الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - باب القسم بين الزوجات
"القسم": جعل الشيء أقساماً هذا في الأصل تقول: قسمته أقسمه قسماً؛ أي: جعلته أقساماً، والمراد بهذا الباب: قسم الزمن بين الزوجتين فأكثر؛ أي: أن تجعل لهذه يوماً ولهذه يوماً أو لهذه يومين ولهذه يومين حسب ما يتفقان عليه.
1012 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» . رواه الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم، ولكن رجح الترمذي إرساله.
كان يقسم لنسائه؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل لهذه يوماً ولهذه يوماً للصغيرة والكبيرة منهن، فيقسم لسودة ويقسم لعائشة، عائشة صغيرة وسودة كبيرة، ولما أحست سودة بأنه سيطلقها وهبت يومها لعائشة وبقيت رضي الله عنها من أمهات المؤمنين.
وقولها: «فيعدل» أي: يعدل بين نسائه في هذا القسم، فلا يميل إلى واحدة منهن، بل يسير سيراً عدلاً ليس فيه ميل لهذه، ويقول مع كونه يعدل:«اللهم هذا قسمي فيما أملك» .
يعني: من العدل، وهو يملك صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهذه يوماً ولهذه يوماً وكل إنسان يملك هذا، «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني: لا تلحقني يا رب لوماً تعاقبني به، «فيما تملك ولا أملك» وهو الحب، فإن المحبة لا يملكها الإنسان وإنما الذي يملكها الله عز وجل، فالمحبة لا يمكن للإنسان أن يعدل فيها بين النساء، وذلك أن هذا شي يلقيه الله في قلب الإنسان ولا يمكنه أن يتخلص منه ولا يمكن أن يعدل بين النساء، وقد كان معروفاً عند نسائه وعند الصحابة أنه كان يحب عائشة أكثر من غيرها، حتى إنه سئل عن ذلك:«من أحب الرجال إليك» قال: «أبو بكر» ، قيل: ومن النساء؟ قال: "عائشة". فهي أحب زوجاته إليه، وهن قد عرفن ذلك.
أسباب المحبة:
ولكن هل للمحبة أسباب؟ نعم لها أسباب، وللكراهة أسباب، فمن أسباب المحبة: إفشاء السلام بين المسلمين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم» .
ومن ذلك: الهدية، فقد جاء في الحديث:«تهادوا تحابوا» ، ومن ذلك أيضاً: الإحسان إلى الناس بالمال أو بالجاه فإن هذا يجلب المحبة، ومن ذلك: الزيارات فإنها تجلب المحبة، ومن ذلك: عيادة المريض فإنها تجلب المحبة وهي أشد جلباً من الزيارات المعتادة، لأن المريض يفرح فرحاً عظيماً بمن يعوده فيجد في قلبه محبة له هذه أسباب، ولكن هذه الأسباب قد يكون لها موانع ليس كل سبب يؤثر ويُؤثر مفعوله قد يكون لها موانع، الموانع أما من الإنسان نفسه أو من الله عز وجل، بأن يلقي الله في قلب هذا الرجل عدم المحبة لشخص ولو كان يفشي السلام معه، ولو كان يهدي إليه، ولو كان يزوره، لأن هذا شيء من الله، ولهذا قال:«فيما تملك ولا أملك» .
هذه المسألة -مسألة المحبة- لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيها، ولكن ما يتفرع عن المحبة وهو الجماع، هل يجب على الإنسان أن يعدل بين زوجاته في الجماع؟ يقول العلماء: إنه لا يجب؛ لأن الجماع يتبع المحبة، فإذا كان يحب واحدة أكثر من الأخرى فسوف تكون رغبته في جماعها أكثر من جماع الأخرى لاشك، وربما لا يميل إلى الأخرى من هذه الناحية إطلاقاً، لاسيما إذا كان ضعيف الشهوة، لأنه لا يتحمل أن يعطي هذه وهذه، فتجده يفرط كثيراً في حق الأخرى التي محبتها أقل من محبة الثانية، ولهذا قال العلماء: لا يجب العدل بين النساء في الجماع؛ لأن ذلك يتبع المحبة ولا طاقة للإنسان بالتحكم في المحبة، ولكن الصحيح في هذه المسألة أنه قد يمكن العدل في الجماع مثلاً إذا كان الإنسان يوفر نفسه للثانية ويتصدد ويعرض عن جماع الأولى، لأن بعض الناس يتصدد عن جماع إحدى الزوجتين، لأن الرغبة فيها قليلة ويقول بدلاً من أن أتعب نفسي في جماعها أجعل الجماع للأخرى فهذه لا أجامعها أبداً، وهذه أجامعها في الليلة مرتين، نقول: إذا كان الإنسان يتقصد هذا فإن ذلك حرام ولا يعارض هذا الحديث: «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» لأن هذا ما يملكه، فإذا كان يوفر شهوته للأخرى فلا يجوز، وهذا الذي ذكره ابن القيم، في "زاد المعاد" هو الصحيح، فأما أن تقول: لا يجب العدل في الجماع على الإطلاق فهذا فيه نظر.
في هذا الحديث فوائد منها: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم: حيث كان يقسم لنسائه ويعدل.
وفيه أيضًا أن المعاشرة التي تدوم هي المعاشرة المبنية على العدل، لأن الإنسان إذا جر وظلم وأجنف فإنه سيكون رد فعل من المظلوم الذي جير عليه، ويحصل بذلك النكد بين العائلة.
واختلف العلماء هل القسم واجب على النبي صلى الله عليه وسلم أو هو تطوع منه؟ فقال بعضهم: إنه واجب عليه، لعموم الأدلة الدالة على وجوب القسم بين الزوجات، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم داخل في عموم خطابه، وقال بعض العلماء: لا يجب لقوله تعالى: {ترجى من تشاء منهن وتأوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} [الأحزاب: 51].
فقال: إن الله خيره قال: {ترجى} {تأوي} ، {ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح} يعني لا جناح أن ترجع عن الأولى التي عزلتها، والذي يظهر أن الله خيره، لكنه اختار الأكمل وهو القسم، ولهذا كان في مرض موته يتنقل بين زوجاته ويقول: أين أنا غدا؟ ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم جعل القسم في حقه غير واجب لاختار من يختار من نسائه بدون أن ينتظر يومها، ولما علمت نساؤه أنه يريد عائشة أذن له أن يمرض في بيتها، رضي الله عنهن وجزاهن عنه وعنا خيراً، فأذن له فصار صلى الله عليه وسلم عند عائشة ومات في يومها، صادف موته في اليوم الذي هو يومها وفي بيتها وفي حجرها، وآخر ما طعم النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ريقها رضي الله عنها لأن أخاها عبد الرحمن دخل والنبي صلى الله عليه وسلم في سياق الموت وكان معه سواك فمد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بصره، قالت: فعرفت أنه يريد السواك، وكانت قد حضنته على صدرها فقلت: آخذه لك يا رسول الله؟ فأشار برأسه يعني: خذيه، فأخذته وقضمته، يعني: قطعت منه ما كان متلوثاً من قبل حتى طيبته ثم أعطته النبي صلى الله عليه وسلم فأستاك به، قالت: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم تسوك سواكاً أحسن منه، وهذا من رحمة الله به عز وجل أن خرج من الدنيا وهو على أكمل ما يكون من طيب الرائحة لأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، فكانت عائشة تفتخر بنعمة الله علها في هذه المناسبة أن الرسول مات وهو بين حاقنتها وذاقنتها وهي مستندة إلى صدرها ومات في يومها وفي بيتها، وأخر ما طعم من الدنيا ريقها رضي الله عنها.
ومن فوائد الحديث: أن ما لا يملكه الإنسان لا يلام عليه، لقوله:«فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» ، ولكن ربما ينازعنا منازع في أخذ هذه الفائدة، ويقول أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أن الله لا يلومه ولو كان غير مكلف به ما احتاج إلى الدعاء، ولكننا نقول إنه قال ذلك وإن كان محققاً فإن