الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: أقسام الاجتهاد
ينقسم الاجتهاد إلى أقسام متعددة، وذلك باعتبارات مختلفة، وبيان ذلك كما يأتي:
أولاً: ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى أهله إلى اجتهاد مطلق واجتهاد مقيد. وفي هذين القسمين تجتمع أقسام المجتهدين الأربعة الذي ذكرها ابن القيم (1)، وهي:
أ- مجتهد مطلق وهو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، يجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت.
فهذا النوع هم الذين يسوغ لهم الإفتاء والاستفتاء، وهم المجددون لهذا الدين القائمون بحجة الله في أرضه.
ب- مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، من غير أن يكون مقلدًا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا.
جـ- مجتهد مقيد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة.
بل نصوص إمامه عنده كنصوص الشارع، قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة، وقد كفاه إمامه استنباط الأحكام ومؤنة استخراجها من النصوص.
وشأن هؤلاء عجيب؛ إذ كيف أوصلهم اجتهادهم إلى كون إمامهم أعلم
(1) انظر: "إعلام الموقعين"(4/212 - 214) . ويلاحظ أن ابن القيم ذكرها باسم أنواع المفتين.
من غيره، وأن مذهبه هو الراجح، والصواب دائر معه، وقعد بهم اجتهادهم عن النظر في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واستنباط الأحكام منه، وترجيح ما يشهد له النص.
د- مجتهد في مذهب من انتسب إليه، فحفظ فتاوى إمامه، وأقر على نفسه بالتقليد المحض له، من جميع الوجوه، وذكر الكتاب والسنة عنده يكون على وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج به والعمل، بل إذا رأى حديثًا صحيحًا مخالفًا لقول من انتسب إليه أخذ بقوله وترك الحديث، فليس عند هؤلاء سوى التقليد المذموم.
قال ابن القيم في هذه الأقسام الأربعة:
ثانيًا: ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى المجتهد من حيث استيعابُه للمسائل أو اقتصاره على بعضها إلى مجتهد مطلق ومجتهد جزئي.
فالمجتهد المطلق: هو الذي بلغ رتبة الاجتهاد بحيث يمكنه النظر في جميع المسائل.
والمجتهد الجزئي هو الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، وإنما بلغ هذه الرتبة في مسألة معينة، أو باب معين، أو فن معين، وهو جاهل لما عدا ذلك.
وقد اختلف العلماء في جواز تجزئة الاجتهاد، والذي عليه المحققون من أهل العلم جوازه وصحته (2) .
قال ابن القيم: «الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل
(1)"إعلام الموقعين"(4/214، 215) .
(2)
انظر: "روضة الناظر"(2/406، 407) ، و"مجموع الفتاوى"(20/204، 212) ، و"مذكرة الشنقيطي"(312) .
مجتهدًا في نوع من العلم مقلدًا في غيره، أو في باب من أبوابه.
كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد، أو الحج، أو غير ذلك.
فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره.
وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه:
أصحها: الجواز، بل هو الصواب المقطوع به، والثاني: المنع، والثالث: الجواز في الفرائض دون غيرها.
فحجة الجواز: أنه قد عرف الحق بدليله، وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك حكمُ المجتهد المطلق في سائر الأنواع» (1) .
وقال أيضًا: «فإن قيل: فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين، هل له أن يفتي بهما؟
قيل: نعم، يجوز في أصح القولين، وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد، وهل هذا إلا من التبليغ عن الله وعن رسوله، وجزى الله من أعان الإسلام ولو بشطر كلمةٍ خيرًا. ومنع هذا من الإفتاء بما علم خطأ محض. وبالله التوفيق» (2) .
ثالثًا: ينقسم الاجتهاد بالنسبة لعلة الحكم إلى ثلاثة أقسام (3) :
تحقيق المناط (4) ، وتنقيحه، وتخريجه.
أ- فتحقيق المناط: هو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي، فينظر المجتهد في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان. كالأمر باستقبال القبلة
(1)"إعلام الموقعين"(4/216) .
(2)
المصدر السابق (4/216، 217) .
(3)
انظر: "روضة الناظر"(2/229 – 234) ، و"مجموع الفتاوى"(19/14 – 18) ، و"مذكرة الشنقيطي"(243 – 245) .
(4)
المناط لغة: موضع النوط، وهو التعليق والإلصاق. وفي اصطلاح الأصوليين يطلق على العلة. انظر:"مختار الصحاح"(685) ، و"قواعد الأصول"(82) ، و"الكليات"(873) .
واستشهاد شهيدين عدلين فينظر هل المصلي مستقبل القبلة؟ وهذا الشخص هل هو عدل مرضي؟
وهذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين بل بين العقلاء.
ب- وتنقيح المناط: وهو تهذيب العلة، فإذا أضاف الشارع حكمًا إلى سببه واقترن بذلك أوصاف لا مدخل لها في إضافة الحكم، وجب حذف الأوصاف غير المؤثرة عن الاعتبار وإبقاءُ الوصف المؤثر المعتبر في الحكم.
وذلك كأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي واقع أهله في رمضان بالكفارة (1) فعُلم أن كونه أعرابيًا، أو عربيًا، أو الموطوءة زوجته، لا أثر له في الحكم، فلو وطئ المسلم العجمي سريته كان الحكم كذلك، وهذا النوع قد أقر به أكثر منكري القياس.
جـ- وتخريج المناط: وهو القياس المحض، وهو أن ينص الشارع على حكم في محل، ولا يتعرض لمناطه أصلاً، كتحريم الربا في البر، فيجتهد المجتهد في البحث عن علة الحكم ومناطه بطريقٍ من طرق ثبوت العلة.
وهذا النوع هو الذي وقع فيه الخلاف المشهور في حجية القياس.
رابعًا: ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى كون المسائل المجتهد فيها جديدة أو متقدمة إلى قسمين:
مسائل لا قول لأحد من العلماء فيها، ومسائل تقدم لبعض العلماء فيها قول.
فالقسم الأول: وقع فيه خلاف بين العلماء، أما القسم الثاني: فلا خلاف في جواز الاجتهاد فيه.
والصحيح في القسم الأول الجواز (2) .
قال ابن القيم: «إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد العلماء، فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجوز، وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يسألون عن
(1) الحديث رواه البخاري (4/163) برقم (1936، 1937) ، ومسلم (7/224) .
(2)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(4/526) .
حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (1) . وهذا يعم ما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله، وما عرف فيه أقوالاً واجتهد في الصواب منها.
وعلى هذا درج السلف والخلف، والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث» (2) .
خامسًا: ينقسم الاجتهاد أيضًا بالنظر إلى المسائل المجتهد فيها من جهة وقوعها أو عدم وقوعها إلى قسمين: مسائل واقعة نازلة، ومسائل لم تقع.
وقد تقدم آنفًا الكلام على القسم الأول، أما القسم الثاني وهو الاجتهاد في مسائل لم تقع فهذا فيه تفصيل لأهل العلم سيأتي بيانه إن شاء الله في شروط الاجتهاد (3) .
سادسًا: ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى بذل الوسع فيه إلى قسمين: اجتهاد تام، واجتهاد ناقص، فالاجتهاد التام ما كان بذل الوسع فيه إلى درجة يحس فيها المجتهد من نفسه العجز عن المزيد، والاجتهاد الناقص ما لم يكن كذلك، فيدخل فيه النظر المطلق في الأدلة لمعرفة الحكم (4) .
ومعلوم أن المطلوب من المجتهد بذل غاية وسعه وطاقته كما سيأتي نقل ذلك عن الشافعي عند الكلام على شروط الاجتهاد (5) .
سابعًا: ينقسم الاجتهاد إلى صحيح وفاسد.
فالاجتهاد الصحيح هو الذي صدر من مجتهد توفرت فيه شروط الاجتهاد وكان هذا الاجتهاد في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد.
(1) رواه البخاري (13/318) برقم (7352) ، ومسلم (12/13) بلفظ آخر.
(2)
"إعلام الموقعين"(4/265، 266) ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في هذا الموضع أن الحق في هذه المسألة هو التفصيل، وهو: أن ذلك يجوز بل يستحب ويجب عند الحاجة وأهلية المفتي والحاكم، وإن عدم الأمران لم يجز، وإن وجد أحدهما دون الآخر جاز للحاجة دون عدمها.
(3)
انظر (ص476) من هذا الكتاب.
(4)
انظر: "روضة الناظر"(2/401) ، و"نزهة الخاطر العاطر"(2/401، 402) .
(5)
انظر (ص 473) من هذا الكتاب.