الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة: أن النهي يقتضي الفساد
وهذا ما عليه سلف الأمة، لا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات والعقود، ولا بين ما نُهي عنه لذاته أو لغيره، إذ كل نهيٍ للفساد، وهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين (1) .
ومن الأدلة على ذلك:
أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) ؛ يعني: مردود كأنه لم يوجد (3) .
ثانيًا: أن الصحابة استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها (4) ، وهذا أمر مشتهر بينهم من غير نكير فكان إجماعًا (5) .
ثالثًا: أن المنهي عنه مفسدته راجحة، وإن كان فيه مصلحة فمصلحته مرجوحة بمفسدته، فما نَهَى الله عنه وحرمه إنما أراد منع وقوع الفساد ودفعه؛ لأن الله إنما ينهى عما لا يحبه، والله لا يحب الفساد، فعُلم أن المنهي عنه
(1) انظر: "الرسالة"(347) ، و"روضة الناظر"(2/112) ، و"مجموع الفتاوى"(29/281، 25/282) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/84) ، و"أضواء البيان"(3/172، 173) ، و"مذكرة الشنقيطي"(201) .
(2)
سبق تخريجه انظر (ص188) من هذا الكتاب.
(3)
انظر: "روضة الناظر"(2/114) ، و"جامع العلوم والحكم"(1/177) .
(4)
من الأمثلة على ذلك:
أ- احتجاج ابن عمر رضي الله عنهما في فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات} ، وفي نكاح المحرم بالنهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب» . رواه مسلم (9/193) .
ب- استدلالهم على فساد عقود الربا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل» . رواه البخاري (4/379) برقم (2177)، ومسلم (11/9) . انظر:"روضة الناظر"(2/114) ، و"مجموع الفتاوى"(29/281، 282) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/85، 86) .
(5)
انظر: "روضة الناظر"(2/114) ، و"مجموع الفتاوى"(29/281، 282) ، و"شرح الكوكب المنير"(3/85، 86) .
فاسد ليس بصالح (1) .
قال ابن تيمية: «ولا يوجد قط في شيء من صور النهي صورة ثبتتْ فيها الصحة بنص ولا إجماع
…
» (2) .
ويمكن تفصيل قاعدة «النهي يقتضي الفساد» ببيان أقسام المنهي عنه، وذلك على النحو الآتي:
ينقسم المنهي عنه أولاً إلى ما نُهي عنه لأجل حق الله، وإلى ما نُهي عنه لأجل حق الآدمي (3) .
فالأول: كنكاح المحرمات، وبيع الربا. والثاني: كتحريم الخطبة على الخطبة، وبيع النجش، والكل فاسد، إلا أن القسم الثاني موقوف على إذن المظلوم؛ لأن النهي هنا لحق الآدمي، فلم يجعله الشارع صحيحًا لازمًا كالحلال، بل أثبت حق المظلوم وسلطه على الخيار، فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ (4) .
وينقسم ثانيًا إلى عبادات ومعاملات، والكل يقتضي الفساد، إلا ما كان من المعاملات من قبيل حق الآدمي فهذا موقوف على إجازة صاحب الحق كما تقدم.
وينقسم ثالثًا إلى ما نُهي عنه لذاته، لكونه يشتمل على مفسدة، بمعنى أنه محرم على أي صورة وقع، ولا يمكن أن يكون حلالاً، وذلك كتحريم الخمر والربا.
وإلى ما نُهي عنه لسد الذريعة، فهو إن جرد عن الذريعة لم يكن فيه مفسدة.
بمعنى أنه محرم على صورة معينة وصفة خاصة، لكن أصل الفعل
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(25/282، 29/282، 283) .
(2)
"مجموع الفتاوى"(29/283) .
(3)
ضابط حق الله ما ليس للعبد إسقاطه كالإيمان وتحريم الكفر، وضابط حق العبد ما لو أسقطه لسقط كالديون والأثمان. انظر:"الفروق"(1/140، 141) .
(4)
انظر: "مجموع الفتاوى"(29/283 – 285) ، و"جامع العلوم والحكم"(1/181) وما بعدها.
حلال، وذلك كالنهي عن الصلاة في أوقات النهي، والصوم يوم العيد (1) .
ويمكن أن نقول: إن النهي ينقسم إلى ما له جهة واحدة، وإلى ما له جهتان هو من إحداهما مأمور به ومن الأخرى منهي عنه، ومعلوم أن القسم الأول لا خلاف في اقتضائه للفساد.
والخلاف في القسم الثاني إنما وقع في انفكاك الجهة: فمن رأى أن الجهة منفكة بمعنى أن الفعل من حيث كونه مأمورًا به قربةٌ، ومن حيث كونه منهيًا عنه معصية، قال: إن النهي لا يقتضي الفساد، ومن رأى أن الجهة واحدة ليست منفكة بمعنى أن الفعل يقع محرمًا ولا يمكن أن يقع قربة، قال: إن النهي يقتضي الفساد والكل متفق على أن المنهي عنه إن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد (2) .
تنبيه: كون النهي يقتضي الفساد مشروط بأن يتجرد النهي عن القرائن، أما مع وجود القرائن فيختلف الحال؛ إذ يقتضي النهي ههنا ما دلت عليه القرينة، لذا فإن النهي إذا تجرد عن القرائن أفاد التحريم والفساد معًا في آن واحد (3) .
(1) انظر: "الرسالة"(343) ، و"مجموع الفتاوى"(29/288) .
(2)
انظر: "أضواء البيان"(3/171، 172) ، و"مذكرة الشنقيطي"(202) وانظر (ص302، 303) من هذا الكتاب.
(3)
انظر: "المسودة"(84) ، و"نزهة الخاطر العاطر"(2/112) .