المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌16 - باب إحياء الموات - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٤

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌2 - باب الخيار

- ‌ خيار المجلس

- ‌خيار العين:

- ‌3 - باب الربا

- ‌تحريم الربا:

- ‌أنواع الربا:

- ‌مسألة: هل يلحق بالأصناف التي فيها الربا غيرها؟ خصص فيه الرسول ستة أشياء فهل يلحق بها غيرها

- ‌بيع التمر بالتمر وشروطه:

- ‌بيع الذهب بالذهب:

- ‌بيع الحيوان بالحيوان:

- ‌بيع العينة:

- ‌الشفاعة المحرمة:

- ‌الرشوة:

- ‌بيع الحيوان بالحيوان نسيئة:

- ‌المزابنة:

- ‌مسألة في بيع العرايا وشروطه:

- ‌بيع الدين بالدين:

- ‌4 - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار

- ‌بيع العرايا:

- ‌بيع الثمار:

- ‌5 - أبواب السلم، والقرض، والرهن

- ‌الرهن:

- ‌غلق الرهن:

- ‌الترغيب في حسن القضاء:

- ‌حكم الجمعية وهل هي ربا أو لا

- ‌6 - باب التفليس والحجر

- ‌التحذير من مماطلة الغني:

- ‌ الحجر

- ‌تصرف المرأة المالي:

- ‌7 - باب الصلح

- ‌8 - باب الحوالة والضمان

- ‌حكم الحوالة وشروطها:

- ‌ضمان دين الميت:

- ‌الكفالة:

- ‌9 - باب الشركة والوكالة

- ‌الوكالة:

- ‌حكم الوكالة وشروطها:

- ‌جواز التوكيل في قبض الزكاة:

- ‌جواز التوكيل في ذبح الهدي والأضحية وتفريقهما:

- ‌جواز الوكالة في إثبات الحدود وتنفيذها:

- ‌10 - باب الإقرار

- ‌11 - باب العارية

- ‌حكم العارية:

- ‌وجوب العناية بالعارية وردّها على المُعير:

- ‌أنواع العارية:

- ‌12 - باب الغصب

- ‌حكم الغصب:

- ‌حكم الزرع في الأرض المغصوبة:

- ‌13 - باب الشفعة

- ‌شفعة الجار وشروطها:

- ‌14 - باب القراض

- ‌15 - باب المساقاة والإجارة

- ‌حكم المساقاة:

- ‌إجارة الأرض:

- ‌ المزارعة

- ‌حكم أخذ الأجرة عن الحجامة:

- ‌التحريز من منع الأجير حقه:

- ‌جواز أخذ الأجرة على القرآن:

- ‌الأخذ على كتاب الله له ثلاث صور:

- ‌16 - باب إحياء الموات

- ‌17 - باب الوقف

- ‌18 - باب الهبة والعمرى والرقبى

- ‌الهبة وضوابطها:

- ‌حكم الرجوع في الهبة:

- ‌حكم رجوع الوالد في هبته لولده:

- ‌شروط قبول الهدية:

- ‌فائدة في الإثابة على الهدية وحكمها:

- ‌صور العمرى والرقبى:

- ‌حكم شراء الهبة:

- ‌الحث على الهدية:

- ‌19 - باب اللقطة

- ‌حكم إيواء الضالة دون تعريفها:

- ‌الإشهاد على اللقطة وحكمه:

- ‌حكم اللقطة في مكة:

- ‌حكم لقطة المعاهد:

- ‌20 - باب الفرائض

- ‌أصحاب الفروض

- ‌مراتب العصوبة:

- ‌ميراث الزوجين:

- ‌ميراث الأم:

- ‌ذكر المسألتين العمريتين:

- ‌ميراث الأب:

- ‌ميراث الجد والجدة:

- ‌ميراث البنات والأخوات والإخوة:

- ‌حكم ميراث المسلم للكافر والكافر للمسلم:

- ‌ميراث الجد:

- ‌ميراث الجدة:

- ‌ميراث الخال وذوي الأرحام:

- ‌حكم ميراث الحمل:

- ‌21 - باب الوصايا

- ‌حكم كتابة الوصية:

- ‌ضوابط الوصية:

- ‌حكم الصدقة عمن لم يوص:

- ‌حكم الوصية للوارث:

- ‌الوصية بثلث المال:

- ‌22 - باب الوديعة

- ‌كتاب النكاح

-

- ‌ حكم النكاح

- ‌النهي عن التبتل:

- ‌الحث على تزوج الولود الودود:

- ‌تنكح المرأة لأربع:

- ‌الدعاء لمن يتزوج:

- ‌خطبة الحاجة:

- ‌آداب الخطبة: حكم النظر إلى المخطوبة وضوابطه:

- ‌نهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه:

- ‌حديث الواهبة:

- ‌إعلان النكاح:

- ‌اشتراط الولي:

- ‌نكاح المرأة بغير إذن وليها:

- ‌اشتراط رضا الزوجة:

- ‌حكم الشغار:

- ‌تخيير من زوجت وهي كارهة:

- ‌حكم من عقد لها وليان على رجلين:

- ‌حكم زواج العبد بدون إذن سيده:

- ‌حكم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو أختها:

- ‌حكم خطبة المحرم ونكاحه:

- ‌شروط النكاح:

- ‌حكم زواج المتعة:

- ‌مسألة: هل نية المتعة كشرطها

- ‌حكم زواج المحلل:

- ‌مسائل مهمة:

- ‌نكاح الزاني والزانية:

- ‌مسألة شهر العسل:

- ‌1 - باب الكفاءة والخيار

- ‌حكم زواج العرب الأحرار بالموالي:

- ‌أنواع الخيار:

- ‌حكم من أسلم وتحته أختان:

- ‌حكم من أسلم وتحته أكثر من أربعة:

- ‌رد من أسلمت إلى زوجها إذا أسلم:

- ‌من أسلم وهو أحق بزوجته:

- ‌فسخ النكاح بالعيب:

- ‌حكم العنين:

- ‌2 - باب عشرة النساء

- ‌حكم إتيان المرأة في دبرها:

- ‌مسألة في حد إتيان الرجل الرجل:

- ‌الوصية بالنساء:

- ‌نهي المسافر عن طروق أهله ليلاً:

- ‌النهي عن إفشاء الرحل سر زوجته:

- ‌حقوق الزوجة على زوجها:

- ‌جواز إتيان المرأة من دبرها في قبلها:

- ‌ما يقال عند إتيان النساء:

- ‌لعن المرأة إذا عصت زوجها:

- ‌الملائكة حقيقتهم ووظائفهم:

- ‌حكم الوصل والوشم:

- ‌حكم الغيلة والعزل ووسائل منع الحمل:

- ‌3 - باب الصداق

- ‌تعريف الصداق لغة وشرعًا:

- ‌جعل العتق صداقا:

- ‌صَدَاق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌صداق فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الصداق والحباء والعدة:

- ‌مهر من لم يفرض لها صداق:

- ‌مقدار الصداق:

- ‌تقليل الصداق:

- ‌4 - باب الوليمة

- ‌حكم الوليمة ووقتها:

- ‌شروط إجابة الدعوة إلى الوليمة:

- ‌حكم عدم إجابة الصائم لدعوة الوليمة:

- ‌أيام الوليمة:

- ‌التحذير من مشاركة الرياء للعبادة:

- ‌صفة ولائم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض زوجاته:

- ‌حكم الأكل في حالة الاتكاء:

- ‌التسمية عند الطعام:

- ‌آداب الطعام:

- ‌آداب الشراب:

- ‌5 - باب القسم بين الزوجات

- ‌تحريم الميل إلي إحدى الزوجتين:

- ‌مسألة: كيف يكون العدل بين الزوجات

- ‌القسم للبكر والفرق بينهما وبين الثَّيب عند الزواج:

- ‌جواز تنازل المرأة عن حقها في القسم لأخرى:

- ‌حسن معاشرة الأزواج:

- ‌القرعة بين الزوجات في السفر:

- ‌النهي عن الشدة في معاملة الزوجة:

- ‌6 - باب الخلع

- ‌الخلع ورد ما أخذت الزوجة:

- ‌عدة المختلعة:

- ‌ أوَّل خلعٍ في الإسلام

الفصل: ‌16 - باب إحياء الموات

فصار عندنا ثلاثة أشياء: أجرة معينة بالتعاقد يقول مثلاً: استأجرتك تعمل كذا بكذا، الثاني: أجرة بعقد لكنها مقدرة بالعرف، مثل الغسال والخياط والنجار، الثالث: أجرة بلا عقد لكن دل عليه العرف، وذلك فيمن أنقذ مال غيره من هلكته فإنه يستحق أجر المثل، يوجد قسم رابع مثال: رأيت شخصًا لم تجر عادته بأن يعمل، قلت: يا فلان، من فضلك خذ هذا واحمله إلى البيت، فحمله إلى البيت، ثم طالبني بالأجرة قال: أعطين أجرة هل يستحق الأجرة أم لا؟ تقول: هذا الرجل إن كان أعد نفسه لهذا العلم كالحمالين فله أجر المثل، وإن لم يكن أعد نفسه لهذا العمل فلا شيء له؛ لأنه متبرع، هكذا قال أهل العلم.

من فوائد الحديث: مشروعية تسمية الأجرة للأجير لقوله: "فليسم له أجرته".

ومن فوائده: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ما يكون به قطع النزاع؛ لأن تسمية الأجرة قطع للنزاع.

ومن فوائده: مشروعية تعيين العمل المستأجر عليه، وهذه تؤخذ من أنه إذا كان يشرع تسمية الأجرة والأجر أحد العوضين، فإن ذلك يقتضي أن يشرع تسمية العمل المستأجر عليه لأنه أحد العوضين، وهذا أيضًا كالأجرة، فإذا جئت مثلاً لشخص تعطيه ثوبك ليخيطه ثم خاطه على العادة وقال: أجرته كذا وكذا وجبت الأجرة، ولا يلزمه أكثر من خياطة العادة، فلو قال صاحب الثوب: أنا أريد أن تطرزه وتجعل فيه عشرة أزرة فهذا الرجل ليست له ذلك، نقول: ذلك خلاف العادة، ولا يلزمه إنما يلزمه ما جرت به العادة ما لم يكن هناك شرط، كذلك يستحق أجرة العادة التي تعطي لمثله.

****

‌16 - باب إحياء الموات

يعني: إحياء الأرض الميتة، ولكن العلماء سموها مواتًا؛ لأنه ليس فيها حياة، والحياة بالإحياء، وسيأتي إن شاء الله، وأيضًا سموها الموات للفرق بينها وبين الأرض المجدية، فالمجدية تسمى ميتة:{وءاية لهم الأرض الميتة أحيينها} [يس: 33]. الموات مأخوذة منا لموت، وهي في الاصطلاح: الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، "المنفكة" يعني: الخالية كالأرض التي ليست لأحد ولم يختص بها أحد مثل الأرض التي في البر، أما المملوكة فلا تسمى مواتًا وإن كانت هامدة مجدبة، وكذلك ما كانت مختصة مثل الأشياء التي تتعلق بمصالح البلد كمسايله ومطايله ومراعيه وأفنية البيوت هذه لا تسمى مواتًا في الاصطلاح، لماذا؟ لأنه يتعلق بها حق الغير، فإذا وجدنا أرضًا إلى جانب بيت لكنها فناء للبيت تلقى فيها كناسة البيت وتوقف فيها سيارة صاحب البيت، فهل نعتبرها مواتًا، أو نقول: ليست مواتًا؟ ليست مواتًا؛ لأنها تتعلق بها مصالح المحيي، كذلك مسايل البلد، وكانوا فيما سبق يزرعون

ص: 260

على حواشي الأودية، فلو أتى إنسان وأراد أن يحيى هذه المسايل قلنا: لا؛ لأنها تتعلق بها مصالح البلد، كذلك مراعي البلد القريبة منه التي يخرج الناس إليها مواشيهم لترعى ليست مواتًا فليس لأحد أن يحييها، إذا تبين هذا فهل إذا استولى الإنسان على أرض ميتة يملكها أو لا؟ نقول: نعم يملكها، كما دل عليه الحديث الآتي:

876 -

عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من عمر أرضًا ليست لأحدٍ؛ فهو أحق بها» ، قال عروة:«وقضى به عمر في خلافته» . رواه البخاري.

قال: "من عمر" وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم العمارة قال: "من عمر" فيرجع في ذلك إلى العرف، فما سماه الناس تعميرًا فهو تعمير، وما لم يسمه الناس تعميرًا فليس بتعمير، فإذا كانت أرضًا زراعية وجاء شخص وأحاطهم بمراسيم - أحجار توضع على حدود الأرض - فهل هذا الرجل أحياها أولا؟ لا، لم يحييها، لكن لو زرعها صار محييًا لها، كذلك لو خط أرضا ليبني فيها قصرًا لكنه لم يبن القصر حتى الآن، فهل يعتبر محييًا لها؟ لا، لم يعمرها، فإذا بنى القصر صار معمرًا لها، إذا عمرها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"فهو أحق بها"، يعني: ليس لأحد أن يزاحمه فيها ولا أن يهلكها، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته، وفائدة هذا الأثر: أن هذا الحكم باق لم ينسخ، وفهم من قوله:"ليست لأحد" أنه لو عمر أرضًا لأحد قد ملكها من قبل ثم تركها ثم جاء شخص فزرعها وعمرها، فهي للثاني أو للأول؟ للأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط قال:"ليست لأحد"، فعلم من هذا أنها لو كانت لأحد قد أحياها من قبل فهي للأول.

من فوائد الحديث: أولاً: أنه لا إحياء بدون تعمير لقوله: "من عمر أرضً".

ثانيًا: أطلق النبي صلى الله عليه وسلم العمارة فيرجع في ذلك إلى العرف على القاعدة المشهورة:

(وكل ما أتى ولم يحدد

بالشرع كالحرز فبالعرف احدد)

وقوله: "كالحرز" يعني: حرز الأموال، والحرز نحتاج إليه في باب الوديعة وفي باب السرقة، فالسرقة من غير حرز ليس فيها قطع وإذا وضع الوديعة في غير حرز فهو ضامن.

ومن فوائد الحديث: أنه لو اجتمع معمران لأرض فهي للأول، لقوله:"ليست لأحد".

ومن فوائده: أن من ورد على تعمير آخر يعني: شخص عمر وترك الأرض برهة من الزمن واندثرت ثم جاء آخر فعمرها بعد، فهي للأول يعني: معناه سواء كان أثر إحياء الأول باقيًا أم داثرًا فإن الثاني لا يملكها.

ص: 261

877 -

وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحيا أرضًا ميتةً فهي له» . رواه الثلاثة، وحسنة الترمذي، وقال: روي مرسلاً. وهو كما قال، واختلف في صحابيه، فقيل: جابر، وقيل: عائشة، وقيل: عبد الله بن عمر، والراجح الأول.

قوله: "من أحيا أرضًا" هي على وزان قوله في الحديث السابق "من عمر أرضًا"، وقوله:"ميتة" هي بوزان قوله: "ليست لأحد"، وقوله:"فهي له" بوزان قوله: "فهو أحق به"، إذن هذا الحديث بمعنى الحديث الأول أن الإنسان إذا أحيا أرضًا ميتة منفكة عن الاختصاصات وملك معصوم فهي له.

مثال ذلك: رجل خرج من البلد فوجد مساحات كبيرة ليست ملكًا لأحد ولا تتعلق بها مصالح البلد فأحياها، نقول: هذه الأرض التي أحييتها هي ملك لك تبيعها، وتؤجرها، وترهنها، وتوقفها، وتهبها وتورث من بعدك، هي لك ملكك، وذلك لأنه استولى عليها من غير منازع فكانت له، كما لو خرج إلى البر فاحتش الكلأ أو الحطب فإنه يكون له؛ لأنه حاذه وملكه، وعموم الحديث يقتضي أنه لا يشترط في ذلك إذن الإمام، واعلموا أن العلماء إذا قالوا: الإمام فيعنون به الرئيس الأعلى للدولة يعني: لا يشترط أن يكون قد استأذن أو أخذ منه مرسومًا أو ما أشبه ذلك؛ لأن الحديث على من أحيا أرضًا ميتة فهي له ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إلا أن يمنعه الإمام كما أنه لم يقل: إن أذن له الإمام، فدل ذلك على أنه يملكها سواء أذن الإمام أم لم يأذن.

وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين: وهما في مذهب الإمام أحمد: فمن العلماء من قال: إنه لا يملكها إلا بإذن الإمام، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من أحيا أرضًا ميتة» هذا إذن منه، يعني: من باب الإذن كما لو قال الإمام في بلده أو في مملكته: من أحيا أرضًا ميتة فهي له، فيرون أن هذا من باب الإذن السلطاني؛ يعني: أنه أذن بأن أحيا أرضا ميتة فهي له، قالوا: ولابد من إذن الإمام؛ لأن هذه أرض ليست مملوكة لأحد وليس لأحد ولاية عليها فيكون وليها الإمام، فإذا اعتدى أحد عليها وأحياها بلا إذنه فقد اعتدى على حق الإمام وافتات عليه، فكما أنه لا يملك أحد أن يقيم الحدود على الناس فكذلك لا يملك احد أن يأخذ أرضًا ليست لأحد

ص: 262

والولي عليها ولي الأمر إلا بإذنه، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا.

القول الثاني: أنه لا يشترط إذن الإمام وأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» من باب التشريع الإذن الشرعي والتمليك الشرعي، وليس من باب الإذن السلطاني، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قال قولاً تشريعيًا وليس تنظيميًا، وبناء على هذا فإذا أحيا الإنسان أرضًا ميتة فهي له؛ لأن هذه ليست ملكًا لأحد، قالوا: وكما أن الإنسان إذا خرج إلى البر واحتش الحشيش واحتطب الحطب واستسقى من النهر وما أشبه ذلك، فإنه لا يشترط فيه إذن الإمام بالاتفاق فهذا كذلك لا يشترط فيه إذن الإمام، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه يملكه أي: يملك ما أحياه سواء أذن الإمام أم لم يأذن، وأجاب الآخرون أعني: الأولين عن الماء والكلأ، وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم شرك الناس فيها فقال: «الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار» ، ولم يقل: والأرض، فإذا لم يقل: والأرض صار تدبير الأرض إلى ولي الأمر، ولكن الذي يظهر أن القول الصحيح أن من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وذلك لأن الأصل في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أنه تشريع لا تنظيم حتى يقوم دليل على أنه تنظيم.

ولهذا قلنا: إن الإنسان إذا قتل قتيلاً في الحرب فله سلبه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل قتيلاً فله سلبه» يعني: ما عليه من الثياب وما أشبهها.

ومن العلماء من قال: إن المراد بحديث: "من قتل قتيلاً" هو أيضًا الإذن السلطاني، وأنه لا يملك المقاتل سلب القتيل إلا إذا قال قائد الجيش: "من قتل قتيلاً فله سلبه.

على كل حال: القاعدة الأصلية: أن الأصل في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم هو التشريع، ولكن لو أن ولي الأمر منع من الإحياء إلا بإذنه فله ذلك؛ لأنه قد يرى من المصلحة تنظيم الإحياء حتى لا يعتدي الناس بعضهم على بعض، ولا يحصل نزاع، وتكون المسألة تخطط الأراضي وما أشبه ذلك من قبل الدولة، وترقم، ومن جاء من الناس يحيي قلنا له: هذه أرضك.

ص: 263

878 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن الصعب بن جثامة رضي الله عنه أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» . رواه البخاري.

ابن عباس صحابي، والصعب بن جثامة صحابي أيضًا، وقد كان كريمًا مضيافًا عداء يسبق الظباء، ولما نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم بودان أتى له بحمار وحشي وأهداه إليه، وقيل إنه ذبحه وأتى بلحمه؛ فرده النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» ؛ لأنه لما رده صار في وجهه شيء، أي: تغير وجهه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، يعني: إنا محرمون مع أن أبا قتادة رضي الله عنه اصطاد حمارًا وحشيًا وأكل منه أصحابه وهم محرمون، ولكن الجمع بينهما أن أبا قتادة لم يصطده لأصحابه، وإنما اصطاده لنفسه، وأطعم أصحابه منه، وأما الصعب بن جثامة فاصطاده للرسول صلى الله عليه وسلم، والصيد إذا صيد من أجل المحرم صار حرامًا على المحرم، وإن كان لم يصده.

يقول: أخبره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا حمى إلا لله ورسوله» ، الحمى معروف، وهو في اللغة: المنع، ومنه الحمية وهي الامتناع عن شيء معين من الطعام أو غيره، فالحمى معناه: المنع، وهو عبارة عن منع أرض معينة يحميها الرئيس أو الشريف في القبيلة حتى لا يرعاها أحد، وتبقى هي لرعي إبله وغنمه ويشارك الناس في مراعيهم، كانوا في الجاهلية يفعلون هذا؛ يحمي السيد أو الشريف أو الكبير في قومه أرضًا يقول: لا يسمها احد ولا يقربها أحد لتكون لمن؟ لماشيته من إبل أو بقر أو غنم، وهو مع ذلك يشارك الناس في بقية المراعي وهذا ظلم واضح، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وقال:«لا حمى إلا لله ورسوله» ، لا حمى إلا لله: الله عز وجل غني عن كل شيء، ولا يحتاج إلى أحد يحمي له؛ لأنه يطعم ولا يطعم، ولكن ما أضيف إلى الله من مثل هذه الأمور، فالمراد به المصالح العامة مثل: إبل الصدقة أو خيل الجهاد، وما أشبه ذلك، فإذا حمى ولي الأمر أرضًا لإبل الصدقة، أو لخيل الجهاد، أو لإبل الجهاد، أو ما أشبه ذلك من المصالح العامة فإن ذلك جائز؛ لأنه يحمي لله لا يدخل عليه شيء ولا يختص بشيء دون المسلمين يحمي شيئًا للمسلمين، وهو في الواقع أن هذا الحمى لله، أما قوله:"ولرسول الله": فقد اختلف فيها أهل العلم، فقيل: المراد بذلك ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم شخصيًا، يعني: أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي ما شاء لنفسه هو - يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم له أن يختط أرضًا معينة، ويقول: هذه لي، وعلى هذا القول فاختلف العلماء: هل ذلك من خصائصه، بمعنى: أن غيره من ولاة الأمور ليس لهم الحق أن يحموا لأنفسهم، أو أن ذلك له ولمن كان بمنزلته من ولاة الأمور الذين لهم الولاية العامة؟ على قولين، أما القول الثاني في أصل المسألة فيقولون: إن عطف الرسول على

ص: 264

الله من باب عطف المشرع المبلغ عن الشرع، وأن المراد بما لرسول الله هو ما كان لله كقوله تعالى:{واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41]. والخمس الذي لله والرسول هو خمس واحد، لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مشرعًا مبلغًا عن الله صار ما يقوم به نيابة عن الله عز وجل هو خليفة الله تعالى في خلقه، وبناء على هذا القول نقول: إنه لا يراد بالرسول هنا الرسول صلى الله عليه وسلم شخصيًا ماذا يراد به؟ يراد به أنه مشرع فيكون ما لله فهو لرسول الله، فيحمل الحديث إذن على أن المراد بالحمى هنا: حمى ما كان لله عز وجل، كإبل الصدقة وإبل الجهاد وما أشبهها، وهذا القول أصح، ويرجحه أن الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار، وإذا كانوا شركاء في ذلك فليس لأحد أن يختص به دونهم، كما لو أنه اشترك اثنان في بيت مثلاً فليس لأحدهما أن يختص به دون الآخر، ولو اشترك اثنان في مزرعة فليس لأحدهما أن يختص بها دون الآخر، فالصواب أن المراد يحمى الله ورسوله: ما حمي للمصالح العامة أما الخاصة فلا، هذا القول هو الراجح ويليه في الرجحان أن المراد بالرسول: خوصية شخصه صلى الله عليه وسلم، لكن هذا خاص به هو ولا يشاركه أحد من ولاة الأمور والخلفاء؛ لأن عمر رضي الله عنه لما حمى ما حماه من المراعي حول المدينة صرح بأنه لا يحميه لنفسه إنما يحميه للناس لصاحب الغنيمة، وكذلك للمصالح العامة، فالصواب في هذه المسألة أنه ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمي أرضًا يختص بها؛ لأن الناس شركاء في ارض الله عز وجل.

المؤلف رحمه الله جاء بهذا الحديث في باب إحياء الموات فما مناسبته؟ المناسبة أن الحمى نوع من الاختصاص؛ لأن الحامي يختص بهذه الأرض المحمية ويمنع غيره منها.

من فوائد الحديث:

أولاً: ثبوت الحمى يعني: أنه يجوز في الأصل لكن بشروط.

ثانيًا: أنه لا يجوز الحمى لشخص معين لقوله: "إلا لله ورسوله".

ثالثًا: جواز الحمى للمصالح العامة، يعني: المواشي التي مصلحتها للمسلمين ولكن ينبغي أن يقال أو يسأل لو أن أحدًا تجرأ واحتش من هذا الحمى أو تجرأ ورعى إبله فيه فهل يكون آثمًا؟ الجواب: يكون آثما لدخوله في قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]. فإذا حمى ولي الأمر هذا المكان لدواب المسلمين العامة فإنه لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه.

ص: 265

879 -

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» . رواه أحمد، وابن ماجه. وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ مرسل.

"وعنه" أي: عن ابن عباس رضي الله عنه.

"الضرر": ما يحصل به ضرر من مال أو بدن أو جاه أو غير ذلك، وهو ضد النفع؛ لأن الأشياء إما نافعة وإما ضارة، [وإما ما لا ضرر فيه ولا نفع] وكلها إما في البدن أو المال أو الجاه أو العرض أو غير ذلك.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر" هذا نفي، ولكن هل هو نفي لوجود الضرر أو لانتفائه شرعًا، يعني: هل النفي نفي لوجوده في الواقع أو نفي لوجوده في الشرع؟ نفي لوجوده في الشرع، وذلك أن النفي في الأصل يعود إلى الواقع، فإذا وحد في القرآن أو السنة نفي يحمل على الوجود، أي: أنه لا وجود له في الواقع، فإن تعذر نفيه على الوجود في الواقع حمل على نفيه في الوجود الشرعي فيكون نفيًا للصحة، فإن دل دليل على أنه صحيح وأن حمله على انتفاء الصحة لا يصح حمل على نفيه في الوجود الشرعي فيكون نفيًا للصحة، فإن دل دليل على أنه صحيح وأن حمله على انتفاء الصحة لا يصح حمل على انتفاء الكمال، وعلى هذا فنقول:"لا ضرر" ليس نفيًا لوجود الضرر، بل الضرر موجود، والضرار موجود أيضًا، لكنه لانتفائه شرعًا، يعني: أن الضرر منفي شرعًا، وقلنا لكم: إن الضرر يكون في البدن والمال والجاه وغير ذلك، كل ما يحصل به فوات منفعة فهو ضرار.

وقوله: "ولا ضرار" قيل: إن معناه الضرار هو معنى الضرر، لكنه يزيد في بنيته للمبالغة، وعلى هذا فتكون الجملة الثانية بمعنى الجملة الأولى، فهي على هذا كالتوكيد، ولكن هذا ليس بصحيح، وذلك لأن التوكيد يأتي بدون ذكر حرف العطف مثل أن تقول: لا ضرر لا ضرر، أما إذا جاء حرف العطف فإن العطف يقتضي المغايرة، أي: أن الثاني غير الأول، وعلى هذا فلابد من فرق بينهما، الفرق بينهما أن الضرر ما حصل بدون قصد، والضرار ما حصل بقصد، وذلك لأن الضرار مصدر ضار يضار مثل قاتل يقاتل قتالاً، وهذا ضار يضار ضرارًا فهو ضرر مقصود، وعليه فيكون الحديث نفي الضرر الحاصل بلا قصد ونفي الضرر الحاصل بقصد، ثم هذا النفي معناه النهي يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقرار على الضرر وعن الإضرار؛ وذلك لأن النفي يأتي بمعنى النهي من باب المبالغة كأن هذا الشيء مفروغ منه من حيث تجنبه وحيث

ص: 266

ينفي وجوده لا إيجاده؛ لأن النهي عن الشيء نهي عن إيجاده ونفي الشيء نفي لوجوده، فقد يعبر بالنفي عن النهي من باب المبالغة كأن هذا الشيء أمر لابد من تجنبه، فلذلك عبر عن النهي عنه بالخبر عنه وهو نفيه.

في هذا الحديث: ينهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرر، وهذا النهي يتضمن وجوب رفع الضرر سواء كان بالمال أو بالنفس أو بالجاه أو بالعرض أو بأي نوع من أنوع الضرر؛ لأن قوله:"لا ضرر" يقتضي رفعه ففيه إذن تحريم الضرر أو تحريم إبقاء الضرر.

ومن فوائده: تحريم المضارة وقد ثبت في ذلك الوعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن من ضار ضار الله به، فلا يجوز للإنسان أن يضار غيره.

ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يؤذي الناس أو يشغلهم بالأصوات المنكرة كما يفعل بعض الناس، تجده مثلاً يستمع إلى الأغاني المحرمة ويجعلها بصوت عال يفزع من حوله من الجيران، وربما يكون من حوله من أهل المساجد، كأن يكون يسكن حول مسجد فتجده يشغل هذا الشيء بصوت عال فيؤذي الناس، فهذا لا شك أنه من الضرر، وإن كان ليس ضررًا بدنيًا، لكنه ضرر ديني، فهو يشغل الناس عن دينهم ويوقعهم في الإثم، أو العب، وهذا الحديث في الحقيقة أنه يعتبر قاعدة؛ لأنه يمكن أن يدخل في جميع أبواب الفقه فمتى وجد الضرر وجب رفعه ومتى قصدت المضارة فإنها حرام؛ ولهذا ذكر بعض العلماء هذه القاعدة، وقال: إن الضرر منفي شرعًا، يعني: لا يمكن أن يقع.

إذا قال قائل: لماذا جاء به المؤلف في باب إحياء الموات بعد قوله: «لا حمى إلا لله ورسوله» ؟

قلنا: جاء بذلك لنستفيد منه تقييد الحمى بعدم الضرر، أي: أنه إذا تضمن الحمى ضررًا على المسلمين وجب منعه حتى وإن كان لماشية المسلمين، ولنفرض أن الإمام الذي له الماشية أو الذي يتولى ماشية المسلمين حمى حمى قريبًا من البلد بحيث تضرر أهل البلد بذلك فإنه يمنع، وكانوا في الزمن السابق يخرجون إلى قريب البلد يحتشون ويحتطبون، تخرج المرأة والصبي إلى قريب من البلد ليأتوا بالحشيش ويبيعونه، فإذا قدر أن هذا وقع هكذا وأن ولي الأمر حمى لمواشي المسلمين بهذا القرب من البلد الذي يضرهم قلنا: هذا لا يجوز،

ص: 267

حتى لو قال: إن هذا لمواشي المسلمين نقول: لا يجوز، لا ضرر ولا ضرار، وأنت يمكنك أن ترتفع في مكان بعيد عن البلد وتحمي لمواشي المسلمين؛ لأن مواشي المسلمين لا يحتاجها الناس يوميًا بخلاف بهائم البلد ومواشي البلد، فإن الناس يحتاجونها يوميًا.

ثم قال: «وله من حديث أبي سعيد مثله وهو في الموطأ مرسلاً» .

نقول: حتى ولو كان في الموطأ مرسلاً فقد وصله أحمد وابن ماجه، ثم على فرض أن فيه شيئًا من الضعف فإن نصوص الكتاب والسنة تشهد له، فالشرع كله يحارب الضرر ويمنع الضرر، وإذا نشأ الضرر عن مضارة كان أشد وأعظم، لأن الضرر إذا حصل عن مضارة فقد باء الإنسان بالإثم من أصل الضرر، لكن إذا حصل الضرر بدون قصد المضارة فهذا لا يأثم به الإنسان لكن يلزمه أن يرفع الضرر فإن أبقاه مع علمه به صار مضارًا، وهذا أيضًا من الفروق بين الضرر والضرار، أن الضرر قد يأتي بلا علم الإنسان فنقول: هو لا يأثم ما دام أتى بلا علم لكن من علم ولم يرفعه كان آئما.

880 -

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحاط حائطًا على أرضٍ فهي له» . رواه أبو داود، وصححه ابن الجارود.

"من" شرطية، ودليل ذلك أن الجواب أتى مربوطًا بالفاء في قوله:"فهي له"، وإنما ربط الجواب بالفاء؛ لأنه جملة اسمية، والجملة الأسمية أحد الجمل التي تربط بالفاء إذا وقعت جوابًا للشرط، وقد جمعت الجمل التي يجب ربطها بالفاء إذا وقعت جوابًا في قوله:

(أسمية طلبية وبجامد

وبما وقد وبلن بالتنفيس)

قوله: "من أحاط حائطًا على أرض" لم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم ارتفاع الحائط فيرجع في ذلك إلى العرف، يعني: ما عد حائطًا فإنه يحصل به الإحياء والتملك، وقيده بعض العلماء بما إذا كان الحائط على قدر قامة الرجل، وقيده بعضهم بما إذا كان لا يمكن الدخول منه إلا بتسلق وإن لم يصل إلى قامة الرجل، وهذا أقر إلى لفظ الحائط؛ لأن الحائط ما أحاط بالشيء، لكن الحائط قد يكون قصيرًا كالعتبة، هذا لا يعتبر حائطًا، وقد يكون أرفع من ذلك يحتاج إلى تسلق، وإن لم يكن طول قامة الرجل فهذا يحصل به الإحياء.

ص: 268

قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحاط حائطًا على أرض» ، "أرض": نكرة تشمل كل أرض لكنها مقيدة بما سبق بألا تكون مملوكة لأحد، وألا يتعلق بها حق أحد من الناس، وقوله:"فهي له" اللام هنا للتمليك "فهي" أي: الأرض التي أحاطها بحائط "له" ملكًا تدخل في ملكه ويتصرف فيها كما يتصرف الملاك في أملاكهم.

في هذا الحديث من الفوائد: أن الإنسان إذا أحاط أرضًا بحائط على حسب ما ذكرناه فهي له.

ومن فوائده: أنه لا يشترط في هذه الأرض التي أحاطها بحائط أن يزرعها أو يخرج ماءها بل يملكها بمجرد هذا التحويط.

ومن فوائده: أنه لو وضع عليها كومة من الترب أحاطها بكومة من التراب فإنه لا يملكها بذلك؛ لأن هذا لا يعد حائطًا.

ومن فوائده: أنه لو وضع عليها كومة من التراب أحاطها بكومة من التراب فإنه لا يملكها بذلك؛ لأن هذا لا يعد حائطًا.

ومن فوائده: أيضًا أنه لو قسمها بمراسيم، بأحجار، علامة على حدودها فإنه لا يملكه لأن هذا ليس بحائط، بل لابد من أن يكون هناك حائط.

881 -

وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من حفر بئرًا فله أربعون ذراعًا عطنًا لماشية» . رواه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ.

هذا الحديث يقول: " من حفر بئرًا فله أربعون ذراعًا عطنًا لماشيته" يعني: حفر بئرًا للماشية، وكانت البادية يحفرون آبارًا يسقون بها إبلهم وغنمهم، فتجد كل طائفة حولها بئر تسقي منه، فحدد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بأربعين ذراعًا لعطن الماشية أربعين ذراعًا من أي جانب؟ من جميع الجوانب، فتكون الساحة ثمانين من أربع جهات ثمانين من الشرق إلى الغرب، وثمانين من الشمال إلى الجنوب.

في هذا الحديث من الفوائد: أن للبئر حريمًا يعني: مكانًا محترمًا بحيث إنه لا يعتدي عليه أحد.

وفيه أيضًا من الفوائد: إن حريم البئر التي للماشية تقدر بأربعين ذراعًا، والذراع: نحو ثلثي مرت، ولم يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن البئر التي تحفر للزراعة؛ لأن هذا الحديث كما تشاهدون في بئر الماشية، ولكن إذا كان البئر للزرع فكم يعطى صاحبه؟ يقال: أن صاحبه يملك كل ما

ص: 269

تزرعه هذه البئر، يعني: ما جرت العادة بأن هذه البئر تزرعه فإنه يملكه، ومن المعلوم أنه يختلف، فمثلاً إذا كانت البئر عميقة وماؤها كثير فإنها تحتاج إلى أرض كبيرة، وإذا كانت بالعكس كفاها الأرض الصغيرة، ثم إن الحاجة لا تقتصر على ما يريد أن يزرعه؛ لأن الزرع يحتاج إلى جرين - وهو المكان الذي توضع فيه السنبل من أجل الزرع لا يتقيد بأربعين ذراعًا ولا بخمسة وعشرين ولا بخمسين، (وإنما) يتقيد بما يمكن أن يحييه بهذه البئر حسب العادة وما ذكره بعض العلماء: من أن حريم البئر العادية خمسون ذراعًا من كل جانب، وحريم البئر الجديدة خمسة وعشرون من كل جانب، فهذا وردت فيه أحاديث أيضًا لكن تحمل على ما إذا كانت للماشية، أما الزرع فلا يمكن أن يحفر بئرًا ويتكلف عليها ثم نقلو: ليس لك إلا خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب، لو قلنا بهذا ما ملك أحد شيئًا إلا أن يحفر الأرض كلها آربارًا، فنقول: البئر إما أن يحفره الإنسان لماشيته فيعطي مقدار عطن الماشية وهو أربعون ذراعًا كما في الحديث الذي ذكره المؤلف، وبعضهم يقول: إنها خمسون ذراعًا في المادة وخمسة وعشرون ذراعًا في الجديدة كما هو المشهور، أما بئر الزرع فإنه يعطى قدر ما تسقيه هذه البئر بحسب العادة قل أو كثر، وذكرنا أيضًا أنه يعطى قدر ما تسقيه هذا البئر بحسب العادة قل أو كثر، فذكرنا أيضًا أنه يعطى قدر ما تسقيه وما تتعلق به مصالحه مثل الجرين - مكان الدياس وكذلك الأرض البيضاء التي تجمع فيها الذب لأنه يحتاج إلى ذلك فكل ما يتعلق بمصالح هذه الأرض يكون له.

882 -

وعن علقمة بن وائل، عن أبيه رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضًا بحضر موت» . رواه أبو داود، والترمذي، وصححه ابن حبان.

- وعن ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، فأجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه، فقال: أعطوه حيث بلغ السوط» . رواه أبو داود وفيه ضعف.

هذان الحديثان في الإقطاع والإقطاع هو: أن الإمام أو ولي الأمر يقتطع جزءًا من الأرض

ص: 270

يعطيه شخصًا، فهذا الذي أقطع يكون أحق به من غيره ولا أحد يزاحمه فيه، وقال بعض العلماء: بل إن هذا الذي أقطع يملكه ملكًا تامًا ويكون إقطاع الإمام له بمنزلة الإحياء؛ لأن الإمام له ولاية على أراضي المسلمين فله أن يقطع من شاء. المهم أن الإقطاع هو أن يقتطع الإمام قطعة من الأرض غير مملوكة ويعطيها لشخصٍ معينٍ، فالحديث الأول عن علقمة عن أبيه وهو وائل بن حجر وهو حضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضًا بحضر موت، يعني: قال هي لك ولم يبين مقدار الأرض لأنه لا حاجة إلى ذلك؛ إذ إن بيانها يعين: قلتها وكثرتها بحسب ما يراه ولي الأمر، يعني: ليست محددة بحد معين إذا رأى أن المقطع يتمكن من إحياء هذه الأرض أعطاه بقدر ما يتمكن، وقوله:"حضر موت" هي مقاطعة في اليمن معروفة، والإقطاع معناه: التمليك، يعني: ملكه أرضًا، أي: قال: لك هذه الأرض، ولكن أهل العلم يقولون: إن الإقطاع ينقسم إلى قسمين: إقطاع تمليك بمعنى: أن الإمام أو نائب الإمام يملك شخصًا من الناس أرضًا معينة، الثاني: إقطاع إرفاق بمعنى: أن الإمام أو نائبه يمنح هذا الرجل الانتفاع بهذه الأرض يمنحه أن ينتفع بها فقط، مثل: أن يعطيه أرضًا في السوق يضع فيها بضاعته يستقل فيها البضائع من الناس ليبيعها، فأما إقطاع الإرفاق فإنه لا يملكه المقطع؛ لأنه إقطاع انتفاع فقط والأرض ليست له، لكن ما دام الإقطاع باقيًا والرخصة قائمة فهو أحق بهذا المكان من غيره؛ لأنه لولا الإقطاع لكان المكان لمن سبق، ولنفرض أن هذه أرض واسعة في وسط السوق يجلب الناس فيها بضائعهم فيأتي الإمام ويقطع شخصًا معينًا قطعة من هذه الأرض ينتفع بها وحده هذا إقطاع إرفاقٍ، فيكون هذا المقطع أحق بها من غيره؛ لأن ولي الأمر منحه إياه، أما إذا لم يكن إقطاعًا، فالناس في هذا المكان سواء ويكون المكان لمن سبق إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» . هذا إقطاع إرفاق، إقطاع التمليك أن يقطعه قطعة من أرض على أن تكون ملكًا له، هذا الإقطاع اختلف أهل العلم هل يملكه المقطع ويكون إقطاع ولي الأمر بمنزلة الإحياء أو يكون المقطع أحق به من غيره لا يزاحمه فيه أحد، ولكن إذا لم يحيه فليس ملكًا له؟ الثاني وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، أي: أن الإقطاع لا يحصل به الملك، ولكن المقطع يكون أحق به، وعلى هذا فلا يزاحمه أحد في إحيائه، ولكن لو حصل

ص: 271

تشوف لإحياءه - يعني: واحد يقول: أنا أريد أن أحيي هذه الأرض، وقد أقطعت لشخص - فإنه يقال لهذا المقطع: إما أن تحييها وإما أن ترفع يدك، وبضرب له مدة يقدرها الحاكم بحيث يتمكن من إحيائها، ومن العلماء من يرى أن إقطاع التمليك يحصل به الملك، وعلى هذا فإذا أقطع الإمام أو نائبه شخصًا أرضًا مواتًا فإنه يملكها بهذا وتكون ملكًا له، يتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم من بيع وهبة ورهن ووقف وغير ذلك، ولكن الأقرب المذهب أن الإقطاع لا يحصل به التمليك، لكن فائدته أن المقطع يكون أحق به من غيره لا يزاحمه فيه أحد، ويرجع هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحيا أرضًا ميتة فهي له» ، فقال:«من أحيا» فرتب الملكية على الإحياء، وإقطاع الإمام ليس فيه إحياء؛ لأن الإمام نفسه لو تحجرها لنفسه لم يكن تحجره إحياءً فكيف بمن كان فرعًا عنه؟ ! إذن فالقول الراجح في هذه المسألة: أن المقطع لا يملك الأرض، ولكن يكون أحق بها من غيره بحيث لا يمكن أن يملكها أحد ما دام له فيها حاجة.

من فوائد الحديث: جواز إقطاع الإمام أرضًا لمن يحيها، ودليله فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل فيما فعله التشريع، ولكن هذا الجواز يجب أن يقيد بالقاعدة العامة، وهو أنه لا يجوز للإمام أن يقطع إلا لمصلحة فلا يحابي أحدًا في الإقطاع، يعني: لا يكون إذا جاءه شخص قريب له أو صديق له أو له جار أقطعه، وإذا جاءه الفقير البعيد لم يقطعه، هذا لا يجوز، الواجب أن يراعي العدل، كذلك لا يجوز أن يقطع الشخص أرضًا واسعة وهو لا يستطيع أن يعمرها؛ لأن ذلك تحجر لأرض المسلمين، وإنما يقطع المقتطع ما يمكن أن يحييه ويعمره، ثالثًا: لا يجوز - بناء على القاعدة العامة - أن يقطع ما فيه ضرر على المسلمين، مثل: أن يقطع أحد من الناس محل المراعي وما أشبه ذلك من مصالح المسلمين، لأنه إذا كان لا يملك حمى هذه الأرض فكيف يملك إقطاعها؟ !

ثم ذكر الحديث الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه

الخ. قوله: «أقطع الزبير» هذا الإقطاع إقطاع تمليك. وقوله: "حضر فرسه" أي: منتهى عدوه، يعني: قال ركض الفرس حتى يقف فإذا وقف فهو لك - هذا معنى حضر فرسه، يعني: منتهى عدوه، يقول: فأجرى الفرس يعني مشاه وسيره حتى وقف، فلما وقف - من حرص الزبير على سعة الأرض رمى بسوطه من أجل أن يزيد المساحة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، كما نعرف جميعًا، من خلقه كان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس لما رأى طمع هذا في الأرض ورمى بسوطه، قال:«أعطوه حيث بلغ السوط» ، وهذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان من الولاة الجبابرة، لقال: أنقصوا له على قدر ما بلغ سوطه. لماذا يتعدى ويتجاوز ما حددنا له، نحن حددنا له منتهى عدوه، وهو الآن زاد فعاقبوه بأن ينقصوا من مقدار ما بلغ سوطه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس سياسة وأكرمهم وأحسنهم خلقًا، فلما رأى هذا الرجل متشوفًا متطلعًا إلى الزيادة قال:«أعطوه حيث بلغ السوط» .

ص: 272

الحديث على كل حال: إسناده ضعيف، لكن معناه لا ينافي القواعد الشرعية، كيف ذلك؟ نقول: لأن الإقطاع تبرع؛ إذ قد يقول قائل بعكس ما قلت الآن، قد يقول قائل: إن هذا ينافي القواعد الشرعية لأن حضر الفرس مجهول، فكيف يصح وهو مجهول؟ ! لكن الجواب أن نقول: إن الذي يمتنع فيه الغرر ما كان عقد معاوضة، أما عقود التبرعات فلا بأس ان يكون فيها جهالة؛ ولهذا صححنا أن يهب الإنسان شيئًا مجهولاً، صححنا أن يهب العبد الآبق والجمل الشارد، ولا بأس؛ لأن هذا الموهوب له إن حصل على الهبة فهو غانم، وإن لم يحصل فليس بغانم بخلاف البيع والشراء، فهو إذا لم يحصل على العوض صار غارمًا، وإن حصل صار غانمًا.

إذن نقول: هذا فيه دليل على جواز إقطاع المجهول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، ومنتهى سوطه حيث بلغ السوط، هل يمكن في الوقت الحاضر أن نقطعه حضر سيارته؟ لا، لماذا؟ لأن السيارة لا تتعب، ممكن يقودها من هنا إلى مكة، فهذا لا يصح لأنه لا منتهى له في الواقع، لكن إذا كان عنده فرس، عنده بعير، عنده حمار يمكن.

ومن فوائد الحديث: أن النفوس مجبولة على الطمع، فهذا الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه من أفضل الصحابة، ومع ذلك - إن صح الحديث - طمع هذا الطمع، لما وصل منتهى عدو الفرس رمى بسوطه، والطمع فيما ليس بمحرم لا يلام عليه الإنسان، أما الطمع في المحرم، فهو حرام، وكذلك الطمع الذي يشغل عن واجب هو حرام، والطمع الذي يشغل عن مستحب ليس بحرام، لكن الزهد تركه، والذي يشغل عن واجب الورع تركه، لماذا؟ لأن هناك فرقًا بين الورع والزهد، أكثر الناس لا يعرفون الفرق. الورع: ترك ما يضر، والزهد: ترك ما لا ينفع، إذن إذا كان يشغل عن الواجب كان تركه ورعًا؛ لأنه لو باشره ترك واجبًا، وترك الواجب يضر في الآخرة، ترك ما يشغل عن المستحب هذا زهد؛ لأنه لو ترك المصلحة بدون شاغل لم يضره في الآخرة، لكنه يفوت النفع، فهنا ترك ما لا ينفع يسمى زهدًا، فإذا قيل: فلان زاهد، فلان ورع، أيهما أعلى حالاً؟ الزاهد أعلى حالاً من الورع.

إذن نقول: في الحديث دليل على جواز طمع الإنسان في الأمور المباحة له.

ومن فوائد الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب أن يعطي النفس ما يلائمها بشرط ألا يوقع في محظور، وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم، كل شيء يتطلع إليه الغير وهو لا يضر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق عليه لحسن خلقه، وهذا من تأليفه للناس، وتحبيب الناس إليه، يذكر في إسلام سلمان الفارسي أنه كان عند أناس من أهل الكتاب كل واحد من أسياده يوصيه أن يكون عند سيد آخر عنده علم من الكتاب؛ لأنهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حان وقت خروجه إلى أن وصل إلى المدينة، وقصته مشهورة، لكن كان من جملة العلامات التي ذكرت لسلمان الفارسي أن

ص: 273

بين كتفيه خاتم النبوة، يقول:«فوجدته في جنازة، فجلست خلفه، وعليه رداؤه، فجعلت أتطلع أنظر، فلما رآني أتطلع أنزل الرداء، من أجل أن أرى» وهذا من حسن الخلق، إذا رأيت أخاك المسلم يتطلع إلى شيء وهو لا يضرك أن يطلع فالأحسن أن تريه إياه، يعني: لو كان معك شيء غريب ساعة، قلم، أي شيء، وهذا يتطلع إليه؛ فدعه يراه تدخل عليه السرور، وأنت لا يضرك، المهم أن هذا من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.

884 -

وعن رجل من الصحابة رضي الله عنه قال: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: الناس شركاء في ثلاثٍ: في الكلأ، والماء، والنار» . رواه أحمد، وأبو داود، ورجاله ثقات.

«الناس شركاء في ثلاثة» أولاً: قوله: «غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم» الغزو هو الخروج لقتال الأعداء، وكل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كلها جهاد في سبيل الله، ما خرج يومًا من الأيام إلا لتكون كلمة الله هي العليا، وكان صلى الله عليه وسلم قد حضر بنفسه بضعًا وعشرين غزوة، إما سبعًا وعشرين، وإما تسعًا وعشرين غزوة صلى الله عليه وسلم.

"الناس": مبتدأ، و"شركاء" خبره يعني: مشتركون في ثلاث، وهذا حكم شرعي، "في الكلا"، وهو العشب الذي ينبته الله عز وجل بدون فعل فاعل، هذا الكلأ يعني: ما يكون من الأمطار، فالناس فيه شركاء حتى ولو كان في أرضك، فالناس فيه مشاركون لك لعموم الحديث.

الثاني: الماء النابع من الأرض أو النازل من السماء، الناس فيه شركاء، ولو كان في أرضك، لماذا؟ لأن هذا الماء من فعل الله ليس من فعلك، أنت لو حفرت إلى الأرض السابعة لا تستطيع أن تخرجه، من الذي يخرجه الله {أفرءيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} [الواقعة: 69]. {قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فيمن يأتيكم بماء معين} [الملك: 30]. فالله تعالى هو الذي أخرج هذا الماء ليس لك فيه حول ولا قولة، غاية ما هنالك أنك سبب فيه، الثالث: النار: اختلف العلماء في النار، ما المراد بها؟ فقيل: وقود النار، وقيل: هي النار نفسها، فعلى الأول يكون المراد بذلك الحطب وشبهه، الناس فيه شركاء، لا يختص به أحد دون أحد، ولا يجوز أن يخصص به أحد دون أحد؛ لأن الناس شركاء فيه، وقيل: المراد بها: النار نفسها وهذا هو المتبادر من اللفظ، والقاعدة عندنا أن الواجب حمل الكلام على المتبادر منه ما لم تمنع منه قرينة، وهنا لا مانع منأن تقول: النار هي النار نفسها، ولكن كيف يكون الناس فيه شركاء يعني: مثلاً إذا أوقدت نارًا وأتيت بماء لي أسخنه عليها ليس لك الحق أن تمنعني من ذلك، لا

ص: 274

تقول: لا؛ لأني أنا وأنت شركاء فيها، كذلك لو أردت أن أستوقد منها أتيت مثلاً بعود من الحطب لأستقود من نارك لك الحق أن تمنعني من ذلك لأنني شريك معك، لماذا؟ لأن هذه النار هل هي بفعلك أو بفعل الله؟ بفعل الله عز وجل، ما تستطيع أن توقدها أبدًا لو أنفقت ما في الأرض كلها، لم تستطيع أن توقد شررة منها، فالله تعالى هو الذي أنشأها، فإذا كان كذلك فالناس فيها شركاء.

إذن الناس شركاء في هذه الثلاث: الكلأ، والثاني: الماء، والثالث: النار، أما ما حازه الإنسان من الكلأ، وما حزه من الماء، فهو ملكه، فلو حششت الكلأ وأودعته في بيتك، فهل الناس شركاء لك فيه؟ لا؛ لأنك ملكته، وكذلك لو استسقيت من الماء ووضعته في السقاء أو في الجالون فهو ملكك، لا أحد يشركك فيه؛ لأنك حزته، وكذلك الحطب لو احتطبته وأدخلته في بيتك، فإنه يكون ملكًا لك، لا أحد يشاركك فيه، هل نقول: وكذلك لو عبأت نارًا؟ أنا لا أدري إذا كان يمكن أن يخزن اللهب، لكنك إذا استطعت تخزينه صار ملكًا لك، أما الغاز فهو وقود مثل الحطب.

قوله: «غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم» يستفاد من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يشح بنفسه أن يغزو مع الصحابة، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم لولا أنه يراعي بعض أصحابه الفقراء الذين لا يجدون ما يحملهم عليه ما ترك غزوة إلا خرج معها، لكن الغزوات الكبار يحضرها ولابد.

ومن فوائد الحديث: أن الناس شركاء في هذه الأمور الثلاثة، وهذه دلالة المنطوق في الحديث، مفهومه: أن الناس ليسوا شركاء فيما سواها، وأن كل إنسان يملك ملكًا خاصًا، فهو له لا يشاركه في أحد، فيكون في هذا الحديث رد لقول من استدل به على ثبوت الاشتراكية في الإسلام؛ لأنه كان في زمن من الأزمان يدندن الاشتراكيون حول هذا الحديث، ويقولون: إن الاشتراكية من الإسلام، حتى قيل في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم: والاشتراكيون أنت إمامهم! !

وكذبوا في ذلك، أنا أقول: هذا الحديث الذي استدللتم به الآن على الاشتراكية هو في الحقيقة دليل عليكم؛ لأن تخصيص الاشتراك في ثلاث يدل على انتفاء الاشتراك فيما وساه، وهذا هو إثبات الملكية الخاصة، وهذا من حكمة الله أن كل مبطل يستدل بدليل صحيح على باطله فإن الدليل يكون دليلًا عليه، وليس دليلاً له، ولهذا التزم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" أو ما يسمى بالعقل والنقل، التزم انه ما من شخص يستدل بدليل صحيح على باطل إلا كان الدليل عليه لا له؛ فحينئذٍ نقول: هذا دليل على بطلان الاشتراكية.

ص: 275

ومن فوائد الحديث: أن الأشياء التي لا صنع للآدمي فيها، وإنما هي من فعل الله يكون الناس فيها شركاء؛ لأن الناس كلهم عند الله سواء، فما دام الله تعالى لما قد أخرج هذا لعباده ينتفعون به، فإن الناس فيه سواء، ولا يمكن أن يختص به أحد دون الآخر.

ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن يخصص أحد بهذه الأشياء المشتركة، فلا يجوز حتى للإمام أن يقول لشخص من الناس: لك كلأ هذه الأرض دون غيرك، وقد سبق لنا أنه لا يجوز الحمى إلا للمواشي العامة للمسلمين، بشرط ألا يضرهم.

ومن فوائد الحديث: أن ما نبت في ملكك من الكلأ أو ما نبع من الماء فالناس مشاركون لك فيه، ولكن أهل العلم يقولون: إن صاحب الأرض أحق به من غيره؛ لأنه مالك أرض فيكون أحق بفرعها من غيره؛ لأن الفرع تبع للأصل، وعلى هذا فإذا كان هذا الماء النابع في أرضي لا يكفي زرعي أو يكفيه ولا يزيد عليه؛ فإنه ليس لأحد أن يزاحمني في الماء؛ لأنني أنا أحق به من غيري، ولهذا جاءت الأحاديث في تحريم بيع فضل الماء، أما ما كان في حاجة صاحب الأرض الذي نبع الماء في أرضه؛ فإنه لا يزاحمه أحد فيه فهو أحق به.

إذا قال قائل: ما تقولون في رجل عنده كلأ لا يحتاج إليه ليس عنده مواش تأكله، ولكن قد أحاط أرضه بشبك، فهل لأحد أن يعتدي على هذا الشبك، أو لا يجوز إلا بعد مراجعة ولي الأمر؟ الثاني: لأن هذا الرجل الذي أحاط أرضه صار فيها شيء من الحماية، ولكن لولي الأمر أن يلزمه بإزالة هذا الحاجز من أجل أن يرعى الناس هذا الكلأ أو يحشوه إلا إذا كان عنده ماشية ترعاه أو هو يحشه ويبيعه فهو أحق به كما قلنا.

كذلك بالنسبة للماء تقول: إذا كان عند إنسان غدير وهو: الماء المجتمع من الأمطار، واحتاج الناس أن يدخلوا إليه ليسقوا منه مواشيهم أو ليستسقوا منه لأنفسهم فليس له الحق أن يمنع الناس من ذلك؛ لأن الناس شركاء له فيه، لكن إذا كان يحتاجه هو لزرعه فله أن يمنع غيره منه إلا عند الضرورة، فيجب أن يمكن من اضطر إلى الشرب منه.

في الحديث يقول: "عن رجل من الصحابة"، "رجل" مجهول، نقول: لكن هو من الصحابة، وقد قال علماء الحديث: إن جهالة الصحابي لا تضر، ولكن يورد علينا مورد أن من الصحابة من فعل بعض المعاصي الظاهرة، بل بعض الكبائر، فكيف تقولون: إن جهالة الصحابي لا تضر أفلا يمكن أن يكون ممن فعل هذه الكبيرة؟

الجواب: أن الأصل في الصحابة العدالة، وأن من فعل منهم كبيرة، فهو إما أن يكون له حسنات عظيمة كبيرة تنغمر فيها هذه المعصية مثل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فإنه قد فعل

ص: 276