الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تسمى الرقبى، فلأن كل واحد منهما يرقب موت الآخر، لأنها مقيدة بالعمر، وبعد العمر ترجع إلى صاحبها على خلاف وتفصيل يأتى إن شاء الله.
الهبة وضوابطها:
888 -
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنى نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه» .
- وفي لفظ: «فانطلق أبى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي. فقال: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا. قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم فرجع أبى، فرد تلك الصدقة» متفق عليه.
وفي رواية لمسلم قال: «فأشهد على هذا غيري، ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواءً؟ قال: بلى. قال: فلا إذن» .
"نحلت": أعطيت ابني، ومنه قوله تعالى:{وأتوا النساء صدقتهن نحلة} . أي: عطية تامة، وقوله "إنى نحلت ابنى هذا غلاماً كان لى" قد يقول قائل: لماذا أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل من شرط أن يشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: ليس من شرط الهبة أن يشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن بشير بن سعد رضى الله عنه كان له ابن من عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة، وأهداه هذا الغلام فقالت أمه عمرة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها خافت أن ينازعه أحد من إخوانه من الزوجة الأخرى، فقالت لا أرضى حتى تشهد رسول الله، فجاء ليشهده، وأخبره بأنه نحل ابنه هذا هذه النحلة، وأن أمة عمرة بنت رواحة قالت: لا أرضى حتى تشهد الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ » أولاً: نسأل لماذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل نحل بقية ولده مثل ذلك أم لا؟ وهل يجب مثل ذلك؟ الجواب: إنما سأله لأنه أخبره أن هذا الابن ابن لعمرة بنت رواحة وسأل لعله خص هذا الابن من هذه المرأة دون إخوته فلذلك سأل، وسيأتى في الفوائد أن مثل هذا السؤال لا يجب إلا بقرينة، ونسأل مرة أخرى عن قوله:«أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ » لماذا نصب كل وهى مبتدأ بها؟ والجواب على ذلك: أن هذه الجملة من باب الاشتغال والاشتغال أن يتقدم اسم ويتأخر عنه عامل يعمل في ضمير ذلك الاسم، وسمى اشتغالاً لأن العامل اشتغل بضميره عنه، مثاله: زيد ضربته. اشتغلت "ضرب" بضمير "زيد" فصار مرفوعاً، ولولا هذا الإشتغال لوجب أن تنصب زيد فنقول" زيداً
ضربت؛ لأن العامل إذا لم يشتغل عنه تسلط عليه فنصبه، فإذا قلت: زيد ضربته جاز لك في إعراب زيد وجهان: الرفع: "زيد ضربته" على أن يكون زيد مبتدأ وجملة ضربت خبر، "وزيداً ضربته" على أن يكون زيد مفعولاً لفعل محذوف يفسره ما بعده، والتقدير: ضربت زيداً، ولكن أيهما أرجح النصب أو الرفع؟ هذا الحكم تجرى فيه الأحكام الخمسة وجوب النصب، ومنعه، وترجيحه، ومرجوحيته والتساوى التي هي الإباحة.
على كل حال: لا نفصل في هذا، لكن الذي يهمنا أن الهمزة في قوله:" أكل ولدك؟ " همزة استفهام والغالب أن تختص بالفعل، الغالب أن أدوات الاستفهام تدخل على الأفعال، فإذا جاء المشغول عنه بعد همزة الاستفهام ترجح نصبه، لأن الغالب -كما قلت- أن أدوات الاستفهام يليها الفعل، فإن كانت الأداة التي وليها المشغول عنه تختص بالفعل ولا تدخل على الاسم تعين النصب، وهنا نقول: النصب راجح أو متعين؟ راجح، لأن الاستفهام يدخل على الأسماء والأفعال، لكن الغالب في الأفعال، ولهذا نقول: يجوز في هذه الجملة: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ ويجوز "أكل ولدك؟ "، لكن النصب أرجح، لأن أدوات الاستفهام لا يليها إلا الفعل غالباً، "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ ""ولد" مفرد مضاف يعم جميع الأولاد، كما أن "كل" أيضاً مفيدة للعموم وقوله:"ولدك" يشمل الذكور والإناث، وفي رواية لمسلم:«أكل بنيك نحلته مثل هذا؟ » ولنا عليها عودة -إن شاء الله-، قال "لا" يعنى: لم أنحله مثل هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأرجعه" يعنى: رده واعتبره لاغياً، وإرجاع الشيء معناه: إبطال ما سبق فيرجع الشيء إلى ما كان عليه قبل التصرف، وفي لفظ «فانطلق أبى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي» بناء على اقتراح زوجه عمرة بنت رواحة يعني: على الصدقة التي تصدق بها على فالإضافة إلى المفعول به لأنك تضيف الصدقة إلى نفسك أحياناً وإلى من تصدقت بها عليه، فإذا قلت: صدقة وكلت عليها فلاناً فقد أضفتها إلى نفسك إلى الفاعل، وقد تضاف إلى المفعول به فيقول المعطى: صدقتي يعني: التي تصدق بها على، وهذا الحديث من هذا الأخير وسماها صدقة، لأنها تجتمع مع الصدقة في أن كل واحد منهما بلا عوض، على أن العطية أيضاً إذا أريد بها وجه الله ولو كانت للأبناء فهي من الصدقات، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن صدقة الإنسان على نفسه وعلى أهله فقال:«أفعلت هذا بولدك كلهم؟ » ، الجملة هنا كالجملة السابقة إلا أنه ليس فيها اشتغال قال: لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» ، يعني: اتخذوا وقاية من عذابه وذلك بفعل الطاعة واجتناب المعصية وهنا يراد بها اجتناب المعصية، وهي تخصيص بعض الأولاد بالعطية دون بعض، قال:"واعدلوا" يعنى: ساووا بينهم. والأولاد جمع مضاف فيشمل الذكور والإناث والصغار ويشمل من كان غنياً ومن كان فقيراً، قال «فرجع أبي فرد تلك الصدقة» "رجع" يعني: على
النعمان فأخذ الصدقة منه وهي الغلام، وفي بعض الروايات أنها حائط، وجمع بينهما بأنها حائط وفيه غلام، وفي رواية لمسلم قال:«فأشهد على هذا غيري» ، لأنه جاء به ليشهد النبي-صلى الله عليه وسلم «أشهد على هذا غيري» ، وفي رواية:«فإني لا أشهد على جور» ، إذن فقوله:«أشهد على هذا غيري» للتوبيخ وليست للإباحة، ولا للوجوب ولا للاستحباب، ولكنها للتوبيخ، لأنه قال:"إني لا أشهد على جور" فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أشهد على هذا غيري" فهذا يوبخه، ثم قال:«أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ » السرور معروف، سرور القلب وهو راحته وطمأنينته وانشراحه، "أيسرك أن يكونوا" يعنى: الأولاد، "لك في البر سواء؟ "، قال:"بلى" هنا واقعة موقع نعم، لأن الجواب في مثل هذا يكون "بنعم" في حال الإثبات إلا إذا كان الاستفهام داخلاً على نفي مثل:{أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8]. فنقول: "بلى"، أما إذا كان الاستفهام داخلاً على الإثبات فإن جوابه إما نعم وإما لا، لكن قد تنوب بلى مناب نعم كما تنوب نعم مناب بلى فمن الأول هذا الحديث ومن الثانى قول الشاعر:"الوافر":
(أليس الليل يجمع أم عمرو
…
وإيانا فذاك لنا تدانى)
(نعم وترى الهلال كما أراه
…
ويعلوها النهار كما علاني)
الشاهد قوله: "نعم" في جواب: "أليس؟ "، والأصل أن يقال:"بلى"، وهذا الشاعر من أزهد الناس وأقلهم شوقاً وطمعاً، لأنه يكفيه من معشوقته أن يجمع الليل بينه وبينها ولو كانت هي في المشرق وهو في المغرب ما دام ترى الهلال وهو يرى الهلال، فذلك لهم تدان، ما أدرى هل عشقه إياها ضعيف؟ وإلا فهو رجل قنوع في الواقع، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له سعد: بلى أي نعم، قال "فلا إذن"، أي: فلا تعطه إذن، أي: في هذه الحال، أي: في الحال الذي يسرك أن يكونوا لك في البر سواء فلا تعطه من بينهم.
هذا الحديث كما ترون فيه هبة لكنها هبة حصل فيها مانع وهو عدم التسوية.
- ففي الحديث من الفوائد فوائد كثيرة:
أولاً: جواز عطية الوالد لولده، وأن ذلك يسمى عطية، وهذا خلاف النفقة، فإن النفقة إلزام على الأب أن ينفق على ولده كما قال الله تعالى:{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233].
ومن فوائد الحديث: جواز تملك الرقيق؛ لقوله: «إنى نحلت ابنى هذا غلاماً» .
ومن فوائده أيضاً: تعيين الموهوب له، وتعيينه يكون بالإسم، ويكون بالإشارة، وطريقه هنا الإشارة.
ومن فوائده: أن الإشارة تقوم مقام العبارة في التعيين، ويتفرع من هذه الفائدة: أن الرجل لو زوج ابنته بالإشارة صح العقد، فلو قال زوجتك ابنتي هذه، وهي حاضرة، ولم يسمها صح العقد، لأن الإشارة تقوم مقام العبارة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب على المفتي أن يستفصل إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله:"أكل ولد نحلته مثل هذا؟ " أما إذا لم يكن هناك حاجة، فإنه لا يجب السؤال، ولا الاستفصال، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل كثيراً عن مسائل ولا يستفصل، ولو وجب ذلك لكان فيه مشقة.
فإذا قال قائل: إني بعت بيتي على فلان فلا حاجة أن يقول: يعته بثمن معلوم، والبيت معلوم، ويستفصل عن جميع الشروط، وهل بعته بعد أذان الجمعة الثاني أو في وقت آخر ويذكر كل الشروط والموانع؟ هذا صعب، لكن إذا دعت الحاجة إليه وكان المقام يقتضى فلابد من الإستفصال.
فلو سألك سائل فقال: هلك هالك عن بنت وأخ وعم شقيق، هنا سنقول: للبنت النصف، هذا لا يحتاج تفصيل، لها النصف على كل الأحوال، الأخ والعم يحتاج إلى تفصيل، لأنك ستقول: هل الأخ شقيق أو لأب أو لأم؟ إن قال السائل: لأم، فالباقي بعد فرض البنت للعم، لأن الأخ من الأم لا يرث مع الفرع شيئاً، وإن قال: إن الأخ شقيق أو لأب، فالباقي له، ولا شيء للعم، فهل يجب على المفتى في مثل هذا السؤال أن يستفصل؟ نعم، لأن الجواب يترتب على الإستفصال.
ومن فوائد الحديث: أنه يجب التسوية في عطية الأولاد، لقوله:"أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ "، لأن المماثلة تقتضى التسوية، وظاهره أنه لا فرق بين الذكر والأنثى فإذا أعطى الذكر مائة فليعط الأنثى مائة، لأن هذه مماثلة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، قال:"أكل ولدك؟ "، إلى هذا ذهب كثير من أهل العلم، وهو رواية عن أحمد، بمعنى: أن الواجب التسوية بين الذكر والأنثى، وقال بعض العلماء: بل الواجب التفضيل، أي: نفضيل الذكر في العطية على الأنثى، وأن الإنسان إذا أعطى ولده مائة فليعط الأنثى خمسين، وإذا أعطى الأنثى مائة، فليعط الذكر مائتين، واستدل هؤلاء بأنه لا أحد أعدل من الله، وقد قال الله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. ولأن المال لو بقى عند الأب حتى مات لكانت قسمته على
الأبناء والبنات بالتفضيل للذكر مثل حظ الأنثيين، فكيف تقول: إذا قدم تملكهما وجب التسوية؟ فما دام هذا المال لو بقي حتى مات الأب لاقتسموه بالتفضيل، فكذلك إذا قسمه هو فليكن بالتفضيل، وأجابوا عن الحديث بأن كلمة ولد صالحة للذكور والإناث، وإحدى رواية مسلم:«ألك بنون؟ » تفيد بأن بشير بن سعد كان عنده من الأولاد بنون وليس عنده بنات، ومن المعلوم أنه إذا أعطى أولاده وكانوا كلهم بنين فإن الواجب التسوية، وهذا الأخير أقرب، أي: أن التسوية بينهم تكون بحسب الميراث.
ومن فوائد الحديث: أن التسوية فيما إذا كان الشيء مثله، يعني: عطية مجردة أما إذا كان لسد الحاجة والنفقة، فإن العدل بينهم أن يعطي كل واحد ما يسد حاجته ويكفيه سواء كان أكثر من الثاني أم أقل أم مساوون، فإذا قُدر أن له ولدين أحدهما صغير والثاني كبير طويل، الصغير يكفيه من الثياب متر، وهذا الكبير الطويل يحتاج إلى خمسة أمتار مثلاً، فهل نقول: إذا كسوت الكبير خمسة أمتار فادخر للصغير ما يُقابل الزائد؟ الجواب: لا؛ لأن النفقة العدل فيها أن تعطي كل واحد منهم كفايته، كذلك لو كان عنده أبناء بلغ أحدهم سن الزواج فزوجه، والآخرون صغار، فهل يعطي الآخرين مثل المهر الذي أعطاه الكبير؟ لا، بل لو أعطاهم لوجب أن يعطي الكبير مثل ما أعطاهم، هل يجوز أن يُوصي بمثل ما أعطى الكبير مهرا للصغير؟ لا يجوز، ولو أوصى لبطلت الوصية، بل نقول: العدل بينهم أن من بلغ سن الزواج وطلب الزواج تزوج، ولكن لو سألنا قال: أنا زوجت الكبير في زمن الرخص حيث كان المهر مائة ريال، والصغير الآن بلغ سن الزواج في زمن الغلاء، المهر بعشرة آلاف ريال، ماذا نقول؟ أعطه عشرة آلاف لأنك أعطيت الأول مهرا، أعط هذا مهرا، ولو كان الأمر بالعكس زوج الكبير في حال الغلاء، ثم رخصت المهور، فهل يُعطى الصغير الذي زوجه حال رخص المهور يعطيه ما زاد في مقابل ما أعطى الكبير؟ لا؛ لأن هذا كفاية، ومثل ذلك لو احتاج أحد الأولاد إلى علاج، وأعطاه علاجا أو عالجه في بلد آخر، فإن هذه النفقات لا يلزم أن يعطي مثلها الآخرين، لأنها للحاجة، لو أعطى أحدهم لكونه طالب علم، فأعطاه من أجل طلب العلم ولم يعط الآخرين، فهل يجب عليه أن يعطى الآخرين؟ نقول: نعم إذا كان مستعداً أن يعطى الآخرين مثل ما أعطى هذا إذا طلب العلم هذا لا بأس به، لاسيما إذا قال لهم: أنا أعطيت أخاكم من أجل أنه طالب علم، فإن هذا لا بأس به في التشجيع على العلم، نعم لو فرض أن أحدهم كان فيه مانع من طلب العلم مثل أن يكون أشل فأعطى طالب العلم، فهنا قد يتوجه القول بأن يعطي الأشل، لأنه إنما ترك طلب العلم عجزاً عنه لا زهدا فيه ورغبة عنه، لو كان أحدهم يعمل معه في فلاحته أو تجارته فنحله شيئا دون الآخرين هل يجوز؟ نقول: إذا كان هذا العمل مع أبيه متبرعا وقصده البر؛ فإنه لا يجوز أن يعطيه شيئًا يخصه به لأن هذا يريد ثواب الآخرة، فله ثواب الآخرة، أما إذا