الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوب العناية بالعارية وردّها على المُعير:
851 -
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . رواه أحمد، والأربعة، وصححه الحاكم.
«على اليد ما أخذت» عني: على اليد ضمان ما أخذت ورعاية ما أخذت من الأعيان حتى تؤديه إلى صاحبه.
وعموم هذا الحديث يتناول عدة مسائل، أولًا: ما أخذ على سبيل العارية، يعني لو أخذت منك شيئًا عارية فعلي رعايته وصيانته وحمايته مما يُتلفه ورده إليك، ومنها: ما أخذ على سبيل الإجارة، كما لو استأجر شخص مني ساعة يستيقظ بها من النوم. فإن عليه حماية هذه الساعة وصيانتها وحفظها وردها إلي، آخذ مي المرتهن رهنًا في دين علي فعليه ما أخذ حتى يؤديه، المهم كل من أخذ شيئًا فإن عليه حماية هذا الشيء والقيام بمصالحه ما دام عنده وأداؤه على صاحبه.
«على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ومن ذلك العارية، فإذا استعار شخص مني كتابًا مثلًا فعليه حماية هذا الكتاب ورده عليّ، لكن ما تقولون في رجل استعار كتابًا من أخيه وملأه من الحواشي يخط رديء -لا يُقرأ- مداخل لأسطر الكتاب، وفي النهاية جعله كراريس بدلًا ما كان محبوكًا هل يجوز؟ إذا قال هذا المستعير: أنا فعلت كذلك لأجل أن يكون هناك حواش كثرة تنفعك لكن حواشيه غلط بدل أن يكتب الفاعل مرفوعًا يكتب الفاعل منصوبًا والمفعول مجرورًا بالكسرة، نقول: هذا حرام عليه، بل لو وضع حاشية مفيدة صحيحة كان حرامًا عليه حتى يأذن صاحبه، أما تفكيك الكتاب حتى يجعله كراريس ويدعي أن ذلك من مصلحة القارئ لأن حمل الإنسان عشرة ورقات أحسن من حمله ستمائة صفحة، فهذا أيضًا حرام لا، إذا استعار المِنشفة التي تُعلّق بالجدار وتنشف به بعد الغسل، من المعلوم أنك إذا تنشفت بها سوف يزول خملها، فهل نقول: لا تتنشف، لأنك إن فعلت زال الخمل الذي فيها؟ لا، لا نقول هذا، لماذا؟ لأن هذا من لازم الانتفاع بها أن يزول هذا، كذلك إنسان أعارني رِشاء -شيء يُربط به الدلو وينزل في البئر ويُستقى به- فاستعار مني الرشاء لكن بدأ يستخرج الماء بالرشاء، فالرشاء لا شك أنه سيضعف، فهل نقول له: إن عليك الضمان؛ لأن على اليد ما أخذت حتى تُؤديه؟ لا، لماذا؟ لأن هذا من لازم الانتفاع به.
استعرت منه سيارة لأسافر بها إلى الرياض وأرجع، من المعلوم أن السيارة إذا مشت على الإزفلت سوف تتآكل عجلاتها فهل نقول لا تمش فيها لأنك لو مشيت لتآكلت العجلات فتؤديها لصاحبها على غير ما أخذت عليه؟ لا، لماذا؟ لأن هذا من لازم الانتفاع، إذن يُخصص من عموم هذا الحديث أنه متى نقصت العارية بالانتفاع المأذون فيه فإنه ليس على المستعير ضمانها.
يؤخذ من هذا الحدث فوائد: أولًا: حرص الإسلام على أداء الأمانة؛ لقوله: «حتى تؤديه» ، فلو استعرت من سيارة سافرت عليها ورجعت وانتهت الاستعارة فقلت: تعال خذ سيارتك، قال: لا، أحضرها أنت، من الصواب معه؟ مع صاحب السيارة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«حتى تؤديه» .
استعرت منه مُسجلًا أسجل به قراءة وانتهيت من التسجيل فقلت: تعالى خذ المسجل، فقال: ائت بالمسجل أنت، فقلت: كيف؟ المسجل لك متى شئت خذه، هل أنا ظالم؟ نعم، المستعير ظالم، كيف يحسن إلي وأقول: أنت الذي تأخذ مالك: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» مرّ علينا قبل مدة أن الواجب على من أطارت الريح ثوب جاره إلى بيته أن يعلمه به أو يسلمه له، فلماذا تقول يكفي الإعلام؟ لأني لم آخذه لمصلحة، لم يكن في بيتي لمصلحة حتى أؤديه، إنما أطارته الريح على بيتي وأنا لست مُلزمًا بأن أحمله إليه، وربما يكون الشيء ثقيلًا يحتاج إلى مؤنه قد تحمل الريح من على سطح جاري شيئًا ثقيلًا حينئذ لا يلزمني حمله بل يكفي الإعلام.
ومن فوائد الحديث: وجوب العناية بالعارية وحفظها عن التلف؛ لأنه لا يمكن أداؤها كما أخذها الإنسان إلا بذلك.
ويترتب على هذه الفائدة: أنه لو تعدى أو فرّط فهو ضامن؛ لأنه ترك ما يجب عليه، ومن ترك ما يجب عليه لم تكن يده يد أمانه، وكل يد ليست يد أمانه فإنها ضامنة، أما حديث أبي هريرة:
2 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» . رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، صححه الحاكم، واستنكره أبو حاتم الرازي، وأخرجه جماعة من الحُفّاظ وهو شامل للعارية.
«أدِّ» الخطاب لواحد، لكن المراد به كل يتأتى خطابه، وعلى هذا فيشمل جميع الأمة أد.
أيها المُخاطب الذي تعقل الخطاب، «أد الأمانة» ، يعني ما ائتُمنت عليه، «إلى من ائتمنك» فأدها كاملة دون تعد ولا تفريط ولا نقص، «ولا تخن من خانك» ، الخيانة هي الغدر في موضع الائتمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تخن من خانك» ، وإنما قال ذلك؛ لأن من خان الإنسان قد تأمره نفسه أن يخونه كما خانه أولاً فيُجازى بمثله.
هذا الحديث يستفاد منه فوائد منها: وجوب أداء الأمانة ومن بينها العارية، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذا الحديث.
ومن فوائد الحدث أيضًا: أن الإنسان لا يرد الأمانة إلا لمن ائتمنه، فلا يردها إلى شخص آخر إلا أن تقوم بينه أو قرينة فليفعل، بيّنة مثل أن يأتي شخص ببينة بأن أمره صاحب الأمانة بان يقبضها، فهنا يتعين أن ترد إليه بالبينة، أو قرينة مثل أن يردها على من يحفظ ماله عادة كرجل استعار من شخص إناء ثم عاد فقرع بينه فسأل عنه، قالوا: إنه في السوق فأعطى الإناء أهل البيت فهل يبرأ بذلك؟ نعم يبرأ؛ لأن هذا هو ما جرت به العادة، ولا يلزمه أن يذهب ويتطلب هذا الرجل.
من فوائد الحديث: تحريم الخيانة مطلقًا لقوله: «لا تخن من خانك» ، أما تحريم الخيانة لمن خانك فهو منطوق الحديث، وأما تحريم الخيانة مما لم يخن؛ فلأن هذا من باب أولى، وما كان من باب أولى فقد اختلف العلماء هل هو داخل في المنطوق دخولًا لفظيًا، ويكون ذكر الأدنى تنبيهًا على ما فوقه أو هو داخل بالقياس، فيكون اللفظ لا يتناوله لكن تناوله من حيث المعنى؛ لأن القياس الجلي الذي يكون فيه المقيس أولى بالحكم من المقيس عليه لا شك أنه داخل في ضمن اللفظ من حيث المعنى.
على كل حال: إذا كان الحديث يدل على تحريم الخيانة لمن خانك فإنه يدل على تحريم الخيانة، من العلماء من أخذ بظاهر الآية وأعلّ الحديث وقال: إن الحديث ضعيف ولم يأخذ به، ولكن هذا ليس بسديد، والجمع بينهما أن نقول: إن العدوان ليس فيه ائتمان المعتدي الذي اعتدى عليك عدوانًا ظاهرًا لكن الذي ائتمنك لا يجوز أن تعتدي عليه في مقابل أنه خانك، لأن مقتضى الأمانة دفع الخيانة، وأنت أمين فليس هذا من باب {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة 194].
فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا الحديث وبين حديث هند بنت عتبة حين شكت زوجها أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال:«خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
فالجواب على ذلك أن نقول: هذا ليس فيه ائتمان، فأبو سفيان لم يأتمنها على ماله، لكنها أخذت قدر حقها الواجب عليه من ماله بدون ائتمان، وهناك فرق بين رجل يأخذ ما يجب له بدون ائتمان وشخص ائتمنه غيره فخان الأمانة.
يبقى النظر إذا قال قائل: إذا قلتم بهذا فكل من كان له على شخص دين وقدر على شيء من ماله فله أن يأخذ بمقدار دينه، لأن المدين لم يأتمنه فهو يأخذ من ماله بقدر دينه، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال زوجها بدون علمه؟
فالجواب: أن هذه المسألة يُعبّر عنها عند أهل العلم بمسألة الظفر، يعني: الذي يظفر بماله، شخص له عليه حق هل يأخذ بقدر حقه، وهذه المسألة فيها أربعة أقوال للعلماء:
القول الأول: المنع مطلقًا، واستدلوا عليه بهذا الحديث.
القول الثاني: الجواز مطلقًا، واستدلوا عليه بالآية:{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليك} [البقرة: 194]. حتى إن ابن حزم قال: يجب أن تأخذ من ماله بمقدار مالك؛ لأن الله أمر قال: {فاعتدوا} لكن هذا ليس على سبيل الوجوب؛ لأن قوله: {فاعتدوا} على سبيل الإذن والإباحة، ولهذا لو أسقطت حقك وسمحت كان هذا جائزًا بالاتفاق على كل حال: هذا قول.
القول الثالث: إن كان ما أخذته من جنس ما هو لك فلا بأس مثل أن يكون في ذمته لك مائة صاع من بُرّ فتأخذ من ماله مائة صاع من بُرّ، وأما إذا كان من غير الجنس فإنه لا يجوز؛ لأنه إذا كان من غير الجنس صار مبادلة ومعاوضة فيكون عقد بيع، وعقد البيع لا يجوز إلا برضاً من البائع، وعلى هذا فلا يجوز.
لو كان في ذمته لك مائة صاع من البر ولم تجد عنده إلا رزًا فهل تأخذ؟ الجواب على هذا القول: لا؛ لأنه ليس من جنس مالك.
القول الرابع: أنه إذا كان سبب الحق ظاهرًا فلك أن تأخذ بمقدار حقك، وإن كان باطلًا فليس لك أن تأخذ، واستدلوا لذلك بما إذا كان ظاهرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها؛ لأن سبب وجوب النفقة ظاهر، وهو الزوجية، فهي زوجته فلو أخذت منه ثم عثر عليها ثم طالبها لم يقل الناس: إنها خائنة؛ لأن الناس يعرفون أنها زوجته، ولها حق النفقة، وكذلك أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن نزلوا على قوم ضيوفًا ولم يعطوهم حق ضيافتهم أن يأخذوا من أموالهم بمقدار ما لهم من الضيافة، لماذا؟ لأن الحق سببه ظاهر وهو الضيافة، هذا القول هو