الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر الثالث:
شروط قبول خبر الواحد:
يشترط في حديث الآحاد للاحتجاج به أن تتوفر فيه تسعة شروط (1) تتعلق بأمور ثلاثة:
* الأول: الراوي، ويشترط فيه أربعة شروط.
الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط ولا يشترط غير ذلك.
ف
لا يشترط في الراوي أن يكون فقيهًا
(2) لقوله صلى الله عليه وسلم: «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» (3) .
* الثاني: السند، ويشترط فيه ثلاثة شروط:
الاتصال وعدم الانقطاع، وعدم الشذوذ، وعدم العلة.
? الثالث: المتن، ويشترط فيه شرطان:
عدم الشذوذ، وعدم العلة.
الأمر الرابع: هل يفيد خبر الواحد العلم أو الظن؟
والمراد بهذا السؤال معرفة مدى مطابقة خبر الواحد للواقع، فهل يُقطع ويجزم بصدقه، أو أن صدق خبر الواحد أمر ظني فيحتمل الخطأ أو الكذب ولو بنسبة قليلة؟
أما حجية خبر الواحد فقد تقدم أنها أمر قاطع وثابت، وذلك معلوم بأدلة قاطعة (4) . ولعل الإجابة على السؤال المقصود تتضح في ثلاثة فروع:
الفرع الأول: أقوال الناس في هذه المسألة.
(1) انظر: "اختصار علوم الحديث"(17) .
(2)
انظر: "الرسالة"(403) ، و"روضة الناظر"(1/292، 293)، وانظر فيما يتعلق بالرد على من قال: إن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن فقيهًا: "مجموع الفتاوى"(4/532 – 539) .
(3)
أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في سننه (5/33، 34) برقم (2656)، وهذا الحديث قطعة من حديث:«نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها» وقد تقدم تخريجه قريبًا انظر (ص 143) من هذا الكتاب.
(4)
انظر (ص 141- 143) من هذا الكتاب.
الفرع الثاني: مذهب أهل السنة في هذه المسألة.
الفرع الثالث: الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب من وافقهم من أهل الكلام.
* الفرع الأول: الناس في إفادة خبر الواحد العلم أو الظن طرفان (1) :
طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعًا بها عند أهل العلم بالحديث.
والطرف الثاني ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به، فيجعل كل حديث وكل لفظ روي بإسناد ظاهره الصحة مقطوعًا به من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، فيؤدي به ذلك إلى معارضة الحديث الصحيح والتماس التأويلات المتكلفة للجمع بينها أو أن يستدل به في مسائل علمية، مع أن أهل الحديث يعرفون غلط هذا الصنيع.
والصواب في هذه المسألة التفصيل، وترك الإجمال.
فيقال: إن خبر الواحد قد يفيد العلم وذلك إذا احتفت به القرائن، وقد يفيد الظن وذلك إذا تجرد عن القرائن، وهذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي، والخطيب البغدادي، وابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، والأمين الشنقيطي (2) .
* الفرع الثاني: مذهب أهل السنة في هذه المسألة يمكن بيانه في أربع قواعد:
القاعدة الأولى: أن خبر الواحد إذا احتفت به القرائن أفاد العلم القاطع (3) ،
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(13/353) .
(2)
انظر: "الرسالة"(461، 599) ، و"الفقيه والمتفقه"(1/96) ، و"روضة الناظر"(1/260 – 263) ، و"مجموع الفتاوى"(13/351، 18/41) ، و"مختصر الصواعق"(456، 459) ، و"رحلة الحج" للشنقيطي (97 – 99) ، و"مذكرة الشنقيطي"(104) .
(3)
المقصود أن خبر الواحد يمكن أن يفيد العلم ويحصل به اليقين، وذلك فيما إذا احتفت به القرائن، وبذلك يحترز مما ذهب إليه بعض المتكلمين القائلون بأن أخبار الآحاد – بل جميع نصوص الكتاب والسنة – أدلة لفظية لا تفيد اليقين بحال من الأحوال انظر (ص83- 85) من هذا الكتاب.
وهذا ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وجمهور الأمة (1) .
قال ابن تيمية: "ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقًا له أو عملاً به أنه يوجب العلم.
وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك؛ ولكن كثيرًا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك" (2) .
القاعدة الثانية: أن خبر الواحد إذا تجرد عن القرائن (3) ولم يتصل به ما يدل على إفادته العلم، لا يحصل به اليقين ولا يفيد العلم باتفاق، وهذا أمر لا نزاع فيه (4) ، إذ أن الخبر قد تحتف به قرائن تدل على كذبه، وقد تحتف به تارة أخرى قرائن تدل على صدقه، وقد يتجرد تارة ثالثة عن جميع القرائن فيبقى محتملاً للصدق وللكذب.
قال ابن القيم: "خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه، فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه، وتارة يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنيًا، وتارة يتوقف فيه فلا يترجح صدقه ولا كذبه إذا لم يقم دليل أحدهما، وتارة يترجح صدقه ولا يجزم به، وتارة يجزم بصدقه جزمًا لا يبقى معه شك، فليس خبر كل واحد يفيد العلم ولا الظن"(5) .
فتبين بذلك أن الحديث المقبول إما أن يترجح صدقه، وهذا معنى كونه
(1) انظر: "الرسالة"(461، 599) ، و"الفقيه والمتفقه"(1/96) ، و"مجموع الفتاوى"(18/41) ، و"مختصر الصواعق"(466) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/348 – 352) ، و"مذكرة الشنقيطي"(103) .
(2)
"مجموع الفتاوى"(13/351) ، وانظر (18/41) من المصدر نفسه.
(3)
المراد بتجرد الخبر عن القرائن في هذا المقام: تجرده عن القرائن المفيدة للعلم لا عن مطلق القرائن انظر (152) تعليق رقم (2) من هذا الكتاب.
(4)
انظر: "المسودة"(244) ، و"الجواب الصحيح"(4/293) .
(5)
"مختصر الصواعق"(455، 456) .
مفيدًا للظن، وإما أن يُجزم بصدقه، وهذا معنى كونه مفيدًا للعلم.
وهذا إنما يعرف بالقرائن.
القاعدة الثالثة: القرائن نسبية، فما هو قرينة عند شخص قد لا يكون قرينة عند غيره، ورب قرينة أفادت القطع واليقين عند شخص، ولم تفد سوى الظن عند غيره، وهكذا
…
فالقرائن تختلف بحسب حال المخبر، وحال المخبر عنه، وحال الخبر، وحال السامع الذي هو المخبر (1) .
قال ابن القيم: "وأما المقام السابع: وهو أن كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي، يختلف باختلاف المدرك المستدل، ليس هو صفة للدليل في نفسه، فهذا أمر لا ينازع فيه عاقل، فقد يكون قطعيًا عند زيد ما هو ظني عند عمرو"(2) .
ومن الأمثلة على اختلاف القرائن:
أن الحديث المقبول ليس على درجة واحدة، بل إنه متفاوت.
فمنه الحديث الصحيح: الذي تواتر لفظه أو تواتر معناه.
ومنه ما تلقاه المسلمون بالقبول: فعملوا به، فكانت الأمة مجمعة على التصديق والعمل بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة.
ومنه الحديث الصحيح: الذي تلقاه بالقبول أهل العلم بالحديث، كجمهور أحاديث الصحيحين.
ومنه ما قد يسمى صحيحًا: لتصحيح بعض المحدثين له، وقد يخالفهم غيرهم في تصحيحهم، فيقولون: هو ضعيف ليس بصحيح.
ومنه ما قد يسمى بالحسن: وهو دون الصحيح الذي عرفت عدالة ناقليه وضبطهم (3) .
قال ابن تيمية: "ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث،
(1) انظر: "مختصر الصواعق"(466 – 468) .
(2)
"مختصر الصواعق"(501) .
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(18/16 – 23) ، و"مختصر الصواعق"(453 – 468) .
كموارد الاجتهاد في الأحكام، وأما ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء في الأحكام" (1) .
القاعدة الرابعة: لا شك أن المعتبر في هذه القرائن المختصة بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هو ما يذكره أهل الحديث فهم أهل الاختصاص والشأن، أما أهل الكلام وأتباعهم فإنهم غاية في قلة المعرفة بالحديث؛ فلا يحصل لهم –بسبب ذلك– العلم بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنكار أهل الكلام لما علمه وقطع به أهل الحديث (2) أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة الأربعة عند أتباعهم (3) .
* الفرع الثالث: الفرق بين مذهب هؤلاء الأئمة وغيرهم من أئمة السلف ومذهب من ذهب من أهل الكلام إلى أن خبر الواحد يفيد الظن يمكن تلخيصه في الأمور الآتية:
1-
أن أهل السنة يثبتون بخبر الواحد الصحيح صفات الرب تعالى والعقائد الأخرى دون نظر إلى قضية القطع والظن.
قال ابن القيم: "المقام الخامس أن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها؛ كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها، فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر؟
(1) "مجموع الفتاوى (18/22) .
(2)
ذهب بعض أهل العلم إلى أن خبر الواحد الصحيح لا يكون إلا مفيدًا للعلم؛ إذ الحديث الصحيح –في نظر هؤلاء– لا يتصور تجرده عن القرائن، فإذا وجدت الصحة في الخبر وجد معها أمران متلازمان: القرائن والعلم. وبناءً على ذلك فخبر الواحد إنما يفيد العلم لأجل القرائن لا مطلقًا.
ويتضح ذلك إذا عرفنا أن هذه القرائن التي ذكرها هؤلاء ملازمة لكل حديث صحيح لا تنفك عنه، مثل: أن رواة الحديث هم الصحابة الذين عُرفوا بالصدق والأمانة، وأن المروي هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه. انظر:"مختصر الصواعق"(466 – 468) .
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(18/69، 70) ، و"مختصر الصواعق"(453 – 455) ، وانظر «المسألة الخامسة» الخبر المتواتر تقسيمه باعتبار أهله إلى قسمين من هذا الكتاب، ففي هذا الموضع نقلان مهمان عن ابن تيمية وابن القيم.
وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة" (1) .
2-
أن أهل السنة يعملون بخبر الواحد في جميع المسائل دون النظر إلى قضية القطع والظن، فخبر الآحاد الثابت حجة مطلقة يجب العمل بها دون قيد أو شرط (2) .
3-
أن خبر الواحد عند أهل السنة أصل مستقل بذاته، ولا يكون مخالفًا للقياس أو لشيء من الأصول، فلا يتصور عندهم تقديم القياس على خبر الواحد (3) .
قال ابن تيمية: "فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر.
وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس علمنا قطعًا أنه قياس فاسد" (4) .
4-
أن خبر الواحد عند أهل السنة يحصل به العلم إذا احتفت به القرائن، ولا يمنع من ذلك كونه من الأدلة السمعية؛ بل إن حصول العلم بالأدلة السمعية أكثر وأقوى من حصوله بالأدلة العقلية (5) .
5-
أن أهل السنة هم أهل الحديث وهم أعلم الناس بالقرائن التي تحتف بخبر الواحد، أما أهل الكلام فهم من أبعد الناس عن الحديث وعن القرائن المحيطة به؛ لذلك ذهب بعض المتكلمين (6) إلى القول بنفي القرائن مطلقًا وعدم اعتبارها، وهم بذلك يخبرون عن حالهم وواقعهم.
قال ابن القيم: "وإذا كان أهل الحديث عالمين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الأخبار وحدث بها في الأماكن والأوقات المتعددة، وعلمهم بذلك ضروري؛ لم
(1)"مختصر الصواعق"(489) .
(2)
انظر (ص 143- 146) من هذا الكتاب.
(3)
انظر (ص189، 190) من هذا الكتاب.
(4)
"مجموع الفتاوى"(20/505) .
(5)
انظر (ص83- 85) من هذا الكتاب.
(6)
انظر: "الإحكام" للآمدي (2/32) على سبيل المثال.
يكن قول من لا عناية له بالسنة والحديث: (إن (1) هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم) ، مقبولاً عليهم، فإنهم يدعون العلم الضروري.
وخصومهم إما أن ينكروا حصوله لأنفسهم أو لأهل الحديث فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث كانوا مكابرين لهم على ما يعلمونه من نفوسهم بمنزلة من يكابر غيره على ما يجده في نفسه من فرحه وألمه وخوفه وحبه" (2) .
****
(1) في الأصل: "وإن" ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
"مختصر الصواعق"(455) .