الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: «كتاب» ؛ وذلك لأنه يتضمن أبوابًا كثيرة، وقد ذكرنا فيما سبق أن العلماء يصنفون التأليف إلى كتاب وباب وفصل، والفرق بينها: أن الكتاب جنس يشمل أنواعا كثيرة، مثلا: كتاب الطهارة يشمل المياه، الأواني، الاستنجاء، الوضوء، الغُسل، التيمم، إزالة النجاسة، الحيض، فالباب يتضمن نوعًا من جنس مثل كتاب المياه هو نوع بالنسبة للطهارة، الوضوء هو نوع بالنسبة للطهارة وهكذا، أما الفصل فهو جملة مسائل من نوع واحد يعمد المؤلفون إليه إما لطول الباب، وإما لأهمية المسائل؛ لأن التفصيل في التأليف بقولك: فصل كذا، فصل كذا، فصل كذا، هذا يؤدي إلى عدم الملل والسآمة. وقد ذكر المؤلف هنا كتاب النكاح لأنه جنس يتضمن أشياء كثيرة كما سيأتي.
أولاً: نتكلم عن
حكم النكاح
وسيأتي في حديث ابن مسعود، لكن ما هو تعريف النكاح؟ أصله من الاجتماع، يقال: تناكح القوم، يعني: اجتمعوا فيما بينهم، وأما في الشرع فهو اجتماع بين رجل وأنثى على صفة مخصوصة، هذه الصفة: هي ما دل عليه الشرع من عقد النكاح بشروطه المعروفة.
حكم النكاح:
924 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فإنه له وِجَاءٌ» . متفق عليه.
قوله: «لنا» يعني: لنا نحن معشر الشباب الصغار من الصحابة، قَالَ:«يا معشر» «معشر» بمعني: طائفة، وقوله:«الشباب» هنا جمع شاب، ويُحتمل أن يكون مصدرا، فيكون معشر بمعنى: يا أصحاب الشباب، والشاب يُطلق على مَن تجاوز البلوغ إلى ثلاثين سنة، وبعضهم قال: إلى أربعين سنة ثم يكون كهلاً ثمّ شيخا.
«من استطاع منكم الباءة فليتزوج» وخصّ الشباب بالخطاب؛ لأنهم هم الذين يحتاجون إلى ما وجههم إليه، فالشهوة فيهم أكثر من الشهوة في الشيوخ، «الباءة» أي: قدر على الباءة،
والمراد بالباءة هنا: النكاح، ويشمل الاستطاعة البدنية والاستطاعة المالية، لأن الشاب إذا لم يكن عنده استطاعة بدنية فلا حاجة به إلى النكاح، وإذا كان عنده استطاعة بدنية لكن ليس عنده مال فليس عنده قدرة على النكاح، ولكن قد يقول قائل: إن المراد بالاستطاعة هنا: الاستطاعة المالية، لقوله:«ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن هذا يدل على أن المخاطب لديه قدرة بدنية لكن ليس عنده قدرة مالية، وقوله: «فليتزوج» هذه جواب «مَن» ، وقُرنت بالفاء؛ لأن الجملة الواقعة جوابًا طلبية، وهي فعل مضارع؛ لأنها مقرونة بلام الأمر، «فليتزوج» .
«فإنه» أي: الزواج، «أغض للبصر وأحصن للفرج» ، ولم يقال: وأكثر للولد، مع أنه أكثر للولد، لأن غالب الشباب أكبر همهم ما يكون به غض البصر وتحصين الفرج، ولهذا تجد اللذينَ يهنئونه بالزواج لا يتبادر إلى أذهانهم أنهم يهنئونه بأنه وجد حرثا يبذر فيه ويكون له أولاد، بل ربما يقولون: له تريث في الإنجاب لمدة سنتين أو ثلاث أو أربع، إنما يُهنئونه لأجل ما يكون به غض البصر وتحصين الفرج، ولهذا لم يذكر النيي صلى الله عليه وسلم الفائدة العظيمة وهي كثرة الولد؛ لأنه يُخاطب الشباب، وأهم شيء لديهم هذان الأمران.
«فإنه أغض للبصر» «أغض» يعني: أشد غضًّا للبصر، والغض هو النقص، يعنى: أنه يحجز البصر عن النظر إلى النساء، وهذا شيء مُجرب مشاهد، فالإنسان إذا تزوج غض بصره عن النظر إلى النساء، أما قبل ذلك فإنه يخشى أن يديم النظر إلى النساء بناء على ما جبله الله عليه من هذه الغريزة، وإن كان الإنسان قد يكون عنده من الإيمان ما يمنعه:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. لكن الكثير هو هذا.
وقوله: «أحصن للفرج» أي: أمنع، ومنه سمي الحصن، لأنه يمنع من فيه، «أحصن للفرج» يعني: أمنع عن المحرم -عن الفاحشة- فإنه يمنع الإنسان من الفاحشة، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل إذا رأى من امرأة ما يعجبه أن يأتي أهله وقال:«إن ما معها مثل الذي معها» ، يعني: مع أهلك مثل الذي كان مع التي أعجبتك.
«ومن لم يستطع» ، أين المفعول به؟ محذوف، تقديره: الباءة، «فعليه بالصوم» ، «عليه» هنا جار ومجرور يُراد به: الإغراء؛ أي: فليلزم الصوم، والمراد بالصوم هنا: الإمساك عن الطعام والشراب تعبداً لله سبحانه وتعالى من طلوع الشمس إلى غروب الشمس؛ أي: أن المراد بالصوم هنا: الصوم الشرعي لا الصوم اللغوي، لأن الصوم اللغوي هنا لا معنى له؛ ولأن القاعدة المقررة أن يحمل كلام كل متكلم على عرفه، فإذا جاء الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم يُحَمل على العرف الشرعي لأنه مُشرع، لكن لو جاءنا من رجل لغوي حملناه على المعنى اللغوي.
وقوله: «ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجَاء» «من لم يستطع» ، أي: لم يستطع الباءة،
وقلنا: إنه يُراد بها الجماع، ويُراد بها ما يحصل به الجماع من المال، والمراد بها هنا: ما يحصل به الجماع من المال؛ لقوله: «من لم يستطع» ؛ إذ لا يصح أن يحمل، قوله:«من لم يستطع» على الجماع، لأن من لا يستطيع الجماع لا يحتاج إلى النكاح، لكن من لم يستطع المال الذي يحصل به الجماع «فعليه بالصوم» ، «عليه» هذه جار ومجرور وهو بمعنى: فليلزم، فهو اسم فعل أمر بمعنى: فليلزم، والعرب تستعمل الجار والمجرور بمعنى اسم الفعل، ومنه قوله تعالى:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] وقوله: «فإنه له وجاء» ، «إنه» أي: الصوم، «له» أي: لمن لم يستطع، «وجاء» أي: مانع يمنع من قوة الشهوة وثورانها، يعني: أن الصوم يقطع الشهوة، فيقل على المرء التعب من أجلها، هذا الحديث خاطب النيي صلى الله عليه وسلم فيه الشباب؛ لأنهم أخرى به من الشيوخ، وذلك لأن الشباب هم الذين تتوافر فيهم هذه الشهوة، فلهذا وجّه الخطاب إليهم.
فيستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولاً: حسن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم حيث وجه الخطاب إلى من هم أولى به.
ومن فوائده: أن الشاب القادر على الزواج يجب عليه أن يتزوج لقوله صلى الله عليه وسلم: «فليتزوج» واللام للأمر والأصل في الأمر الوجوب، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن القادر على الزواج يجب عليه أن يتزوج، لأن الأصل في الأوامر الوجوب، ولما فيه من المصالح العظيمة، وقال بعض أهل العلم: إن الأمر هنا للاستحباب، وعللوا ذلك بأن النكاح تعود مصلحته إلى الفاعل، وهي مصلحة جسدية متعلقة بالشهوة، فيكون الأمر للإرشاد، أي: للاستحباب، ولكن الصحيح أن الأمر للوجوب؛ وذلك لأن النكاح عبادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمّر به، ولأنه من سنن المرسلين كما قال الله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن حاله: «وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» .
لكن الفقهاء رحمهم الله قسّموا النكاح إلى عدة أقسام فقالوا: إنه واجب وحرام ومكروه ومُباح ومسنون على حسب ما تقتضيه الحال، والأصل فيه عند الفقهاء السنية ولا يجب إلا لسبب، فما هو الواجب؟ قالوا: النكاح الواجب هو الذي يكون على من يخاف الزنا بتركه، فالذي يخاف الزنا إذا تركه يجب عليه أن يتزوج، والعلة لأن فيه وقاية من الوقوع في الحرام، والحرام واجب الاجتناب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا خاف ألزنا على نفسه
وجب عليه أن يتزوج، وهذا جزء من القول الذي أشرنا إليه آنفا وهو وجوب النكاح على من استطاعة». لأن القائلين بالوجوب يقولون: يجب وإن لم يخف الزنا ما دام فيه شهوة فيجب عليه أن يتزوج.
الثاني: ويكون حرامًا إذا كان في دار الحرب، يعني: مثلاً لو أننا كنا نقاتل الكفار ونحن في بلادهم فإن النكاح هنا يحرم؛ لأنه يخشى من استرقاق الولد ربما يستولي الكفار علي المسلمين ويسبوا ذريتهم فيسترقون أولادهم، وما لا يتم دفع الحرام إلا به فهو واجب، إذن فاجتناب النكاح واجب لكن قالوا: إذا كانت هناك ضرورة بأن خاف الزنا بتركه فإنه يجوز.
الثالث: ويكره لإنسان فقير ليس له شهوة، لماذا؟ لأن هذا الزواج لا يستفيد منه إلا الإزهاق، يرهق نفسه بالإنفاق على زوجته ورعايتها، وهذا لا شك أنه شاق لا داعي له ما دام الرجل ليس فيه شهوة فلا حاجة للتزوج.
الرابع: المباح، ويكون لإنسان له شهوة ولكن لا مال له، فهنا نقول: يُباح لك النكاح من غير وجوب أو استحباب، وذلك لأنك غير قادر على الباءة، فإذا تزوجت فهذا مُباح، لكنه ليس مستحبًا بل هُوَ من باب المباح، وكذلك الإنسان الذي عنده مال وليس له شهوة فالنكاح في حقه من قسم المباح؛ لأنه ليس فيه ما يدعو إلى النكاح لكن إذا تزوج صار فيه مصلحة، فالزوجة تخدمه وهو أيضًا يعف الزوجة ويحصل فيه مصالح.
الخامس: المسنون، وهو الأصل؛ ولذلك نجد أن الأحكام الأربعة الأخرى كلها تحتاج إلى سبب يحولها من الاستحباب إلى الوجوب أو التحريم أو الكراهة أو الإباحة.
من فوائد هذا الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وبيانه لأمته، وهو أنه إذا ذكر الحكم ذكر علته؛ لأن ذكر العلة فيها فوائد ثلاث:
الفائدة الأولى: بيان سمو الشريعة وعلوها، وأن أحكامها كلها مبنية على رعاية المصالح.
الفائدة الثانية: زيادة طمأنينة المخاطب؛ لأن المخاطب إذا عرف الحكمة اطمأن إلى الحكم أكثر وصار في ذلك أيضا زيادة حث له، لمن؟ للمخاطب، لأنه إذا عرف الحكمة واطمأن فإن ذلك يزيده رغبة في هذا الحكم، ولهذا قوله صلى الله عليه وسلم هنا:«أغض للبصر وأحصن للفرج» ، لا شك أنه يرغب الإنسان في النكاح.
الفائدة الثالثة: قياس ما شارك هذا المعنى أو المحكوم به في المعنى، فإننا إذا وجدنا هذه
العلة في شيء آخر قلنا: هذا حكمه حكم الذي عُلل بهذه العلة، ووجه ذلك: أن الشريعة الإسلامية لكمالها واطرادها لا تفرق بين مُتماثلين كما أنها لا تجمع بين المتفرقين، فإذا كانت علة الحكم المذكور ثابتة في مكان آخر نقل حكم هذا المذكور إلى ذلك المكان الآخر؛ لأننا نعلم أن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين متماثلين.
ومن فوائد هذا الحديث: أن غض البصر مطلوب؛ لأنه إذا كان قد أمر بالنكاح من أجل غض البصر صار سبب الحكم أولى بالحكم من المسبب هذا بقطع النظر عن قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 30، 31] لكن نيد أن نأخذ الحكم من هذا الحديث.
ومن فوائد الحديث: مشروعية تحصين الفرج لقوله: «وأحصن للفرج» .
ومن فوائد الحديث: تجنب كل ما يوجب إطلاق البصر أو وقوع الفرج في السواقط، وجه ذلك: أنه إذا أمر بالنكاح من أجل منفعة غض البصر وتحصين الفرج، فإن ما يوجب خلاف ذلك يكون منهيا عنه، ويتفرع على هذه القاعدة: أن الإنسان إذا وجد من نفسه افتتانًا لمطالعة بعض الصحف التي تشتمل على صور فإنه يجب عليه أن يتجنب ذلك؛ لأن هذا ربما يدعوه إلى إطلاق البصر أو إلى فعل الفاحشة نسأل الله العافية.
ومن فوائد الحديث: جواز الاقتصار على بعض الحكمة إذا كان المقام يقتضي ذلك، يُؤخذ من أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الأمر بالتزوج بأنه «أغض للبصر وأحصن للفرج» ، مع أن فيه علة أخرى ينظر إليها الشارع نظرة هامة وهي كثرة النسل والأولاد، لكن لما كان يُخاطب الشباب، والشباب لا يهتم في أول الأمر إلا فيما يتعلق بالشهوة وتحصين الفرج وغض البصر علل بالعلة المناسبة للمخاطب وهم الشباب.
ومن فوائد الحديث: حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما إذا تعذر الشيء حسًا أو شرعًا فإنه صلى الله عليه وسلم يذكر البديل عنه، لقوله:«ومن لم يستطع فعليه بالصوم» فإذا لم يمكنك القيام بالنكاح قدّرا لأنك معسرًا فعليك بالصوم.
ومن فوائد الحديث: أنه لا ينبغي للإنسان أن يستقرض ليتزوج، وجه الدلالة: أنه قال: «من لم يستطع فعليه بالصوم» ، ولم يقل: فليستقرض، أو فليستدن، ويدل لهذا أيضًا قوله تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33]. يعني: بدون واسطة، لم يقل: حَتى يغنيهم الله بأي وسيلة، قال:{حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33] وهذا لا يحصل إلا بالغنى، ويدل