

يجوز هذا وهذا، «فيسأل» يعني: النبي صلى الله عليه وسلم «هل ترك لدينه من قضاء؟ إلخ» يقول: «فيسال هل ترك لدينه من قضاء؟ » وفي حديث أبي قتادة السابق لم يسأل هل ترك لدينه من قضاء، فإما أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لمن عليهم الدين صار له ثلاث حالات: حال لا يسال، وحال يسأل وحال يقضي الدين، وإما أن يقال: إن حديث أبي قتادة رضي الله عنه قد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم علم من حال الرجل أنه ليس عنده شيء كان فقيراً يحتمل أن عليه ديناً أم لا، ولهذا سأل هل عليه دين، يعني: كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفه لكن لا يدري هل عليه دين أم لا فسال، وإذا كان كذلك لم يكن هناك فرق بين حديث أبي هريرة وحديث جابر رضي الله عنه، يقول:«هل ترك لدينه من قضاء؟ » فإن حدث أنه ترك وفائ صلى عليه، وذلك لأن حق الغريم صار مضمونا بما ترك الميت من قضاء فيصلي عليه، وإلا يعني إذا قال ما عنده شيء قال: صلوا على صاحبكم، وهل قضاء الدين مقدم على الوصية؟ الجواب: نعم، وهل هو مقدم على الميراث؟ الجواب: نعم أما تقديمه على الميراث فبنص القرآن، فإن الله تعالى لما ذكر المواريث قال:{من بعد وصية يوصين بها أودين} [النساء: 11] لكن كيف نقول: إن الدين مقدم على الوصية مع أن لوصية مقدمة على الدين في الذكر: {من بعد وصية يوصي بها أودين} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «ابدأ فيما بدأ الله به» ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم؟ فالجواب: أنه قد صح من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، والمعنى يقتضي ذلك، لأن الدين واجب، والوصية تبرع ليست بواجبة، ولكن قدم ذكر الوصية على الدين من أجل العناية بمراعاتها؛ لأنه لما كانت الوصية تبرعاً فإن من المتوقع أن يتهاون الورثة بها فجبرت بالتقديم، أما الدين فإنهم لم يتهاونوا به ولو تهاونوا به، لوجد من يطالب به، فمن أجل ذلك قدمت الوصية جبراً لما قد يحصل عليها من التفويت والإخلال، ويقول:«فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم» لما فتحت عليه الفتوحات وكثر المال عنده، ولاسيما من بعد صلح الحديبية لأنه بعد صلح الحديبية فتح الله على رسول صلى الله عليه وسلم فتح عليه خيب، وكان الناس بالأول أجياعا حتى فتحت خيبر فشبعوا وكذلك كانت غزوة حنين حصل فيها مغانم كثيرة لما فتحت الفتوحات قال:«أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم» إذا كان هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وجب أن يقدموه على أنفسهم، معناه: أني أراعي أنفسهم، إذا كان هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وجب أن يقدموه على أنفسهم، معناه: أني أراعي أنفسهم أكثر مما يراعونها كل إنسان يراعي نفسه، لكن رعاية النبي صلى لله عليه وسلم لنا أكثر من رعايتنا لأنفسنا:{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] وهذا وجب علينا أن نقدم محبته على محبة أنفسنا، وأن نفديه بأنفسنا، وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا وكل أحد، قال:«فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» لكن دين له وفاء أو ليس له وفاء؟ ليس له وفاء.

ص: 161

وفي رواية: «من مات ولم يترك وفاء فعلي قضاؤه» وقد ورد غب نفس الحديث أن من ترك ضياعاً- يعني: عقارات ومالاً- فلورثته، فكان صلى الله عليه وسلم يجبر ولا يجبر كيف ذلك؟ يعني: يقضي الدين ولا يأخذ التركة، إذا مات أحد وعنده تركة لا يأخذها بل تكون لورثته، وإن مات أحد عليه دين وليس له تركة فإنه يقضيه.

قال: «هل ترك لدينه» ، الدين: كل ما ثبت في الذمة سواء كان ثمن مبيع أو أجرة أم قرضاً أم صداقاً أم ضماناً لمتلف أم غير ذلك، كل ما ثبت في الذمة فهو دين عند العلماء، خلافاً لما يفهمه العامة الآن من أن الدين هو التورق، يعني: أن يبيع الإنسان على شخص شيئاً بثمن مؤجل أكثر من ثمنه حاضراً، ويسمى الدين والوعد والتورق وما أشبه ذلك، لكن الدين في الشرع أعم من ذلك كل ما ثبت في الذمة من ثمن مبيع، أو أجرة، أو قرض أو ضمان أو صداق أو خلع أي شيء يثبت في الذمة فهو دين.

يقول: «هل ترك لدينه من قضاء؟ » «من» حرف جر زائد لفظاً، لكن له معنى، ولهذا نقول:«من قضاء» مفعول «ترك» منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، «من قضاء» أي: من شيء يقضي منه الدين، «فإن حدث» يعني: يحدث أنه ترك وفاء قال: «صلوا على صاحبكم» والجملة هنا شرطية حذف منها فعل الشرط، وأما أداة الشرط فلم تحذف لكنها أدغمت ب «لا» وتقدير الكلام: وإن لم يحدث أنه ترك وفاء، أما جواب الشرط فهو قوله: قال: صلوا «وإلا قال: صلوا على صاحبكم» يعني: على من أتيتم بصحبته وهو هذا المتوفى سواء كان صاحبا له في الدنيا أم لم يكن؛ لأنهم الآن حين جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه أصحاب له.

«فلما فتح الله عليه الفتوح» «الفتوح» جمع فتح، والمراد بذلك: البلاد التي فتحها الله عليه، ولاسيما مثل خيبر، فإن المسلمين غنموا فيها مغانم كثيرة، وكذلك غزوة حنين غنموا فيها مغانم كثيرة، «لما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم» يعني: أنا أوثق ولاية من المؤمنين بأنفسهم، كل ولي نفسه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالإنسان من نفسه إذا كان مؤمنا فإذا كان المؤمنون بعضهم أولياء بعض فالنبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس إيماناً وأقواهم، فيكون صلى الله عليه وسلم هو أولى المؤمنين بالمؤمنين، ولهذا قال:«أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم» .

«فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم ضامناً لديون من مات وليس له وفاء

ص: 162

وفي رواية للبخاري: «فمن مات ولم يترك وفاء فعلي قضاؤه» فإن ترك وفاء فإنه يوفي ما تركته؛ لأن حق الورثة لا يرد إلا بعد الدين والوصية كما مر.

في هذا الحديث فوائد: أولاً: مشروعية إحضار الميت لم يرجى قبول دعوته ليصلي عليه، الدليل: أن الصحابة كانوا يأتون بموتاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه.

يتفرع على هذا فائدة أخرى وهي: أنه ينبغي أن يؤتي بالميت إلى المسجد الذي يكون أكثر جماعة؛ لأن ذلك أقرب للشفاعة فإن من مات وقام على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً شفعهم الله فيه، وربما يؤخذ منه جواز التأخير لكثرة الجمع؛ لأن الذين يأتون بالميت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لو أنهم صلوا عليه في أمكنتهم ودفنوه لكان أسرع، لكن يأتون به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجاء الشفاعة، فإذا كان التأخير يسيراً لكثرة الجمع فلا بأس به، وأما التأخير الكثير الذي أصبح الناس اليوم يتباهون به يموت الإنسان اليوم يكون له أقارب في بلاد بعيدة قد يكون حتى في بلاد أوربية فينتظرون به حتى يحضر أقاربه، فهذا خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإسراع بالجنازة، وخلاف ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله» وهو أيضا جناية على الميت، لكن الناس لا يشعرون كيف يكون جناية على الميت؟

لأن الميت إذا كان صالحاً فإن نفسه تقول: قدموني قدموني، تطلب أن توصل إلى القبر الذي فيه النعيم يفتح له باب من الجنة يأتيها من روحها ونعيمها حتى ينسى الدنيا كلها؛ لأنه ينتقل إلى نعيم أعظم بكثير من نعم الدنيا:{الذين توفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم دخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32] ادخلوا الجنة اليوم لأنه إذا فتح له باب إلى الجنة وآتاه من روحها ونعيمها فإنه لا شك يوقن أنه في الجنة فكوننا نؤخر الجنازة من أجل حضور فلان كأنما هي فرح وعرس يؤخر حتى يحضر الناس، لا شك أن هذا خلاف السنة وفيه جناية على الميت، أما التأخير اليسير كانتظار الظهر إذا مات بالصبح، أو انتظار الفجر إذا مات بالليل هذا لا بأس به ولا يضر إن شاء الله، لكن تأخيره يوم يومين إلى حد أنهم أحيانا يضعونه في الثلاجة، لأنه سيبقى مدة يومين أو ثلاثة فلا شك أن هذا خطأ، والواجب على طلبة العلم أن يبينوا للعامة أن هذا خلاف السنة، حتى لا يتخذوا ذلك سنة وعادة، لأن الناس إذا ارتكبوا الشيء صعب أن يتحولوا عنه، لكن إذا بين لهم أن هذا من الخطأ تركوه، وحتى الذي قد فعله أو يحدث نفسه بالفعل يرتدع.

ص: 163

ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لقوله: «فيسال هل ترك لدينه من قضاء؟ » إذ لو كان يعلم الغيب لم يسأل، وهذا الأمر واضح، فإن الله أمر أن يبلغ، فقال الله له:{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إن ملك} [الأنعام: 50] فهو لا يعلم الغيب- عليه الصلاة والسلام لا في حياته ولا في مماته، وإن كان قد تعرض عليه أعمال أمته، لكن هذا ليس علماً بالغيب بل هذا يوصل إليه ويبلغ به كما كان يبلغ به في حياته.

ومن فوائد الحديث: قبول خبر الواحد لقوله: «فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه» كلمة «حدث» مبني للمجهول يصلح أن يكون الذي حدثه واحداً، أو أكثر، لكن نحن نعلم أنه إذا لم يكن للميت إلا ولي واحد فإنه لن يعلم بحاله إلا واحد، أما إذا كان له أولياء متعددون فإنهم يعلمون بحاله، فالظاهر أنه يؤخذ من هذا قبول خبر الواحد، لكن فيما لم يكن فيه نزاع، أما إذا كان فيه نزاع فإنه يوكل إلى الحاكم الشرعي ويقضي فيه بما تقتضيه الأدلة.

ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصلي على من عليه دين لا وفاء له لقوله: «فإن حدث

إلخ» وإن لم يوف لماذا؟

لأن حق الغريم صار مضمونا بما تركه من الوفاء، فإن الورثة ليس لهم سلطان على التركة إلا بعد قضاء الدين لقوله تعالى في آيات المواريث {من بعد وصية يوصي بها أودين} فلو مات ميت وخلف مليوناً من الدراهم وخلف ابنا وبنتا وعليه مليوناً من الدراهم ديناً فليس للابن والبنت شيء من هذا المليون الذي تركه أبوهما، لماذا؟ لأنه لا حق للوارث إلا بعد قضاء الدين، ولهذا إذا قيل: إن خلف وفاء صلى عليه.

ومن فوائد الحديث: وجوب الصلاة على الميت لقوله: «وإلا قال: صلوا على صاحبكم والأمر للوجوب» .

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لمن له شأن في البلد إذا مات ميت عليه دين لا وفاء له ألا يصلي عليه، وأن يبين سبب ذلك، فيقول مثلا: هل عليه دين؟ إذا قالوا: نعم، قال: هل له وفاء فإذا قالوا: لا قال: إذن صلوا عليه؛ لأن في ذلك فائدتين: الفائدة الأولى: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله يقول: {لقد كان لكم في رسول الله أسوى حسنة} [الأحزاب: 21] الفائدة الثانية: أن ذلك أدعى إلى حذر الناس من الدين وهيبثهم منه، لاسيما في وقتنا الحاضر حيث استهان الناس بالديون، وصار الرجل يستدين الألف والألفين، وكأنما استدان درهما أو درهمين، ولا يبالى ثم إن من الناس من يستدين لأمور كمالية، بل يستدين لأمور إسرافية، يسرف رجل فقير لا يملك إلا مائة ريال، بنى قصراً يبنيه من يملك مليون ريال قال: أبني قصراً مثل فلان، لو أبني بيتاً قال الناس، هذا مسكين فقير قال: لا أنا أريد أن أبني قصراً مشيداً والسيارة عنده سيارة صغيرة على قدر

ص: 164

حاله لكن قال: لا أنا أشتري «بيوك» مثل الأغنياء هذا مسرف، لأنه أخذ بأكثر من الكمال بلغني أيضاً عن إنسان أنه اشترى فراشاً لدرجه وتدين دينا عشرين ألفا هذا سفه، فالحاص: أن الإنسان إذا كان له شأن في البلد كالقاضي والأمير وما أشبهها وامتنع عن الصلاة على من عليه دين لا وفاء له حذر الناس من الدين وهابوه ورأوا أنه عظيم.

ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم الخلف؛ لأنه لما فتح الله عليه الفتوح قال: «أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم» وصار يقضي الديون عن المدينين، وهل هذا من خلقه أم من ولايته؟ قال بعض أهل العلم: إن هذا من خلقه، وخلقه الكرم صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فلا يلزم ولي الأمر أن يقضي الديون من بيت المال؛ لأن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعله لمقتضى خلقه الكريم لا أنه تشريع للأمة، وقال بعض أهل العلم: بل هو تشريع للأمة ومن خلقه وبناء على هذا يجب على ولي الأمر أن يقضي ديون من لا وفاء لهم من بيت المال، وهذا القول هو الصحيح، وأنه يجب على ولي الأمر أن يقضي ديون الأموات الذين ماتوا وليس لهم وفاء، هذا إن تحمل بيت المال ذلك، أما إذا كان بيت المال لا يقوم بمصالح المسلمين كلها، فمعلوم أن المصالح العامة أولى من المصالح الخاصة، لو كان بيت المال لا يتسع لأرزاق المدرسين وأرزاق الأطباء وأرزاق الأئمة والمؤذنين، وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك، فمعلوم أن هذا المصالح أولى من المصالح الخاصة؛ لأن نفع هذه متعد وقضاء الدين نفعه قاصر.

ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز قضاء دين الميت من الزكاة، وأنه لو مات أحد وعليه دين فإنه لا يحل أن نقضي دينه من الزكاة، وأنه لو مات أحد وعليه دين فإنه لا يحل أن نقي دينه من الزكاة، وعلى هذا جمهور أهل العلم، بل حكاه انب عبد البر وأبو عبيدة القاسم بن سلام حكياه إجماعاً، أي: العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز قضاء الدين من الزكاة عن الميت إذا لم يخلف وفاء؛ لأن الله تعالى جعل الدين في تركته فقال: {من بعد وصية يوصي بها أودين} وإذا كان في التركة ولم يوجد تركة فإنه لا يوفي؟

ودليل آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يوفي الدين من الزكاة؛ لأنه من المعلوم أن الزكاة مشروعية في السنة الثانية من الهجرة ولم يكن يقضي الدين منها، بل لما فتحت الفتوحات قضي الدين قد يقول قائل: لعل الزكاة قبل فتح الفتوح لا تفي بحاجات الأحياء، ومن المعلوم أن حاجات الأحياء مقدمة على حاجات الأموات، وهذا لا شك أنه احتمال وارد ولكن الواقع بخلافه، فإن من المعروف أن للزكاة إبلاً لها راعي كما في قصة العرنيين الذين أخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم لإبل

ص: 165