الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والكلام على هذا المبحث في النقاط الآتية:
1-
المراد بتعارض الأدلة:
تقابل الدليلين على سبيل الممانعة، وذلك إذا كان أحد الدليلين يدل على خلاف ما يدل عليه الآخر، كأن يدل أحد الدليلين على الجواز والآخر على المنع، فدليل الجواز يمنع التحريم ودليل التحريم يمنع الجواز؛ فكل منهما مقابل للآخر ومعارض له وممانع له (1) .
2-
قد يكون التعارض بين الدليلين كليًا أو جزئيًا فإن كان التعارض بين الدليلين من كل وجه بحيث لا يمكن الجمع بينهما فهذا هو التناقض، وهو التعارض الكلي. أما إذا كان التعارض بين الدليلين من وجه دون وجه بحيث يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه فهذا هو التعارض الجزئي.
وقد قرر العلماء أنه لا تناقض بين القضيتين إذا اختلف زمنهما لاحتمال صدق كل منهما في وقتها؛ لأنه يشترط في التناقض اتحاد القضيتين في الوحدات الثمان التي منها الزمان والمكان والشرط والإضافة.
فلا تناقض إذن بين الناسخ والمنسوخ، ولا بين العام والخاص، ولا بين المطلق والمقيد، وعلى وجه العموم حيث أمكن الجمع فلا تناقض، إذ التناقض هو الذي يستحيل معه الجمع بوجه من الوجوه، أما إن أمكن الجمع فإن هذا من قبيل التعارض الجزئي (2) .
3-
كتاب الله سالم من الاختلاف والاضطراب
والتناقض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق، قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ولهذا مدح الله تعالى الراسخين في العلم حيث قالوا:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ؛ أي: محكمه ومتشابهه حق (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه
(1) انظر: "الرسالة"(342) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/605) .
(2)
انظر: "أضواء البيان"(2/250، 251) .
(3)
انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/221) ، و"إعلام الموقعين"(2/294) ، و"تفسير ابن كثير"(1/542) .
بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» (1) .
4-
أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة مبرأة من التناقض والاختلاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من التناقض والاختلاف بإجماع الأمة، لا فرق في ذلك بين المتواتر والآحاد، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4](2) .
5-
وكذلك إجماع الأمة لا يمكن أن يتناقض، فلا ينعقد إجماع على خلاف إجماع أبدًا (3) .
6-
أما القياس فما كان منه صحيحًا فإنه لا يتناقض أبدًا (4) .
7-
إذا عُلم أن أدلة الشرع لا تتناقض في نفسها فإنها أيضًا لا تتناقض مع بعضها، بل إنها متفقة لا تختلف، متلازمة لا تفترق.
قال ابن تيمية: "وكذلك إذا قلنا: الكتاب، والسنة، والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد، فإن كل ما في الكتاب فالرسول موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة؛ فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب.
وكذلك كل ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك.
وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقًا موافقًا لما في الكتاب والسنة.
لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول.
وأما الرسول فينزل عليه وحي القرآن، ووحي آخر هو الحكمة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» (5) .
(1) رواه أحمد في "المسند"(2/181)، وصححه الألباني. انظر:"شرح العقيدة الطحاوية"(585) هامش رقم (1) .
(2)
انظر: "الرسالة"(210) ، و"الكفاية"(473) ، و"الفقيه والمتفقه"(1/221) ، و"مجموع الفتاوى"(10/289) ، و"إعلام الموقعين"(1/167) .
(3)
انظر ذلك فيما تقدم: (ص172، 173) من هذا الكتاب.
(4)
انظر: "إعلام الموقعين"(1/331) .
(5)
"مجموع الفتاوى"(7/40) ، والحديث تقدم تخريجه انظر (121) من هذا الكتاب.
وقال أيضًا: "......... كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع قد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص"(1) .
وقال أيضًا: "وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة"(2) .
وذلك لأن أدلة الشرع حق، والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا (3) .
8-
لا تعارض بين الأدلة الشرعية والعقل، بل إن العقل الصريح موافق للنقل الصحيح، إذ إن خالق هذا العقل هو الذي أنزل الشرع؛ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] (4) .
9-
إذا علم ذلك فما وجد من تعارض في أدلة الشرع فإنما هو بحسب ما يظهر للمجتهد (5) .
أما في حقيقة الأمر فلا تعارض ألبتة بين الأدلة الشرعية، كما تقدم تقريره قريبًا.
10-
إذا ظهر تعارض بين الأدلة الشرعية، فإن كان هذا التعارض بين خبرين فأحد المتعارضين باطل، إما لعدم ثبوته أو لكونه منسوخًا.
وإن كان التعارض بين الخبر والقياس فلا يخلو من أمرين:
إما أن يكون هذا الخبر غير صحيح.
وإما أن يكون القياس فاسدًا (6) .
(1)"مجموع الفتاوى"(19/195) .
(2)
المصدر السابق (19/200) .
(3)
انظر: "إعلام الموقعين"(1/331) .
(4)
انظر: "درء تعارض العقل والنقل"(1/144، 194) ، و"الصواعق المرسلة"(3/807، 810) ، و"مختصر الصواعق"(60، 90) ، وانظر (ص 98- 102) من هذا الكتاب.
(5)
انظر: "الكفاية"(474) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/617) ، و"مذكرة الشنقيطي"(316) .
(6)
انظر المصدرين السابقين.
11-
لا يقع التعارض بين دليلين قطعيين، سواء كانا عقليين أو سمعيين، أو أحدهما سمعيًا والآخر عقليًا، وهذا متفق عليه بين العقلاء؛ لأن تعارض القطعيين يلزم منه اجتماع النقيضين وهو محال (1) .
12-
ولا يقع التعارض بين قطعي وظني، إذ الظني لغو، والعمل إنما يكون بالقطعي، فإن الظن لا يرفع اليقين (2) .
13-
محل التعارض هو الظنيات، فيقع التعارض بين دليلين ظنيين (3) .
14-
إذا ظهر التعارض – وذلك إنما يكون بين دليلين ظنيين – فالواجب على الترتيب (4) :
أولاً: محاولة الجمع بينهما إن أمكن، ومن أوجه الجمع:
أ- حمل أحد الدليلين على حالة، وحمل الآخر على حالة أخرى، وهذا ما يُعرف بحمل العام على الخاص، أو حمل المطلق على المقيد.
ب- حمل أحد الدليلين على زمن، وحمل الآخر على زمن آخر، بحيث يكون المتأخر منهما ناسخًا للمتقدم.
ثانيًا: إذا لم يمكن الجمع فيصار إلى الترجيح بينهما، بوجه من وجوه الترجيح الآتي بيانها في المبحث التالي.
ثالثًا: إذا تعذر الترجيح ولم يمكن، فقيل: يتخير بينهما، وهذا القول يُضعفه أن التخيير جمع بين النقيضين (5) ، واطراح لكلا الدليلين (6) ، وكلا الأمرين
(1) انظر: "الكفاية"(474) ، و"روضة الناظر"(2/457) ، و"درء التعارض"(1/79) ، و"الصواعق"(3/797) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/607) .
(2)
انظر: "الكفاية"(474) ، و"روضة الناظر"(2/457) ، و"درء التعارض"(1/79) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/608) .
(3)
انظر: "الكفاية"(474) ، و"شرح الكوكب المنير"(4/616) ، و"مذكرة الشنقيطي"(316) .
(4)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(4/609 – 612) ، و"مذكرة الشنقيطي"(317) .
(5)
بيان ذلك: أن المباح نقيض المحرم فإذا تعارض المبيح والمحرم فخيرناه بين كونه محرمًا يأثم بفعله وبين كونه مباحًا لا إثم على فاعله كان جمعًا بينهما وذلك محال. انظر: "روضة الناظر"(2/433) .
(6)
بيان ذلك: أن الموجب والمحرم إذا تعارضا فالمصير إلى التخيير المطلق حكم ثالث غير حكم الدليلين معًا فيكون اطراحًا لهما وتركا لموجبهما. انظر المصدر السابق.
باطل (1) .
ولعل الصواب هو التوقف في هذين الدليلين، والبحث عن دليل جديد (2) . وهذا يوافق منهج السلف فإنهم كانوا يطلبون الدليل في القرآن، فإن لم يجدوه في القرآن طلبوه في السنة، فإن لم يجدوه في السنة طلبوه في الإجماع، وهكذا.... (3) .
ومعلوم أنه لا تخلو مسألة عن دليل وبيان من الشرع (4) ، علمه من علمه وجهله من جهله، والواجب على كلِّ تقوى الله بقدر المستطاع، والاجتهاد في طلب الحق ومعرفة الدليل.
15-
الواجب درء التعارض بين أدلة الشرع ما أمكن.
ومن الطرق المعينة على ذلك (5) :
أ- التثبت في صحة الدليل وثبوته، فالواجب الحذر من الأحاديث التي لا تقوم بها الحجة، والتنبه مما يدعي أنه إجماع وهو ليس كذلك، والتثبت من صحة الأقيسة.
ب- الاطلاع على مصادر الشريعة وتتبع الأدلة واستقراؤها، والنظر إليها مجتمعة. فلا بد من جمع العام مع الخاص، والمطلق مع المقيد، والناسخ مع المنسوخ، وهذا لا يتم إلا بتتبع نصوص الكتاب والسنة، ولو اقتصر على بعض ذلك لحصل التعارض، ولا بد من معرفة روايات الحديث وألفاظه فإن بعضها يفسر بعضًا، وكذلك القراءات الثابتة.
جـ- العلم بلغة العرب وما فيها من دلالات ومعانٍ، فإن فهم النص وسياقه، وعمومه وخصوصه، وحقيقته ومجازه مما يزيل كثيرًا من الإشكالات، ويدرأ كثيرًا من التعارضات.
(1) انظر: "روضة الناظر"(2/431 - 434) ، و"مجموع الفتاوى"(13/120) .
(2)
انظر: "جامع بيان العلم وفضله"(2/81) .
(3)
انظر ما سيأتي (279) من هذا الكتاب.
(4)
انظر: "روضة الناظر"(2/434) ، و"إعلام الموقعين"(1/333) .
(5)
ينظر للاستزادة: "منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد"(1/320 - 322) .