الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان من نيته أن يرجع على أبيه بمقدار عمله، فهنا يعطيه أبوه مقدار عمله، ويعامله كأنه أجير أجنبي، فإن كان لا ينوي الرجوع على أبيه لكن صار بينه وبين أبيه سوء تفاهم، فقال لأبيه: أنا أريد مقابل عملي في مالك أو فلاحتك فهل يُعطى بأثر رجعي؟ لا؛ لأنا نقول: إنك عملت متبرعا، ولهذا نقول: ينبغي للأب أن يكون عنده شيء من العدل، فإذا كان هذا الولد يعمل معه في فلاحه وفي تجارته ينبغي له أن يجعل له سهمًا من الربح، لكنه سهم كسهم الأجنبي لا يبر ولده بزيادة لاسيما إذا كان الأخوة الآخرون لهم تجارات ومزارع يختصون بها، وهذا منقطع على أبيه، فإن مثل هذا يتعين أن يفرض له الأب شيئا إما من الربح وإما بأجرة شهرية، لكن لا يزيد على أجرة المثل.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز قول: لا، أمام من يستحق التعظيم؛ لقوله: لا، وقد ورد في حديث جابر ما هو أعظم من ذلك، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«بعني» يعني: الجمل «بأوقية» ، قال: لا، فإذن يجوز أن يخاطب الكبير والشريف ومن له التعظيم بمثل هذا، أما قول العامة يقولون كلمة ما أدري ما، هي كلمة يريدون بها التعظيم والاحترام فالظاهر لي -إن شاء الله- أنها جائزة، وقد يقول قائل: لعل هذا من باب التنطع إذا كان الصحابة رضي الله عنهم وهم أحسن منا خُلقا وأكمل منا أدبًا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحق البشر أن يُعظم بكلمة «لا» ، فلماذا لا نقول: لا؟ ولهذا أنا ربما أقيس هذه على قول بعض العلماء: الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء، بعض الناس يقول: أطير الماء، فيقولونها من باب التأدب بالألفاظ وقد ذكر صاحب الفروع رحمه الله الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء.
حكم الرجوع في الهبة:
(889)
- وَعَن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «العَائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يَعُودُ في قيئه» . مُتفق عليه.
- وفي رواية للبخاري: «ليْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوء، الذي يعودُ في هبته كالكلب يقيء ثُمَّ يَرّجع في قيئه".
هنا مُشبَّه ومُشبه به، المشبه العائد، والمشبّه به الكلب، وما هو الجامع بينهما؟ الجامع أشار إليه في قوله:«يقيء ثم يعود في قيئه» ، أي: الكلب في رجوعه في قيئه، يعني: أن الكلب يقيء ما في بطنه من الطعام ثم يرجع فيأكل هذا القيء، وذلك لأن الكلب إذا جاع أكل ما يليه أي شيء يصادفه يأكله، فهذا الذي أعطى الهبة ثم بعد ذلك رجع فيها، نقول: أنت مثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه، وفي رواية البخاري:«ليس لنا مثل السوء» بمعنى: العيب والنقص، والمثل
يعني: صفة ليست صفة السوء لنا نحن المسلمين؛ لأن الإسلام أعلى ما يكون في العبادة والأعمال والأخلاق، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مثّل رسالته صلى الله عليه وسلم بقصر مشيد مبني إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون ويتعجبون منه إلا موضع هذه اللبنة، يعني يقولون: ما أحسن هذا القصر ما أجمله لولا وضعت هذه اللبنة، يقول: فأنا اللبنة، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم أتم الله به البناء، وذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ، فكل مثل سوء في المعاملات فإن الإسلام بريء منه، ولهذا قال: ليس لنا مثل السوء، لنا، يعني: معشر المسلمين؛ لأن ديننا كامل تام من كل وجه. «الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه» ، هذا كالأول في قوله:«الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع» بدل يعود والمعنى واحد، يعني: أنه يشبه الكلب، ووجه الشبه بينهما: أن كلا منهما عاد فيما أخرج منه الكلب عاد في القيء وهذا عاد في الهبة.
هذا الحديث: يدل على تحريم الرجوع في الهبة؟ ولكن ما إذا قبضت؛ وذلك لأن مقتضى التشبيه أن تكون الهبة قد خرجت من يد الواهب وانفصلت؛ لأن القيء قد أنفصل من الكلب ثم يرجع، فإذا وهب الإنسان شيئا وأقبضه فإنه لا يجوز له أن يرجع فيه، فإن رجع كان ذلك حرامًا، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بأقبح صورة وأخبث ذات؛ فإن الكلب من أخبث الدواب حتى من الخنزير، ولهذا كانت نجاسته لا تطهر إلا بسبع غسلات، إحداها بالتراب، وطهارة الخنزير تطهر بإزالتها، فالكلب أخبث الحيوانات، ثم هذه الصورة من أبشع الصور أن يقيء ثم يعود في قيئه، فهذا دليل على تحريم الرجوع في الهبة بعد القبض، أما قبل القبض فليس الرجوع فيها حرامًا لكنه من إخلاف الوعد، والعلماء مختلفون في إخلاف الوعد، هل هو حرام أو مكروه؟ فجمهور أهل العلم على أنه مكروه، واختار شيخ الإسلام أنه حرام، وأن من وعد وجب عليه الوفاء، واستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدم الوفاء بالعهد من سمات المنافقين تحذيرا منه، وبأن هذا مخالف لقوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 43].
فأنت إذا أعطيت شخصا قلت: هذا الكتاب يا فلان لك، لكنه لم يقبضه خرج من المجلس ثم بعد إذن رجع عليه ليأخذ الكتاب فقلت له: رجعت في هبتي، نقول: هذا ليس حرامًا من جهة الرجوع في الهبة؛ لأن الهبة لم تُقبض بعد، وهي لا تلزم إلا بالقبض، لكنه حرام من جهة إخلاف الوعد؛ لأن قولك له: هذا الكتاب لك أدنى ما فيه بأنه وعد بتمليكه إياه، فإذا رجعت فهذا إخلاف الوعد، إذن الرجوع في الهبة على القول الراجح حرام سواء قبضت أم لم
تقبض، لكن إن كان قبل القبض فهي من باب إخلاف الوعد، وإن كان بعده فهي من باب الرجوع فيما ملكه الموهوب له، لأنه يملكها بالقبض، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وقال بعض العلماء: إن الرجوع في الهبة مباح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الراجع بالكلب، والكلب عمله لا يتعلق به تكليف، فرجوعه في قيئه لا يأثم به، وإذا كان لا يأثم كان المشبه -وهو الراجع في الهبة- لا يأثم برجوعه، لأن التشبيه إلحاق المشبه بالمشبه به، ولكن هذا لا شك أنه من تحريف النص وتعطيل معناه، فهو رجوع بالنص إلى غير ما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيه تحريف لمعنى النص، وتعطيل له؛ لأنا إذا قلنا بجواز الرجوع في الهبة، وقلنا: إن هذا الحديث يدل على الجواز، عطلنا الحديث عن معناه المراد به؛ إذ معناه التحذير من هذا العمل، والآن جعلنا معناه الإباحة لهذا العمل، فعطلنا النص، ثم هو أيضا تحريف للنص، إذ إن النص لا يدل على ذلك، بل النص يدل على التحذير من هذا غاية التحذير، لو أنك قلت لرجل من الناس: يا كلب، قال: لماذا؟ قلت: لأنك رجعت في الهبة، قال: إذن لا أوصف بأني كلب، لأن الرجوع في الهبة جائزة فتقول: الذي وصفك بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، هل يرضى بهذا أو يفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفه بذلك من أجل أن يقول له: ارجع في هبتك كما أن الكلب يرجع؟ هذا شيء مستحيل، ولم يشبه الآدمي الذي فضله الله على كثير ممن خلق، لم يشبه بالحيوان إلا في مقام الذم، شبّه الذين حُمَلوا التوراة بالحمار يحمل أسفارا ذمًا، وشبه الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بالكلب {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف: 176]. ذماً لا مدحاً، وشبه الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة بالحمار يحمل أسفارا مدحا أو ذمًا؟ ذمًا، إذن لم يشبه الآدمي الذي فضله الله على كثير ممن خلق بالحيوان إلا في مقام الذم، ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرك الإنسان في سجوده كبروك البعير، ونهى أن يبسط الساجد ذراعيه افتراش السبع، إذن لا يمكن أن نقول: إن هذا الحديث يدل على جواز الرجوع في الهبة. ثم يبطل هذا القول غاية الإبطال قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لنا مثل السوء» ، وهو صريح في أن الرجوع في الهبة مثل سوء تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ذهب ذاهب إلى أن الرجوع في الهبة بعد القبض من الكبائر لم يبعد، لماذا؟ لتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك:«ليس لنا مثل السوء» .
ومن فوائد الحديث: أنه لا فرق بين كون الراجع غنيًا أو فقيرا، فلو افتقر الواهب ثم أراد أن يرجع على الموهوب له، قلنا: لا يجوز، ولا فرق بين أن يرجع على الموهوب له بصفة صريحة أو بحيلة، مثال الصفة الصريحة: أن يذهب إليه ويقول: أعطني ما وهبتك، والحيلة: أن يشتريه بأقل من ثمنه، فإذا كان الموهوب يساوي مائة، واشتراه بثمانين، فقال رجع بالخمس
مشاعا، فلا يجوز، بل إن بعض العلماء حرم شراء الإنسان ما وهبه لغيره، ولو بثمن المثل، وعلل ذلك بأنه حيلة على الرجوع في الهبة، واستدل لذلك بقصة عمر بن الخطاب أنه حمل رجلاً على فرس في سبيل الله أعطاه إياه يجاهد عليه، فأهمله الرجل فأراد عمر أن يشتريه ظنا منه أنه سيبيعه برخص، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شراء ذلك من باب الرجوع؛ لأنه قال:«فإن العائد في صدقته كالكلب» ، وهذا القول ليس ببعيد، لاسيما إذا اشتراه الرجل مباشرة، فإن الغالب أن الموهوب له سوف يخجل ولا يماكسه في الثمن.
ومن فوائد الحديث: دناءة الكلب وخسته حيث كان يفعل هذا الفعل، ولا ندري عن بقية الحيوانات هل تفعل مثل ذلك أم لا؟ لكن إن فعلت فهذه دناءة أن يتقيء ثم يرجع في قيئه، ولا تستغرب إذا قلنا في ذلك دناءة الكلب وخسته؛ لأنك قد تقول: هذه بهائم وما لها وللخسة؟ ! وما لها ولكرائم الأخلاق؟ !
فنقول: بل إن البهائم تُمدح على كرائم الأخلاق، فإن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية لما بركت وخلأت - أبت أن تستمر في السير إلى مكة - صاح الناس، وقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، يعني: حرنت ووقفت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والله ما خلأت وما ذاك لها بخلق» ، فدافع عنها «ولكن حبسها حابس الفيل» ثم قال:«والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها شعائر الله إلا أجبتهم عليها» ، الحاصل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دافع عن ناقته أن تُوصف بسوء الخلق، قال:«ما خلأت وما ذاك لها بخلق» ، فبعض الحيوانات يكون دنيئا خسيسًا، ويدل ذلك على خبثه، وبعض الحيوانات قد يترفع عن مثل هذه الخسة، ويدل لهذا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خمس من الدواب كلهن فاسق» ، فوصفهن بالفسق، ويدل لهذا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم «حرم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطيرة» ، لماذا؟
قال العلماء: لأن الآكل لذلك إذا تغذى بهذا اللحم تأثر به، صار يأكل الناس، لأنه أكل لحم السباع، فيخشى أن يكون سبعًا، وإذا لم تتحقق السبعية فربما يكون من طبيعته محبة أذى الناس، فلذلك نهى عنه، وقد أخذ العلماء بهذا فقالوا: يكره للإنسان أن يسترضع لولده امرأة
حمقاء، قالوا: لأن ذلك يُؤثر في طبيعة الولد، يكون الولد أحمق، تُطلب له امرأة تكون حليمة حسنة الأخلاق، لأنه يتأثر بذلك.
على كل حال هذا الحديث يدلنا على خسة الكلب ودناءته، وبه نعرف خسة من أكرموا الكلب وعظموا الكلب، وصاروا يجعلونه ينام على السرير، وهم ينامون على الأرض، ويختارون له من اللحم أطيبه، يعطونه إياه، ويغسلونه بالصابون المطيب والشامبو، وهم لو غسلوه بماء البحر فهو عين نجسة خبيثة، لكن سبحان الله ربما يكون قوله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26]. يتناول حتى هذا، وهي أن النفوس الخبيثة تألف الخبيثة، ومن ثمّ نسمع عنهم لخبثهم أن الواحد منهم إذا علا الخلاء، وتعرفون أن كراسي الخلاء عندهم مرتفعة، قال: هاتوا الجرائد، ثم جلس على هذا الخلاء كاشف العورة وهو يقرأ الصحف -ويستريح في هذا، مع أن المكان خبيث، كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخله قال:«اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» ، لكن هم لخبث أنفسهم يألفون هذا، وهذه المعاني لا يدركها إلا من تأمل في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. لا يوجد أعظم من هذا الوصف، لكن أكثر الناس يظنون أن الإنسانية إنسانية حتى فيمن انحرف عن مقتضى الإنسانية، ولكن الإنسانية إنسانية إذا وافق الإنسان الطبيعة والفطرة التي خلق عليها الإنسان، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها أن أقوم لله بدين الله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم: 20].هذه فطرة الله إذا لم تقم وجهك للدين حنيفا فقد خالفت الفطرة وخرجت عن مقتضى الإنسانية وصرت مثل البهائم بل أشرُ {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55]{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 22]. فكل من لم يسمعه الله دينه، فإنه أصم أبكم وهو شر الدواب، ولكن مع الأسف نرى أن كثيرًا من الناس اليوم لا يرون هذا شيئا بل قد يرون أن بعض الكفار الذين أخذوا من محاسن أعمال الفطرة ما أخذوا خيرًا من المسلمين! اعلم أنه ليس في الكفار صدق ولا وفاء بعهد ولا حُسن في معاملة إلا وهو في الإسلام، كل شيء من محاسن الكفار فهو موجود في الإسلام، لكن من أصمه الله من المسلمين وصار أذنابًا لهم يرى أن كل خُلق حسن ومعاملة طيبة فهى منهم، حتى إننا سمعنا بعض الناس يقول - إذا أراد أن يحث صاحبه على الوفاء بالوعد -: إنه وعد إنجليزي، لماذا لا تقول: أنه وعد مؤمن؟ لأن المؤمن هو الذي لا يُخلف، وليس في الإنجليز ولا في الأمريكان ولا في الروس ولا