الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقعت له ثانية فالأحوط للمستفتي أن يستفتي مرة ثانية، لاحتمال أن يكون المفتي قد غير اجتهاده، ولاحتمال طروء بعض ما يغير حكم الحادثة، فيظن المستفتي أن الحادثة هي هي وأن حكمها لم يتغير، والواقع أنهما حادثتان مختلفتان وأن لكل منهما حكمًا يخصها (1) .
5-
لا ينبغي للمستفتي أن يسال عما يبعد وقوعه أو لا يمكن وقوعه (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من حسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (3) .
المسألة السابعة: تنبيهات
1-
باب الفتوى له صلة قوية بباب الاجتهاد والتقليد، بل إن الفتوى فرع عن الاجتهاد والتقليد، إذ المفتي هو المجتهد، والمستفتي هو المقلد، لذا فإن كثيرًا من مباحث الفتوى يرجع فيها إلى ما تقدم من مباحث الاجتهاد والتقليد.
فمن ذلك:
2-
أنواع المفتين كأنواع المجتهدين: فبعضهم مجتهد مطلق وبعضهم مقيد، وبعضهم مجتهد في جميع المسائل، وبعضهم في مسألة أو باب معين، على ما مضى في أقسام الاجتهاد (4) ، ولا يجوز للمفتي أن يتجاوز مرتبته.
3-
يجوز للمفتي أن يفتي أباه وابنه وشريكه ومن لا تقبل شهادته له؛ لأن الإفتاء حكمه عام يجري مجرى الرواية لا مجرى الشهادة (5) .
4-
لا يجوز للمفتي أن يأخذ أجرة على فتواه من أعيان من يفتيهم،
(1) انظر: "إعلام الموقعين"(4/261) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/555) .
(2)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/221، 222) ، و"جامع العلوم والحكم"(1/287) ، وانظر (ص508) من هذا الكتاب فيما يتعلق بالمفتي إذا سئل عما لا يقع أو يبعد وقوعه.
(3)
رواه ابن ماجه في "سننه"(2/1315) برقم (3976) ، والترمذي (4/558) برقم (2317)، وحسنه النووي في "الأربعين النووية". انظر منه:(1/287) .
(4)
انظر (ص465، 466) من هذا الكتاب.
(5)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/210) .
ويجوز له أن يأخذ من بيت المال ما يغنيه إن احتاج لذلك.
وأما الهدية فإن كانت بغير سبب الفتوى جاز قبولها، والأولى أن يكافئ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى كره قبولها لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء.
ويحرم قبول الهدية إن كانت سببًا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره (1) .
5-
يجوز للحي تقليد الميت والعمل بفتواه؛ لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها، وهذا ما عليه عمل جميع المقلدين في أقطار الأرض، فإن خير ما بأيديهم من التقليد تقليد الأموات (2) .
6-
لا يجوز للمستفتي تتبع الرخص، والتخير بين أقوال المفتين بالرأي المجرد والتشهي، بل عليه أن يرجح قدر استطاعته القول الأقرب للصواب في نظره (3) .
وإذا كان تتبع الرخص لا يجوز للمستفتي، فعلى المفتي ألا يُعينه على ذلك إلا إنْ عَلِمَ منه حُسْنَ القصد فله أن يدله على حيلةٍ جائزةٍ لا شبهة فيها (4) .
****
(1) انظر: "الفقيه والمتفقه"(2/164) ، و"إعلام الموقعين" 4/232) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/547 – 550) .
(2)
انظر: "إعلام الموقعين"(4/215، 216، 260، 261) .
(3)
انظر (ص501) من هذا الكتاب.
(4)
انظر: «إعلام الموقعين» (4/211، 222) ، وانظر فيما يتعلق بتتبع الرخص (ص502) من هذا الكتاب، وفيما يتعلق بالإرشاد إلى حيلة جائزة رقم (6، 7، 10) من آداب المفتي (ص511) من هذا الكتاب.
في خاتمة هذا الكتاب أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمني، وأن يعفو عني، وأن يتجاوز عما وقع في هذا الكتاب من خطأ أو غفلة، {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
وأسأله سبحانه أن يكتب هذا العمل في ميزان حسناتي وأن يجعله عملاً صالحًا مقبولاً.
وأسأله جل شأنه أن يغفر لي ولوالدي ولعلماء هذه الأمة أجمعين، ولا سيما أولئك الأئمة الأعلام الذين نقلت عنهم وأفدت منهم في هذا الكتاب.
ثم إن هذه الخاتمة تتضمن أمرين:
الأول: النتائج.
الثاني: التوصيات.
النتائج
في هذا المقام تحسن الإشارة إلى أهم النتائج المستفادة من هذا البحث وعددها أربع:
وبيانها على النحو الآتي:
أولاً: أن لأهل السنة والجماعة منهجًا واضحًا في أصول الفقه.
ومعالم هذا المنهج: سلامة المنطلق، وقوة المستند، وشمول النظر، ووضوح الفكرة.
(لقد امتاز هذا المنهج أولاً: بسلامة المنطلق؛ إذ بُني على إجماع السلف الصالح، وانطلق من عقيدتهم في أبواب الإيمان والتوحيد.
(وامتاز ثانيًا: بقوة المستند؛ إذ استند هذا المنهجُ في تقرير القواعد وإقامة الشواهد على نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، وما صح من الآثار المروية عن خير القرون من الصحابة والتابعين. واستند أيضاً إلى الفهم والاستنباط، وإعمال الرأي واستخدام العقل في حدود الشرع، كما استند أيضاً إلى قواعد اللغة العربية واستعمالاتها.
(وامتاز ثالثًا: بشمول النظرة؛ إذ اجتمع في هذا المنهج الالتفات إلى هذه الشريعة الغراء في مقاصدها العامة، وقواعدها الكلية، وفي أحكامها الفرعية، وتفاصيلها الجزئية (1) .
(1) من هنا نستطيع أن نجعل لعلم أصول الفقه فروعًا أربعة:
الفرع الأول: القواعد الأصولية.
والفرع الثاني: أثر القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، أو ما يسمى: بتخريج الفروع على الأصول.
والفرع الثالث: مقاصد الشريعة.
والفرع الرابع: الخلاف بين العلماء: أسبابه وأحكامه وآدابه.
وقد يضيف البعض فرعًا خامسًا، وهو: القواعد الفقهية.
(وامتاز رابعًا: بوضوح الفكرة؛ فقد اتصف هذا المنهج بالخلو من التعقيد والإشكال، والسمو عن التناقض والاضطراب.
ثانيًا: أن لمنهج أهل السنة والجماعة في علم أصول الفقه أئمة ورجالاً.
فمن أبرز أعلام هذا المنهج:
1-
الإمام الشافعي.
2-
أبو المظفر السمعاني.
3-
ابن قدامة المقدسي.
4-
شيخ الإسلام ابن تيمية.
5-
ابن قيم الجوزية.
6-
ابن النجار الفتوحي.
7-
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
ثالثًا: أن للمعتقد أثرًا بليغًا في أصول الفقه.
يظهر هذا الأثر جليًا في المسائل المشهورة، وذلك كالقول بأن الأمر لا صيغة له بناءً على إثبات الكلام النفسي الباطل، ومذهب أهل السنة أن للأمر صيغة تخصه بناءً على إثبات اللفظ والمعنى في كلام الله سبحانه، ونفي الكلام النفسي الباطل، ولكن هذا الأثر يكون خفيًا في مسائل أخرى، وهي تلك المسائل التي حصل الاتفاق فيها بين أهل السنة وبعض مخالفيهم في ظاهر المذهب مع الاختلاف في المأخذ، وذلك في مواجهة من خالف الفريقين في المذهب والمأخذ معًا، وذلك مثل مسألة النسخ قبل التمكن: إذ اتفق رأي أهل السنة ورأي الأشاعرة في القول بالجواز، وخالف في ذلك المعتزلة فقالوا بالمنع.
والحقيقة أن رأي الأشاعرة وإن كان موافقًا في الظاهر لرأي أهل السنة إلا أنهما مختلفان في المأخذ:
فأهل السنة قالوا بالجواز بناءً على إثبات الحكمة والتعليل في أفعاله سبحانه وتعالى، وأن الحكمة قد تكون الابتلاء والتمحيص.
أما الأِشاعرة فقد قالوا بالجواز بناءً على إنكار الحكمة والتعليل في أفعال
الله سبحانه، واستواء هذه الأفعال بالنسبة للأمر والنهي.
وأما المعتزلة فقد قالوا بالمنع بناءً على أصل عقدي باطل، وهو إثبات التحسين والتقبيح العقليين وترتيب الثواب والعقاب عليهما.
والمقصود: أن الأثر العقدي تارة يكون جليًا، كالقول بأن الأمر لا صيغة له، وكمنع المعتزلة من النسخ قبل التمكن، وتارة يكون هذا الأثر خفيًا كتجويز الأشاعرة النسخ قبل التمكن.
رابعًا: أن تاريخ علم أصول الفقه بحاجة إلى مزيد من الدراسة.
ذلك أن الكتابة في تاريخ هذا العلم قاصرة على تقسيم جهود الأصوليين إلى ثلاث طرق: طريقة المتكلمين، وطريقة الفقهاء، وطريقة المتأخرين أو الجمع بين الطريقتين.
والواقع: أن هذا التقسيم – وإن كان صحيحًا – قاصر على اعتبار واحد، وهو النظر إلى منهج الكتابة وطريقة التأليف. وهناك اعتبارات أخرى لم يلتفت إليها.
وذلك مثل: اعتبار العقيدة فهناك كتب للأشاعرة، وأخرى للمعتزلة، وأخرى للماتريدية، وأخرى للشيعة، وهناك كتب لأهل السنة والجماعة.
ومثل اعتبار المذاهب الفقهية: فهناك كتب أصولية على المذهب الحنفي، وعلى المذهب المالكي، وعلى المذهب الشافعي، وعلى المذهب الحنبلي، وعلى المذهب الظاهري.
ومثل اعتبار التوسع والاختصار: فهناك متون مختصرة، وهناك شروح وحواشٍ، وهناك كتب مطولة.
ومثل اعتبار شمول هذه المؤلفات لمباحث هذا العلم أو الاقتصار على بعضها: فهناك مؤلفات أصولية شاملة لجملة مباحث علم الأصول، وهناك مؤلفات خاصة ببعض المباحث، مثل كتاب:«تنقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم» للعلائي.