الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعها: ثبت باستقراء موارد الإجماع أن جميع الإجماعات منصوصة.
جـ- اختلف العلماء في جواز استناد الإجماع إلى الاجتهاد أو القياس، فمنعه البعض وأجازه البعض (1) .
وبناءً على ما قرره ابن تيمية فإن هذا الخلاف يمكن إرجاعه إلى اللفظ؛ إذ كل مستدل يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأى دلالة النص ذكرها ومن رأى دلالة القياس ذكرها، والأدلة الصحيحة لا تتناقض، إلا أنه قد يخفي وجه اتفاقها أو ضعف أحدها على البعض، ومن ادعى أن من المسائل ما لا يمكن الاستدلال عليها إلا بالرأي والقياس فقد غلط، وهو على كل حال مخبر عن نفسه (2) .
وقد استدل من قال بالجواز بوقوع ذلك وذكر أمثلة على استناد الإجماع إلى الاجتهاد (3) ، إلا أن جميع هذه المسائل يمكن إرجاعها إلى دلالة النصوص العامة فتكون من قبيل المنصوص عليه، وهذا مما يعزز القول بأن الخلاف لفظي إذ الجميع متفق على ضرورة استناد الإجماع إلى دليل، وهذا الدليل - في مسألة ما - قد يعتبره البعض اجتهادًا، ولكن البعض يعتبره نصًا (4) .
المسألة السادسة: الأحكام المترتبة على الإجماع
إذا ثبت الإجماع فإن هناك أحكامًا تترتب عليه:
أولاً: وجوب اتباعه وحرمة مخالفته. وهذا معنى كونه حجة.
قال ابن تيمية: "وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن
(1) انظر: "مختصر ابن اللحام"(78) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/261) .
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(19/199، 200) .
(3)
انظر المصدر السابق (19/195) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/261، 262) .
(4)
كإجماع الصحابة رضي الله عنهم على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فبعضهم يرى أن مستند هذا الإجماع النص الجلي، وبعضهم يرى أن مستند ذلك القياس. انظر:"شرح العقيدة الطحاوية"(473) وما بعدها.
لأحد أن يخرج عن إجماعهم" (1) .
ويترتب على هذا الحكم ما يأتي:
أ- لا يجوز لأهل الإجماع أنفسهم مخالفة ما أجمعوا عليه (2) .
ب- ولا تجوز المخالفة لمن يأتي بعدهم (3) .
ثانيًا: أن هذا الإجماع حق وصواب، ولا يكون خطأ (4) .
ويترتب على هذا الحكم ما يأتي:
أ- لا يمكن أن يقع إجماع على خلاف نص أبدًا (5) .
فمن ادعى وقوع ذلك فلا يخلو الحال من أمرين:
الأول: عدم صحة وقوع هذا الإجماع؛ لأن الأمة لا تجتمع على خطأ، ومخالفة النص خطأ.
والثاني: أن هذا النص منسوخ، فأجمعت الأمة على خلافه استنادًا إلى النص الناسخ.
قال ابن القيم: "ومحال أن تجمع الأمة على خلاف نص إلا أن يكون له نص آخر ينسخه"(6) .
ب- ولا يمكن أيضًا أن يقع إجماع على خلاف إجماع سابق، فمن ادعى ذلك فلا بد أن يكون أحد الإجماعين باطلاً، لاستلزام ذلك تعارض دليلين قطعيين (7) وهو ممتنع (8) .
جـ- ولا يجوز ارتداد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كافة، لأن الردة أعظم الخطأ، وقد ثبت بالأدلة السمعية القاطعة امتناع إجماع هذه الأمة على الخطأ والضلالة (9) .
(1)"مجموع الفتاوى"(20/10) .
(2)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(2/249) .
(3)
انظر: "الرسالة"(472) .
(4)
انظر المصدر السابق، "الفقيه والمتفقه"(1/154) ، و"مجموع الفتاوى"(19/192) .
(5)
انظر: "مجموع الفتاوى"(19/201، 257، 267) .
(6)
"إعلام الموقعين"(1/367) وانظر (ص248) من هذا الكتاب.
(7)
فيما إذا كان الإجماعان المتعارضان قطعيين.
(8)
انظر: "شرح الكوكب المنير"(2/258) .
(9)
انظر المصدر السابق (2/282) .
د- ولا يمكن للأمة أيضًا تضييع نص تحتاج إليه، بل الأمة معصومة عن ذلك، لكن قد يجهل بعض الأمة بعض النصوص، ويستحيل أن يجهل ذلك كل الأمة (1) .
قال الشافعي: "لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جُمع علم أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره"(2) .
وقال أيضًا: ".....ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تعزب عن عامتهم وقد تعزب عن بعضهم"(3) .
وتتعلق بهذا الحكم مسألتان في باب الإجماع (4) :
(المسألة الأولى: إذا اختلف الصحابة على قولين فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث يخرج عن قولهم (5) .
لأن في ذلك نسبة الأمة إلى ضياع الحق والغفلة عنه، وهو باطل قطعًا كما تقدم آنفًا، وفيه أيضًا القول بخلو العصر عن قائم لله بحجته، وأنه لم يبق من أهل ذلك العصر على الحق أحد، وهذا باطل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (6) .
أما إحداث تفصيل لا يرفع ما اتفق عليه القولان فليس هذا من قبيل مسألتنا إذ لا يعد هذا التفصيل قولاً جديدًا (7) .
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(19/201) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/285) .
(2)
"الرسالة"(42، 43) .
(3)
المصدر السابق (472) .
(4)
القدر الجامع بين هاتين المسألتين هو: أن اختلاف الصحابة أو أهل عصر من العصور على قولين هل يعد إجماعًا على هذين القولين أو لا يعد كذلك؟ وقد بني على اعتباره إجماعًا مسألتان.
أ- أنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث.
ب- أنه لا يجوز لمن بعدهم الإجماع على أحد القولين.
(5)
انظر: "الرسالة"(596) ، و"الفقيه والمتفقه"(1/173) ، و"روضة الناظر"(1/378) .
(6)
انظر (484) من هذا الكتاب.
(7)
مثال القول الثالث الذي يرفع ما اتفق عليه القولان، أن يقول البعض: إن الجد أب يحجب الأخ، وأن يقول البعض الآخر: إن الجد والأخ يرثان؛ فكان هذان القولان إجماعًا على أن للجد نصيبًا، فالقول بأن الأخ يحجب الجد خرق لهذا الإجماع. ومثال القول الثالث الذي لا يرفع ما اتفق عليه القولان، أن يقول البعض في متروك التسمية: يؤكل مطلقًا ويمنعه البعض الآخر مطلقًا، فالقول بأنه يؤكل في ترك التسمية نسيانًا لا عمدًا تفصيل لأنه وافق كلاً من القولين في شيء، ولم يخالفهما جميعًا، فهو في حالة النسيان وافق المجوزين، وفي حالة العمد وافق المانعين. انظر:"مذكرة الشنقيطي"(156، 157) .
وإذا كان لا يجوز إحداث قول ثالث فيما إذا اختلفت الأمة على قولين، فألا يجوز إحداث تأويل ثالث في معنى آية أو حديث فيما إذا اختلفت الأمة في تأويلها أو تأويله على قولين أولى.
إذ تجويز ذلك معناه أن الأمة كانت مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وأن الله قد أنزل الآية وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون، لأن كلا القولين خطأ والصواب هو القول الثالث الذي لم يقولوه، اللهم إلا إن كان المراد من إحداث تأويل ثالث إيراد معنى تحتمله الآية أو الحديث من غير حكم بأنه المراد، فهذا جائز؛ إذ ليس فيه نسبة الأمة إلى تضييع الحق والغفلة عن الصواب والإجماع على الضلالة والخطأ.
فالمحذور هو أن تكون الأمة قد قالت: إن هذه الآية أو الحديث لا يراد بها أو به إلا هذا المعنى أو هذا المعنى، فيكون القول الثالث تجويزًا لخفاء مراد الله عن كافة الأمة وهذا ممتنع قطعًا (1) .
أما إحداث دليل لم يستدل به السابقون فإن هذا جائز لأن الاطلاع على جميع الأدلة ليس شرطًا في معرفة الحق، إذ يمكن معرفة الحق بدليل واحد وليس في إحداث دليل جديد نسبة الأمة إلى تضييع الحق بخلاف مسألة إحداث قول ثالث (2) .
(المسألة الثانية: إذا اختلف الصحابة (3) في مسألة على قولين، لم يجز
(1) انظر: "مجموع الفتاوى"(13/59، 60) .
(2)
انظر: "روضة الناظر"(1/378، 379) .
(3)
انظر: "الفقيه والمتفقه"(1/173) ، و"روضة الناظر"(1/376) ، و"مجموع الفتاوى"(13/26) ، و"شرح الكوكب المنير"(2/272) .
للتابعين الإجماع على أحدهما؛ لأن في انعقاد هذا الإجماع نسبة الأمة إلى تضييع الحق والغفلة عن الدليل الذي أوجب الإجماع.
ولأن نزاع الصحابة واختلافهم لا يمكن أن يكون على خلاف الإجماع، فلا يصح انعقاد إجماع يخالفه بعض الصحابة، لأن المسائل على نوعين:
نوع للصحابة فيه قول أو أقوال، فيجب في مثل هذا النوع اتباع ما عليه الصحابة من إجماع واختلاف، ولذلك بوب الخطيب البغدادي بقوله:«باب القول في أنه يجب اتباع ما سنه أئمة السلف من الإجماع والخلاف، وأنه لا يجوز الخروج عنه» (1) .
والنوع الآخر من المسائل هو المسائل الحادثة بعد الصحابة، والتي لم ينقل فيها للصحابة كلام، ففي مثل هذا النوع يجوز لمن بعدهم الإجماع، ويجوز لهم الاختلاف في إطار الدليل الشرعي.
ولأجل ذلك كان الموقف الصحيح من اختلاف الصحابة هو التخير من أقوالهم بالدليل، واعتبار هذه المسألة التي اختلف فيها الصحابة من مسائل الاجتهاد التي ترد إلى الدليل.
قال ابن تيمية: "فإنهم [يعني السلف] أفضل ممن بعدهم، ومعرفة إجماعهم، ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم.
وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصومًا، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه" (2) .
إذا تقرر ذلك فإنه لا يُسلم وقوع إجماع على أحد قولي الصحابة، فمن ادعى وقوع ذلك فلا يخلو الحال من أمرين:
الأول: أن هذا الخلاف لم يستقر بين الصحابة رضي الله عنهم ولم يشتهر عنهم، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإجماع على أحد قولي الصحابة يكون صحيحًا
(1)"الفقيه والمتفقه"(1/173) .
(2)
"مجموع الفتاوى"(13/24) .