الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبناءً على ذلك فإن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة لأنهم بعض الأمة لا كلها (1) .
وقد حقق ابن تيمية القول في إجماع أهل المدينة فقال ما ملخصه:
"والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة: أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين.
ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن
إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:
المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد، وهذا حجة باتفاق.
المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه (2) فهذا حجة عند جمهور العلماء؛ فإن الجمهور على أن سنة الخلفاء الراشدين حجة، وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين أو قياسين، وجهل أيهما أرجح، وأحدهما يَعمل به أهل المدينة، ففي هذا نزاع:
فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة.
ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح به.
ولأصحاب أحمد وجهان، ومن كلامه أنه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثًا وعملوا به فهو الغاية.
(1) انظر: "الرسالة"(533) ، و"روضة الناظر"(1/363) ، و"إعلام الموقعين"(2/380، 3/83) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/237) .
(2)
هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، أمير المؤمنين الخليفة الثالث ذو النورين، زوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية ثم أم كلثوم، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين في الإسلام، عرف بالحياء والسخاء، قتل شهيدًا في داره سنة (35هـ) . انظر:"تهذيب الأسماء واللغات"(1/321) ، و"الإصابة في معرفة الصحابة"(2/455) .
المرتبة الرابعة: العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أو لا؟
فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.
وهو قول المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد.
ولم أرَ في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم.
فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا....
وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة عُلم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ودراية.
وأنه تارة يكون حجة قاطعة.
وتارة حجة قوية.
وتارة مرجحًا للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين (1) .
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي:
"
…
لأن الصحيح عنه [أي مالك] أن إجماع أهل المدينة المعتبر له شرطان:
أحدهما: أن يكون فيما لا مجال للرأي فيه.
الثاني: أن يكون من الصحابة أو التابعين، لا غير ذلك؛ لأن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه في حكم المرفوع فألحق بهم مالك التابعين من أهل المدينة فيما لا اجتهاد فيه (2) لتعلمهم ذلك عن الصحابة.
أما في مسائل الاجتهاد، فأهل المدينة عند مالك -فالصحيح عنه- كغيرهم من الأمة، وحكي عنه الإطلاق.
(1)"مجموع الفتاوى"(20/303 – 311) .
(2)
في الأصل: "فيما فيه اجتهاد" وهو خطأ مطبعي كما يظهر.
وعلى القول بالإطلاق يتوجه عليه اعتراض المؤلف [يعني ابن قدامة في روضة الناظر] بأنهم بعض من الأمة كغيرهم" (1) .
وكذلك فإن قول الخلفاء الراشدين واتفاقهم وحدهم لا يكون إجماعًا لأنهم بعض الأمة، والإجماع إنما هو قول جميع الأمة، لما تقدم من عموم لفظ "المؤمنين" و"الأمة"(2) .
فلا بد إذن من دخول جميع المجتهدين؛ سواء كان هذا المجتهد مشهورًا أو خاملاً، وسواء كان من أهل عصر المجمعين أو كان من أهل العصر الذي يليهم لكنه لحق بهم وصار من أهل الاجتهاد ساعة انعقاد الإجماع.
وذلك كالتابعي إذا أدرك الصحابة وقت الحادثة المجمع عليها وهو من أهل الاجتهاد (3) .
(الشرط الرابع: يشترط في أهل الإجماع أن يكونوا أحياء موجودين، أما الأموات فلا يعتبر قولهم، وكذلك الذين لم يوجدوا بعد، أو وجُدوا ولم يبلغوا درجة الاجتهاد حال انعقاد الإجماع.
فالقاعدة: أن الماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر.
فالمعتبر في كل إجماع أهل عصره من المجتهدين الأحياء الموجودين، ويدخل في ذلك الحاضر منهم والغائب.
لأن الإجماع قول مجتهدي الأمة في عصر من العصور، أما اعتبار جميع مجتهدي الأمة في جميع العصور فغير ممكن؛ لأن ذلك يؤدي إلى عدم الانتفاع بالإجماع أبدًا (4) . ويتصل بهذا الشرط مسألة انقراض العصر.
فهل من شرط صحة الإجماع أن ينقرض عصر المجمعين بموتهم، أو بمرور
(1)"مذكرة الشنقيطي"(154) .
(2)
انظر: "روضة الناظر"(1/365) ، و"قواعد الأصول"(75) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/231 – 236) .
(3)
انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/170) ، و"روضة الناظر"(1/355) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/231 – 236) .
(4)
انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/156) ، و"روضة الناظر"(1/374، 375) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/231 – 236) .
زمن طويل على إجماعهم (1) ؟
ذهب الجمهور إلى أن انقراض العصر ليس شرطًا في صحة الإجماع بل المعتبر في إجماع مجتهدي العصر الواحد اتفاقهم ولو في لحظة واحدة.
فلا يشترط أن يمضي على اتفاقهم زمن أو أن ينقرض عصر المجمعين، بل متى ما اتفقت كلمتهم واستقرت آراؤهم وعلم ذلك منهم حصل بذلك الإجماع وانعقد.
أما اشتراط انقراض العصر فإنه يؤدي إلى تعذر وقوع الإجماع لتلاحق المجتهدين فيدخل مجتهد جديد وهكذا
…
ثم إن الأدلة الدالة على حجية الإجماع عامة مطلقة، لم تتعرض لذكر هذا الشرط.
وقد ذهب بعض العلماء إلى القول باشتراط انقراض العصر، ولعل هؤلاء أرادوا بهذا الاشتراط زيادة التثبت في نسبة قول المجمعين إليهم، وشدة التأكد من استقرار أهل المذاهب على مذاهبهم.
وعلى كل حالٍ فلا بد في هذه المسألة من تحرير قضية مهمة:
ألا وهي التثبت في نقل الاتفاق والتأكد من حصول الإجماع، وذلك بمعرفة أقوال المجمعين والاطلاع على أحوالهم للعلم باستقرارهم على مذاهبهم.
فإذا حصل التأكد من وقوع الاتفاق والعلمُ بموافقة جميع المجتهدين، ولو في لحظة واحدة، فلا يلتفت بعد حصول الإجماع إلى مخالفة مخالف من أهل الإجماع أو من غيرهم.
أما في حالة نقل الاتفاق دون التأكد من موافقة جميع المجتهدين أو من غير علم باستقرار مذاهبهم – انقرض العصر أو لم ينقرض – فالإجماع المنقول – والحالة كذلك – لا يكون صحيحًا، ويمكن أن يقال في مثل هذه الحالة: يشترط في صحة الإجماع استقرار المذاهب. وهذا قد يحصل في لحظة واحدة، وقد يحتاج إلى أزمنة مديدة، وقد لا يحصل أصلاً.
(1) انظر: "روضة الناظر"(1/366) ، و"المسودة"(321 – 323) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/246) .