الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
بناءً على هذا التفصيل في التكليف بما لا يطاق فإنه لا يجوز إطلاق القول في حكم التكليف بما لا يطاق بالجواز أو المنع، لأن لفظ "التكليف بما لا يطاق" من الألفاظ المجملة، إذ هو مشتمل على المعنيين المذكورين؛ أحدهما حق ثابت وهو المستحيل لا لذاته بل لتعلق علم الله بأنه لا يوجد، والأخر باطل لا يثبت في هذه الشريعة وهو المستحيل لذاته (1) .
والتكليف بما لا يطاق مجمل أيضًا من وجه آخر، هذا بيانه:
3-
لفظ القدرة والاستطاعة والطاقة: من الألفاظ المُجملة؛ لأن لفظ القدرة يتناول نوعين:
أ- القدرة الشرعية المصححة للفعل، التي هي مناط الأمر والنهي، وهي المذكورة في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]، وقوله:{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
ب- القدرة القدرية الموجبة للفعل، المقترنة به، المحققة له، التي هي مناط القضاء والقدر، وهي المذكورة في قوله تعالى:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وقوله:{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101](2) .
قال ابن تيمية: "وعلى هذا تتفرع مسألة تكليف ما لا يطاق، فإن الطاقة هي الاستطاعة، وهي لفظ مجمل، فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحدًا شيئًا بدونها، فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير. وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل؛ فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار، فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين"(3) .
4-
هل القدرة متقدمة على الفعل أو هي مقارنة له؟
الصواب في ذلك أن
القدرة نوعان:
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(8/294، 295) .
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(8/290، 291، 372، 373) ، و"شرح العقيدة الطحاوية"(488) .
(3)
"مجموع الفتاوى"(8/130) .
أ- القدرة الشرعية: فهذه تتقدم الفعل، وهي صالحة للضدين، بمعنى أنها قد توجد ويوجد معها الفعل، وقد توجد ولا يوجد معها الفعل.
ب- أما القدرة القدرية: فهذه مقارنة للفعل لا تكون إلا معه (1) .
قال ابن تيمية: "ومن مواقع الشبهة ومثارات الغلط تنازع الناس في القدرة هل يجب أن تكون مقارنة للفعل؟ أو يجب أن تكون متقدمة عليه؟
والتحقيق الذي عليه أئمة الفقهاء:
أن الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي.... لا يجب أن تقارن الفعل، فإن الله إنما أوجب الحج على من استطاعه، فمن لم يحج من هؤلاء كان عاصيًا باتفاق المسلمين، ولم يوجد في حقه استطاعة مقارنة، وكذلك سائر من عصى الله من المأمورين المنهيين وجد في حقه الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي. وأما المقارنة فإنما توجد في حق من فعل...." (2) .
5-
هل تشترط القدرة في التكليف؟
لعل الجواب على ذلك تبين مما مضى، وهو أن القدرة الشرعية لا بد منها في التكليف، وذلك مثل اشتراط الاستطاعة في الحج، فهذه استطاعة شرعية تشترط في وجوب الحج، فمن كانت لديه هذه الاستطاعة وجب عليه الحج، ومن لم توجد عنده هذه الاستطاعة لم يجب عليه الحج.
أما القدرة القدرية فإنها لا تشترط في التكليف وذلك مثل العصاة والكفار التاركين لما أمر الله به، فإن هؤلاء لتركهم ما وجب عليهم لم تحصل لهم القدرة القدرية، ومع ذلك فهم مكلفون بما فُرض عليهم، فحصول القدرة الأولى كافٍ في التكليف، أما حصول القدرة الثانية فلا يشترط في التكليف (3) .
6-
من الأدلة على اشتراط الاستطاعة والقدرة –الشرعيتين– في جميع التكاليف ما ذكره ابن تيمية وقرره في غير موضع، قال رحمه الله:
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(8/441) ، و"شرح العقيدة الطحاوية"(488) .
(2)
"مجموع الفتاوى"(8/441) .
(3)
انظر المصدر السابق (8/130، 290، 291، 373) ، و"شرح العقيدة الطحاوية"(429) .
"..... والشريعة طافحة بأن الأفعال المأمور بها مشروطة بالاستطاعة والقدرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين (1) :«صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» (2) ، وقد اتفق المسلمون على أن المصلي إذا عجز عن بعض واجباتها؛ كالقيام أو القراءة أو الركوع أو السجود أو ستر العورة أو استقبال القبلة أو غير ذلك سقط عنه ما عجز عنه، وإنما يجب عليه ما إذا أراد فعله إرادة جازمة أمكنه فعله. وكذلك الصيام اتفقوا على أنه يسقط بالعجز عن مثل الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، الذين يعجزون عن أداء وقضاء، وإنما تنازعوا هل على مثل ذلك الفدية بالإطعام؟ .....وكذلك الحج فإنهم أجمعوا على أنه لا يجب على العاجز عنه، وقد قال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . بل مما ينبغي أن يعرف أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي لم يكتفِ الشارع فيها بمجرد المُكنة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادرًا على الفعل مع ضرر يلحقه جُعل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة: كالتطهر بالماء، والصيام في المرض، والقيام في الصلاة، وغير ذلك تحقيقًا لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]
…
فمن قال: إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152](3) .
وقال أيضًا: "واتفقوا على أن العبادات لا تجب إلا على مستطيع، وأن المستطيع يكون مستطيعًا مع معصيته وعدم فعله، كمن استطاع ما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج ولم يفعله، فإنه مستطيع باتفاق سلف الأمة وأئمتها وهو مستحق للعقاب على ترك المأمور الذي استطاعه ولم يفعله لا
(1) هو: عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي، صحابي أسلم عام خيبر، نزل البصرة وكان قاضيًا بها، وتوفي بها سنة (52هـ) . انظر:"تهذيب الأسماء واللغات"(2/35) ، و"الإصابة في تمييز الصحابة"(3/27) .
(2)
رواه البخاري (2/587) برقم (1117) .
(3)
"مجموع الفتاوى"(8/438، 139، 440) .
على ترك ما لم يستطيعه" (1) .
7-
القدرة والاستطاعة من الألفاظ المجملة كما تقدم، لكن غلب على الفقهاء في إطلاقاتهم استعمال القدرة الشرعية لا الكونية.
قال ابن تيمية: "فالأولى هي الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس"(2) .
8-
الأفعال التي يكلف بها الإنسان لا تخرج عن أربعة أقسام (3) :
(الأول: الفعل الصريح كالصلاة.
(الثاني: فعل اللسان، وهو القول، والدليل على أن القول فعل قوله تعالى:{زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] .
(الثالث: الترك. والتحقيق أنه فعل، وهو: كف النفس وصرفها عن المنهي عنه، خلافًا لمن زعم أن الترك أمر عدمي لا وجود له، والعدم عبارة عن لا شيء، والدليل على أن الترك فعل: من القرآن قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] ، فسمى الله عدم تناهيهم عن المنكر فعلاً وذمهم على هذا الفعل فقال سبحانه: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (4) . فسمى ترك الأذى إسلامًا وهو يدل على أن الترك فعل.
(الرابع: العزم المصمم على الفعل. والدليل على أنه فعل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» ، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (5) . فالحديث يدل على أن عزم المقتول المصمم على قتل صاحبه فعل، دخل بسببه النار (6) .
(1)"مجموع الفتاوى"(8/479، 480) .
(2)
"مجموع الفتاوى"(8/373) .
(3)
انظر: "مذكرة الشنقيطي"(38، 39) .
(4)
رواه البخاري (1/53) برقم (10) ، ومسلم (2/10) .
(5)
رواه البخاري (1/84) برقم (31) ، ومسلم (18/10) .
(6)
وبذلك يعلم أن العبد لا يؤاخذ بالهم إلا إذا صار عزمًا واقترن به قول أو فعل لكنه عجز عن إتمام مراده بعد سعي منه واجتهاد، وهذا ما دل عليه الحديث السابق.
انظر: "مجموع الفتاوى"(14/120 – 123) ، وللاستزادة انظر المصدر السابق (10/720 – 769) .
9-
لا يثبت حكم الخطاب إلا بعد البلاغ، ولا يقوم التكليف مع الجهل وعدم العلم (1) .
قال ابن تيمية:
"وأيضًا فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسًا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية"(2) .
وقد ذكر ابن تيمية الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة (3)، فمن ذلك:
أولاً: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] .
ثانيًا: قوله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] .
ثالثًا: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59] .
رابعًا: حديث المسيء صلاته (4)، ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم علمه الصلاة المجزية ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك مع قول الرجل: ما أحسن غير هذا، وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة، لأن وقتها باقٍ فهو مخاطب بها.
قال ابن تيمية: "فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوب الطمأنينة في أثناء الوقت فوجبت عليه الطمأنينة حينئذٍ، ولم تجب عليه قبل ذلك، فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة ذلك الوقت دون ما قبلها"(5) .
خامسًا: حديث المرأة المستحاضة (6) التي قالت: إني امرأة أُستحاض
(1) وهذا عام لأصول الدين وفروعه. انظر (ص488- 491) من هذا الكتاب.
(2)
"مجموع الفتاوى"(12/493) .
(3)
انظر المصدر السابق (22/41) وما بعدها.
(4)
الحديث رواه البخاري (2/237) برقم (757) ، ومسلم (4/105) .
(5)
"مجموع الفتاوى"(22/44) .
(6)
وهي: حمنة بنت جحش، والحديث أخرجه أبو داود (1/76) برقم (287) ، وابن ماجه (1/205) برقم (627)، والترمذي (1/221) برقم (128) وقال:"هذا حديث حسن صحيح، وكذا قال الإمام أحمد".
حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني من الصلاة والصوم؟ فأمرها صلى الله عليه وسلم بالصلاة زمن الاستحاضة ولم يأمرها بالقضاء.
سادسًا: أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما الخيطان؟ قال: «إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين» ، ثم قال:«لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار» (1) . ولم يأمره بالإعادة.
10-
إذا ثبت أن الجهل عذر شرعي، فإن هناك آثارًا تترتب على ذلك منها:
أ- أنه لا يجوز تكفير الجاهل الذي لم تبلغه الرسالة، ولا تفسيقه.
ب- أن الجاهل لا يحكم عليه بدخول النار فضلاً عن الخلود فيها.
جـ- أنه يسقط عن الجاهل القضاء والإعادة إذا انقضى وقت الخطاب.
وإليك فيما يأتي شذرات من كلام ابن تيمية تقرر ذلك وتؤيده بالأدلة والشواهد:
قال رحمه الله: «وإذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه، إما لعدم تمكنه من العلم: مثل ألا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل لم يكن مأمورًا بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل، بمنزلة صلاة المريض والخائف والمستحاضة وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة، فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه، وبه أمروا إذ ذاك، وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أكمل وأفضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» (2) ..... ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به، علمًا واعتقادًا دون العمل» (3) .
(1) رواه البخاري (8/182) برقم (4509، 4510) ، ومسلم (7/200) .
(2)
رواه مسلم (16/215) .
(3)
"مجموع الفتاوى"(12/478، 479) .